ثَم تقليد معرفي ظهر قبل حوالي نصف قرن من الزمان في الأوساط الأكاديمية الغربية، وهو تقليد مراجعة كافة المسلَّمات المعرفية والتاريخية التي بُني عليها تخصُّص أكاديمي ما، لا بالإفادة مما يتكشَّف من حقائق ووثائق جديدة كل يوم فحسب، بل بإعادة تمحيص وقراءة وتأويل الحقائق المتاحة، والنظر فيها من زوايا جديدة. وهو تقليدٌ ترسَّخ على الخصوص في حقلي الدراسات الدينية والتاريخية، إضافة إلى الدراسات الماركسية، فضلًا عن الدراسات الأدبية إذ يُعيد بناء السرديات المشهورة من خلال تغيير بعض عناصر البيئة المحيطة أو شخصيات العمل الأدبي، لتمحيص الرؤية التي يكشِفها العمل في صورته الأصلية.

ورغم أن تقليد المراجعة في حقل الدراسات الإسلامية في الغرب قد عمد على سبيل المثال لمراجعة وتمحيص كل ثوابت هذا الحقل، التي استقرَّت منذ عهد أبي الدراسات الإسلامية في الاستشراق الحديث إغناز غولدتزيهر؛ وأفرز بعض السرديات «الجديدة»المنكِرَة لكثيرٍ من ثوابِت الإسلام التاريخية التي أقرَّ بها الرعيل الأول من المستشرقين، كما نجد مثلًا في أكثر إنتاج جون وانسبرو وتلميذيه باتريشا كرون ومايكل كوك؛ بل وتمادى بعض الدارسين الألمان والهولنديين إلى حد إنكار وجود النبي، صلى الله عليه وسلم، أصلًا، إلا أن هذا التقليد بتنويعاته قد أثمر مجموعة من الأفكار والمنهجيات النقدية التي تستحِق العناية، خصوصًا فيما يخُص الدراسات التاريخية؛ بغض النظر عن إساءة بعض أغرار العرب توظيفها في قراءة الوحي المعصوم وتأويله كنصٍ تاريخي.

ولعل أهمية هذا التقليد في حقل الدراسات التاريخية تفوق أهميته في ما عداه من حقول المعرفة، على الأقل بالنسبة للمسلمين المحدَثين؛ وما ذلك إلا لأن حقل الدراسات التاريخية الحديث يحفَل بعددٍ كبيرٍ من السرديات الأيديولوجية والسرديات الأيديولوجية المضادة، والتي صاغها «آباء الاستقلال» والرعيل الأول من النخب ما بعد الكولونيالية وخصومهم من شتى المشارِب، بالتزامُن مع تسلُّم هؤلاء «اﻵباء»حُكم الدول القومية الحديثة من الاستعمار الغربي المباشر. وقد وَرِث الإسلاميون المعاصِرون تلك السرديات ابتداءً من سبعينيات القرن العشرين، بغير تبصُّرٍ ولا تمحيصٍ؛ بوصفها مُسلماتٍ تاريخية لا يأتيها الباطل، بل عمدوا كذلك لأسلمة بعض تلك السرديات المتهافِتة بصورةٍ فائقة الابتذال.


ولعل المتأمِّلُ المتفحِّصُ لجوهر أكثر السرديات التاريخية التأسيسية السائدة بين الدارسين العرب في القرن العشرين، حتى عن حقبة الإسلام المبكِّر؛ يجدها تطوي عناصر شديدة التوحُّش من الأيديولوجيات القومية بتنويعاتها، سواء منها الناصرية أو البعثية أو حتى الصياغات العرقية والقبلية والجهوية. بل سيجد أن جمهرة سرديات الإسلاميين مُشبعة بصورةٍ فجَّةٍ بمثل هذه العناصِر، وفي مقدِّمتها السردية السلفية التي شرِبَت من معين الخلفية القومية الشعوبية لشخصيات مثل محب الدين الخطيب.[1]

كذا سيجد أن جمهرة السرديات الشائعة بين الأعراق المسلمة الأخرى -مثل الفرس والكرد والتُرك والبشتون- تطوي بدورها عناصر قومية أشد ضراوة من تلك التي تطويها السرديات العربية، لتتلاقى أكثر السرديات العربية والعجمية في رافدٍ واحدٍ هو عين الكابوس الاستئصالي «الحديث»الذي تغذَّت منه الأيديولوجيات النازية والفاشية والصهيونية، الحالمة بطوبيا أرض الميعاد، وبالدولة النقية عرقيًا وأيديولوجيًا، والتي يتحقَّق فيها وبها الشعب العضوي الموهوم. وحتى في البلدان حديثة التشكّل أو تلك التي تشتهِر بتنوعٍ إثني وديني/مذهبي، فستجدُ أن السردية القومية تتخِذُ شكل هويةٍ «قوميةٍ»مُستحدَثة تتستَّر بغلالةٍ من «الوطنية»، في محاولة لتلفيق هوية حداثية تجمع سائر القوميات المتشظية.

