محتوى مترجم
المصدر
Springer
التاريخ
2009/11/30
الكاتب
Bruce R. Scott

تتبع المؤرخون، وأبرزهم «فرنان برودويل» في مجلداته الثلاثة «الحضارة المادية والاقتصاد والرأسمالية»[1]، أصول مصطلح الرأسمالية حتى منتصف القرن التاسع عشر. ومع ذلك، فقد انتشرت السمعة السيئة للمصطلح بعد عقود قليلة لاحقة، بفعل الاشتراكيين الذين استخدموا المصطلح لتوصيف كل ما يكرهونه من أعمال الأسواق الحرة.

وكان «كارل ماركس»، الذي يمكن اعتباره واحدًا من أبرز الاشتراكيين على مر الزمن، قد استخدم المصطلح ليشير لنظام الأسواق التي كان يرى أنها تحابي الرأسماليين على حساب المجتمع [2]. وكانت نظريته بالطبع محدودة بالخبرة التاريخية لزمنه الخاص، ولنظرته الخاصة لهذا التاريخ.

فعندما كان يكتب، كانت الأسواق تبدو وقد وضعت الرأسماليين حتميًا ضد البروليتاريا، دون أهمية لإمكانية أن تتدخل الحكومات المُنتخبة ديمقراطيًا أو حتى الملكيات المُقيدة لحماية مصالح الطبقات الوسطى، ناهيك عن الفقيرة. ففي زمنه، في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، كان رأس المال يحقق قوة غير عادية للصناعيين الناشئين حديثًا، وعلى سبيل المثال، نمت أكبر الشركات في الولايات المتحدة ربما من مائة موظف عام 1800م، لما يتجاوز المائة ألف موظف بعد قرن، ولا يزال نموها مستمرًا من حيث الموارد المادية والمالية [3].

وهذا التراكم غير العادي في القوة الخاصة دعا لمفهوم جديد للرأسمالية، فمفهوم «آدم سميث» للرأسمالية الذرية، حيث لا تمتلك المؤسسات قوة اقتصادية أو القليل منها، كان بالكاد إطارًا كافيًا لتحليل مثل هذا الوضع.

كان من الصعب أن يلقى مصطلح الرأسمالية الاستحسان. إذ كانت المنافسة بين الأفكار وعلى السلطة يخيم عليها واقع أن الرأسمالية قد عرّفها خصومها أكثر من أنصارها

وفي نفس الوقت، لم يكن هناك تقريبًا دول ديمقراطية على نطاق واسع حتى قرابة نهاية القرن التاسع عشر، فبريطانيا وسعت جمهور ناخبيها من حوالي 1.5% من سكانها إلى 2.5% عام 1832م، ثم في أواخر القرن التاسع عشر بدأت في إدخال التجار والمصنعين الأغنياء ضمن طبقتها من الأرستقراطيين الأثرياء.

وكانت الولايات المتحدة الاستثناء البارز الذي أثنى عليه «ألكسيس دي توكفيل» في دراسته الأولى عن الولايات المتحدة عام 1830م [4]، لكن في الحقيقة، لم تكن هذه الحكومات قد قامت بالكثير من المساعي الناجحة لدمج الأسواق ضمن أطر منظمة لحماية العمل، والنقد الذي وجهه «كارل بولاني» لا يعني أنها كانت عاجزة عن فعل ذلك، كما يرى ماركس ضمنًا، لكنها فقط لم تكن قد فعلته.

ورغم انطلاقه من سياق تاريخي محدد، فإن نقد ماركس أصبح فهمًا نافذًا للرأسمالية خلال منتصف القرن التاسع عشر، وخدمت أفكاره كنوع من دليل للأنشطة الثورية، خاصةً وأنها قدمت غطاءً إيديولوجيًا لهؤلاء الذين كانوا يرغبون في تأسيس أنظمة شمولية لسحق سلطة الرأسماليين في صيغة مُنحرفة تسمح لأقلية بالحكم باسم البروليتاريا، بينما هم في الواقع ليسوا خاضعين للمساءلة من أي أحد.

وفي مثل هذا السياق، كان من الصعب أن يلقى مصطلح الرأسمالية الاستحسان. ففي الحقيقة كانت هذه المنافسة ما بين الأفكار وعلى السلطة يخيم عليها واقع أن الرأسمالية قد عرّفها خصومها أكثر مما عرّفها أنصارها.

فأنصارها كانوا مشغولين بمعالجة الاختلافات ما بين الرؤى اليوتوبية، كتلك الخاصة بـ«روبرت أوين» من جهة، والرؤية القريبة المضادة لها الخاصة برأسمالية «دعه يعمل» من جهة أخرى؛ تلك الرؤية التي تؤكد على النتائج الإيجابية للسوق القائمة على نظام سابق تاريخيًا على الحكومات، وبالتالي يجب ألا يضطرب بتدخل الحكومات، إلا في استثناءات نادرة. وقد استطاع البديل الديمقراطي لكلٍ من المجموعتين من الرؤى أن يظهر حتى الآن -سواءً على مستوى النظرية أو التطبيق- قدرته على تشكيل أُطر السوق بما يتلافى اعتراضات بولاني.