كذا تتلاقى هذه السرديات في كم القداسة الذي تُسبِغُهُ على «آباء الاستقلال»، إذ تجعل منهم بداية للتاريخ، وأحيانًا نهاية له؛ وترسم لهم صورا مشيحانية/مهدوية لا إنسانية بوصفهم مُخلِّصين موعودين لاستنقاذ شعوبهم من أسر الاستعمار ومن أغلال اﻵخر الديني أو الأيديولوجي أو العرقي. وفي حين تبنَّى الإسلاميون عين السرديات الوثنية التي شبّوا على لوكها بلا نُقصان، فإنهم قد طوَّروا في أحيانٍ كثيرةٍ سرديات موازية لا تُنكِرُ المسلمات الأيديولوجية المقدَّسة للدول القومية الحديثة، وإنما تُعيد إنتاج السرديات عينها بعد تقويض مركزية آباء الاستقلال، والدفع بالهوية المتخيَّلة للشعب العضوي إلى المركز لتَحِل محل المنقِذ (الزعيم الملهَم). وإذا كان النزوع الأول مفهومًا، بما أن آباء دول قومية مثل پاکستان وماليزيا والسعودية لم يكونوا «مُعادين»للإسلاميين صراحةً واحتووا قطاعات واسعة منهم وأعادوا صناعة قطاعات أخرى، بل وكانت مشروعاتهم بالأساس توظيفًا للإسلاميين ولبعض ديباجاتهم في التمكين لمشروعات سلطوية؛ إلا أن النزوع الثاني (خصوصًا في دول مثل تركيا ومصر والعراق) أكثر حاجة للتحليل النفسي والسوسيولوجي ليتيسَّر فهمه والوقوف على حقيقة تكوينه، بسبب طبيعة العلاقة المركَّبة بين الطرفين؛ وهو ما لا يتسع له المقام بحال.

لكن ثم معلما شديد الأهمية لهذا النزوع الثاني يتعيَّن علينا الوقوف عنده، وهو المُبرر المعلَن والأشهر على الإطلاق بين الإسلاميين في بعض تلك الدول، والذي حدا بهم لنزع «شرف»أبوة الدولة القومية الحديثة عن شخصيات أمثال مصطفى كمال أتاتورك أو جمال عبد الناصر أو صدام حسين. ولعلنا بصدد حيلة نفسية طهورية طوَّر منها الإسلاميون حُجَّتهم الأشهر لتبرير القمع غير الإنساني الذي اصطلوه تحت هؤلاء الحكام، وهي حجة مفادها عداء هؤلاء الحكام للإسلام (بسبب عدائهم للإسلاميين!)، بل والتمادي لدرجة نسج القصص حول تحدُّر هؤلاء الحكام من أصول يهودية![2]

وغني عن القول إنها حُجة أيديولوجية متهافتة، وذات مقدرة تفسيرية معدومة تقريبًا، حتى في حالة الإجراءات الدولتية المتطرِّفة التي تجتث مظاهر الإسلام من المجال العام، كحالة مصطفى كمال الذي أخضع الدين عمليًا للدولة الحديثة بوصفه إحدى أدواتها، وهو في ذلك لم يُجاوِز كثيرًا جوهر ما فعله محمد الفاتح حين استنسخ منصِب شيخ الإسلام من المسيحية وأسكنه داخل هرمية دولته السلطانية للهيمنة على الدين وتوظيفه في توطيد سلطانه، وإن ظل الفارق بينهما هو محاربة أتاتورك لمظاهر التديُّن في المجال العام بينما شجَّعها الفاتح. ويبدو الجهل بحقيقة الإسلام أكثر تفسيرية في السياق التحديثي الذي تتألَّه فيه الدولة وتُهيمن على كل شيء، جهلًا يجعل من الإسلام صورة ممسوخة من المسيحية في سياقٍ تحديثي هلوع استوردت أدواته وتصوراته وأحلامه من بيئة مسيحية ما بعد عصر النهضة.

إن أكثر الحكام الموصومين بخيانة الإسلام والعداء له قد ترعرعوا في غمار التحديث الذي اضطلع به خلفاء وسلاطين «الدولة الإسلامية»، وسواء نشؤوا في قلب الدولة العثمانية مثل أتاتورك أو في ولاية «مستقلة»نسبيًا مثل عبد الناصر وبورقيبة؛ فإنهم أبناء التحديث العثماني وبعض تجلياته المريرة. ورغم ذلك، فقد كان إدراك هؤلاء الحكام ما بعد الكولونياليين لعمق تجذُّر الإسلام في وجدان شعوبهم شديد الوضوح، حتى لو كانوا يُدرِكونه في إطار شعاراتي هوياتي بعيد البعد كله عن ركن التمثُّل والانصياع للوحي والموحى إليه.

وربما كان الشاهِد على ذلك هي حقيقة توظيفهم جميعًا للدين في خدمة سلطانهم. وإذا كانوا يلتقون جميعًا في إخضاع الدين للدولة، فإنهم يتفاوتون في حجم توظيفهم له في المجال العام. وفي حين كان استخدام مصطفى كمال وبورقيبة للدين في المجال العام معدومًا تقريبًا، فإن عبد الناصِر قد وظَّف الأزهر توظيفًا كثيفًا في سياسته الخارجية، فدشَّن مثلًا جماعة التقريب بين المذاهب مع محمد رضا بهلوي لتوظيفها ضد خصومهم الشيوعيين في العراق. وكما وظَّف عبد الناصر الأزهر في الداخل لترجيح كفته في صراعه ضد الإخوان المسلمين، فإن شاه إيران حاول أن يضرب انتفاضة آية الخميني مبكرًا ببقية علماء الحوزة، لكنه فشل فيما نجح فيه عبد الناصر لأسباب كثيرة لعل أهمها الاستقلال الاقتصادي التام لعلماء الحوزة عن الدولة، وأنهم مثلوا قيادة اجتماعية حقيقية ذات ثقل مواز لثقل الدولة، في حين كان العلماء السُنة -وما زالوا- محض أسارى للدولة التي تُطعِمُهم. ورغم ذلك، تظل مؤثِّرات التحديث في السياقين مُتقارِبة، وإن اختلفت مآلاته بسبب اختلاف التركيبة الاجتماعية وحجم تغلغُل التحديث في «المؤسسة»الدينية. أما صدام حسين، فقد وظَّف الإسلام هو اﻵخر بعد مزجه بعناصِر قومية بعثية، خصوصًا في عدوانه على إيران؛ وكان أحد تجليات ذلك استخدامه الإعلامي الكثيف والمنهجي لديباجات شعوبية تستدعي الفتح الإسلامي لفارِس بوصفه معركة «قومية»، فضلًا عن استخدامه لبعض الإسلاميين المؤدلجين أمثال سعيد حوى.

لقد كُتِب تاريخ الناصرية تحت ضغط السادات الذي كان يُريد التحلّل بسرعة من حماقات الميراث الأيديولوجي الناصري، ومن ثم خرج المنتج استقطابيًا مشوهًا؛ إما لاعنًا كفر عبد الناصر أو مُسبِّحًا بحمده. وهو ما حدث بدرجةٍ ما مع الهاشميين في الثلث الأخير من القرن العشرين. وكما أطلق السادات ألسنة الإسلاميين في سب سلفه نكاية في صبية الناصرية، فقد وظَّف السعوديون بعض هؤلاء الإسلاميين لأداء نفس المهمة مع الهاشميين؛ لتستقِر صورة حكام الأردن في الذهن العام بوصفهم ورثة الخيانة كابرًا عن كابِر، ودون مُبررٍ واضح؛ كأنه خللٌ بيولوجي وحتمية ماديّة لا مفر منها! والحق أن المتأمِّل في رسائل الشريف حسين ومكماهون يُدرِك للوهلة الأولى أنه حوار بين عصرين وسياقين وعالمين لم ولن يلتقيا، ويُدرك كم كان الشريف غرًا حين خاض غمار عالم لا يعرِفه بأدوات لا تؤهله لشيء. هذه السذاجة التي تجاوزها ابنه عبد الله فوهبه الإنجليز إمارة شرق الأردن التي صارت مملكة فيما بعد، كما تجاوزها عبد العزيز آل سعود إذ أدرك شرط تمتعه بدعم الأجانب، وهو أن يصير محض ملك جبري يؤسس دولة قومية قُطرية داخل حدود الجزيرة، أما أحلام الخلافة الإسلامية التي كانت تضطرم بها صدور إخوان نجد، والتي تتجاوز خطط الأجانب في إعادة تشكيل النظام العالمي؛ فقد شَهِد عبد العزيز بنفسه كيف قوَّضوها حين سمحوا له بالتغلُّب على الشريف حسين وأبنائه؛ فآثر استقرار مُلكه.