والهدف من هذه المقدمة المختصرة لتاريخ الرأسمالية في القرن التاسع عشر هو اقتراح التالي:

كانت الرأسمالية في الواقع بديلًا غير تام، إذ كانت في الحقيقة عملية خلق نظام جديد تتطلب تركيزًا للسلطة؛ ببساطة لاستبدال سلطة النظام السابق

كانت الرأسمالية في الواقع بديلًا غير تام للإقطاع. ففي الحقيقة، كانت [الرأسمالية] عملية خلق نظام جديد تتطلب تركيزًا للسلطة؛ ببساطة لاستبدال سلطة النظام السابق.

وهكذا، فللمفارقة، ساد رأي نقاد الرأسمالية بأنها الأساس المنطقي لبناء دولة التخطيط المركزي القهرية التي ستحتكر كل السلطة بما يفوق حتى سابقتها الإقطاعية. ورغم أن الرأسمالية الديموقراطية -التي نميل لأخذها كأمر مُسلم به اليوم- موجودة فعليًا في أماكن قليلة مثل الولايات المتحدة، إلا أن وجودها قد دفعه للظل الوجود الجلي للعمالقة الصناعيين الجدد حتى في الولايات المتحدة نفسها منذ منتصف القرن التاسع عشر. وقد تغيرت الرأسمالية الديمقراطية كثيرًا منذ بدايتها برأسمالية الأقلية، رغم تأخر ذلك التحدي لمائتي عام أو يزيد في الحالة الأمريكية.

وعلى مدى القرن ونصف القرن الماضيين، خضع المفهوم السائد للرأسمالية لتطور ملحوظ نوعًا، من حيث كلٍ من تركيبها الأصيل أو أثرها على المخرجات الاجتماعية، وكلاهما له أهمية مباشرة جدًا في هذه المناقشة. ومنذ قرن أو أكثر، كان مفهوم أن الأسواق هي أبنية سياسية تمامًا كما هي أبنية اقتصادية مفهومًا واضحًا، وفي الواقع كان يُسمى علم الاقتصاد بالاقتصاد السياسي.

وفي نفس الوقت كان مصطلح الرأسمالية قليل الاستخدام، اللهم إلا كلقب من قبل ناقديه. ومنذ ذلك الحين أخذ الاقتصاديون تدريجيًا يضيّقون من نطاق تركيزهم من الاقتصاد السياسي إلى العلاقات الاقتصادية، ومن هنا ضاق التركيز أكثر باتجاه العلاقات الاقتصادية التي يمكن نمذجتها رياضيًا، كما لو كان الاقتصاد علمًا مُكرسًا لاكتشاف وعرض نظام من القوانين الطبيعية.

ومن هذا المنظور الضيق، أصبح الاقتصاد الجزئي دراسة تنسيق الأسواق –المفترض كونها المؤسسة الأساسية للرأسمالية– للقرارات غير المركزية من خلال آلية الأثمان لتصل بالعرض والطلب لحالة التوازن، دون أي تدخل أو تخطيط بشري واضح. وبحيث يُفترض باللاعبين الاقتصاديين التفاعل على أساس المصلحة الذاتية الرشيدة في ظل نظام اقتصادي ذاتي التنظيم، محكوم بقوانين العرض والطلب. وبحيث يفترض بالمصلحة الذاتية الرشيدة أنها كونية ومُتعالية على أي سياق (لكنها ليست خالية من الأوهام) كما هي قوانين العرض والطلب.

والرأسمالية، رغم كونها قائمة على حقوق الملكية الناتجة عن الفاعلية البشرية، فإنه يفترض بها القدرة على تحقيق أفضل مخرجات للمجتمع بغض النظر عن منافع التدخل البشري الواضح، كما لو كانت الأسواق محكومة بقوى طبيعية مماثلة لتلك الخاصة بحقول الجاذبية، وهو ادعاء ربما كان معقولًا في عصر آدم سميث، لكنه بالتأكيد ليس كذلك في عصرنا الحاضر.


[1] Fernand Braudel, Civilization and Capitalism, 15th-18th Century, Vol.II (Berkeley: University of California Press, 1992), 237.[2] Michael Merrill, “Putting ‘Capitalism’ in its Place: A Review of Recent Literature.” The William and Mary Quarterly, 3rd Ser., Vol. 52, No.2. (April, 1995), 315-326: 322.

ويعطي الهامش 21 وصفاً واضحاً جداً لبعض ذلك التاريخ، بالرغم من إتيان معظمه في السياق الأمريكية.[3] 3 Alfred Chandler, The Visible Hand (Cambridge: Belknap Press of Harvard University Press, 1977), 50-65, 204.

يسجل ألفريد شاندلر أنه قبل عام 1840م كانت شركات قليلة توظف أكثر من 50 عامل، لكن بحلول عام 1891م كانت شركة سكك حديد بنسلفانيا قد وظفت وحدها 110 ألف موظف، ولم تكن في الواقع أكبر شركات سكك الحديد في الولايات المتحدة من حيث المسافة المقطوعة في ذلك الوقت.[4] Alexis de Tocqueville, Democracy in America (New York: Alfred A.Knopf, Inc., 1945).

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.