وبعد إلغاء «الخلافة العثمانية»كان للشيخ مصطفى المراغي محاولات مُتجددة إبان ثلاثينيات القرن العشرين لإحياء المنصب السياسي تحت خليفة مصري، وتحديدًا تحت فاروق الذي كان يعتبره تلميذه. وقد كانت حقبة تولي المراغي للمشيخة ذروة النفوذ الاجتماعي والسياسي الأزهري، ولحظته النماذجية في القرن العشرين قبل التأميم الناصري؛ فسعى للاتصال بالشيعة الإثنا عشرية (خصوصًا في العراق) والإسماعيلية يُمثِّلهم الأغاخان (في شبه القارة الهندية)، وذلك للحصول على تأييدهم في مسعاه لمبايعة خليفة مصري. ومن ثم لم يكن مُستغربًا بعد الفشل الذريع الذي مُنيت به كل حركات بعث وإحياء الخلافة بما فيها محاولة المراغي، وبعد وفاة محمد إقبال وصعود نجم محمد علي جناح؛ أن يصير أغاخان الإسماعيلية واحدًا من أعلى الأصوات الداعية لتقسيم شبه القارة الهندية، وتأسيس دولة «قومية»للمسلمين، ومن ثم صار أكثر الممولين سخاءً للنشاط السياسي الانفصالي للمسلمين، والذي جسَّدته حركة پاکستان تحت قيادة جناح الذي تحدَّر هو اﻵخر من أسرة شيعية إسماعيلية، وإن عُرف بعدم مبالاته بالدين.

إلا أن حركة پاکستان نفسها لم تنشأ مع محمد علي جناح، وإن اكتسبت صورتها الأخيرة على يديه. بل تعود جذورها إلى سير سيد أحمد خان، الذي ساعده البريطانيون على إنشاء الكلية المحمدانية الأنغلو-شرقية في عليگره. وقد اشتهر مسعاه لخلق طبقة من المسلمين الموالين لإنجلترا باسم: «حركة عليگره»، والتي تحوَّلت عام 1920م إلى: جامعة عليگره «الإسلامية»، وذلك بفضل سخاء الأغاخان الإسماعيلي الثالث. وتُعتبر الجامعة قلب حركة التحديث «الإسلامي»في الهند. لقد كانت الحركة مُسيَّسة كُليًا ومُوالية للبريطانيين، واشتهرت بسبقها في ترويج التعليم الحديث وإفشاء اللغة الإنجليزية بين مُسلمي الهند (إضافة إلى محاولاتها تبسيطاللغة الأردية وتخليصها من التعقيدات الأسلوبية والزخارف البلاغية، ولاحظ أن العبث بلغات إسلامية أخرى حدث بصورةٍ متوازية تقريبًا في إيران وتركيا ومصر!)، لذا؛ ظهرت دار العلوم ديوبند كرد فعل «سلفي»مضاد لعليگره. وقد ظل خطاب الحركة جامعًا للأعراق والأديان حتى عام 1939م (بعد وفاة محمد إقبال بعامٍ واحد)، حين تحوَّلت إلى حركة انفصالية إسلاميةبقيادة محمد علي جناح، وصارت الجامعة مركزًا لما عُرِف لاحقًا باسم: حركة پاکستان(بالأردية: تحریک پاکستان)، والتي تمخَّضت بعد ذلك عن التقسيم الكارثي لشبه القارة الهندية، وتأسيس أول دولة قومية مسلمة في العصر الحديث: پاکستان.

ويبدو أن تغلغل النفوذ السعودي – الوهابي في پاکستان إبان السبعينيات والثمانينات، من خلال جماعة المودودي وتمويل الجهاد الأفغاني؛ كان محاولة سعودية لمحاصرة النفوذ الشيعي في پاکستان، خصوصًا بعد انتصارالثورة الإسلامية في إيران. وهو ما أدى لتزايُد الاقتتال الطائفي بين السنة والشيعة في پاکستان الإسلاميةعما كان عليه في الهند تحت الاستعمار البريطاني!


إن كتابة التاريخ صيرورة لا تنتهي. لا تنتهي لأنها تسعى دومًا لإسقاط الماضي على الحاضر وقراءة الأنماط الحركية الإنسانية المتجددة في ضوء الخبرة التاريخية الحيّة التي لا يُمكننا أبدًا إدراك كل عناصرها. هذا القصور في الإدراك عينه هو ما يجعل عملية تجديد الكتابة التاريخية ضرورة أبدية تحفظ تركيبية إدراكنا للواقع وللتجربة التاريخية، وتحفظ حيوية الوعي التاريخي؛[3] وتُبطئ انزلاقنا للأدلجة. ذلك أن التوقُّف عن عملية التأريخ مثله مثل التوقُّف عن الاجتهاد فيما لم يرِد فيه نص؛ استكانة للتأويلات المتحقِّقة وللحركة المسبقة، ومحاولة لتحقيق تجانُس أكبر في السرديات المألوفة حتى تصير هذه السرديات عينها جزءًا من الوجود المادي، بل تصير مصدرًا للوجود المادي ومصدرًا للتشريع يحِل محل الوحي المعصوم لا إراديًا.

وكلما تجانَست السردية؛ انغلقت، وتوهَّم مُعتنقها اكتفاءً لا يُغني في ظنه عن إعادة التأويل والقراءة فحسب، بل يُغني عن الحركة الإنسانية التي تُسهِم في تجدُّد القراءة وتجدُّد التأويل؛ فيخلُد إلى الأرض ويتبع الهوى مُجتهدًا في أسلمة مظاهر الشرك، وهو يحسب أنه يُحسِن صُنعا. إن التجانُس السردي الخبيث يجعل العدو التاريخي عدوًا لأنه شيطان، والحليف حليفًا لأنه من الملائكة؛ لينتفي وجود التركيبية الإنسانية والأسوة الإنسانية في الواقع كما انتفى من السردية التاريخية المتجانِسة بلا نتوء أو بروز. إن الأمة التي تُروم الخروج من القوة إلى الفعل لا بُد لها من أسوة تاريخية حيّةٍ تحدوها، أسوةٍ يُمكن التعلُّم منها واحتذاؤها، التعلُّم من أخطائها وضعفها قبل احتذائها فيما سُدِّدت فيه وتسامت به على ضعفها. لهذا أرسل الله لنا الرسل من بني آدم، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ويُمكن احتذاء فعلهم، ولم يُرسل ملائكة تقعُد بشريتنا عن اللحاق بهم.


[1]تشرَّب الخطيب ومحمد كرد علي وكثير من أبناء جيلهما هذا المؤثر الشعوبي المعادي للعجم في حلقة الشيخ طاهر الجزائري في دمشق، وقد كان الأخير شديد العداء للأتراك وصاحب أيديولوجية قومية عربية مضادة لأيديولوجية الاتحاد والترقي الطورانية. وهذا قد يفسر عمل الخطيب بادئ ذي بدء لحساب الشريف حسين في طلب الخلافة «العربية»، قبل أن يجهر بالعداء له وينقل ولاءه للسعوديين «المنتصرين للعروبة». وقد تفاقَم عداء الخطيب الكامن للعجم لاحقًا فشمل الإيرانيين، ثم اتسع نطاقه حتى صار يتوهَّم التشيُّع هرطقة فارسية، رغم الثابت من نشأة التشيُّع وتطوره في سياق عربي طوال تسعة قرون تقريبًا، وذلك حتى بزوغ الدولة الصفوية (التركية!) في القرن السادس عشر الميلادي.

[2]وهو ما كرره الإخوان في مصر ثانية مع عبد الفتاح السيسي، ببلاهة منقطعة النظير؛ فبعد أن كانوا يقسمون بأغلظ الأيمان أنه أخ مخلص أمين (كما كانوا يحسبون عبد الناصر!)؛ اتهموه بعد الانقلاب بأن أمه يهودية!

[3]راجع مقالنا المعنون: «معالم الوعي التاريخي القرآني»، على هذا الموقع.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.