تنويه: هذه المراجعة تجنبت حرق أحداث الفيلم وحرصت على الاكتفاء بالحد الأدنى من الأحداث التي ظهرت في الإعلان التشويقي للفيلم.

على الرغم من مكانة «سيرجو ليوني» التاريخية، ولكنه أثناء إخراجه لأفلام «الويسترن» كان يلتزم ببعض القواعد اللازمة لنجاح الفيلم تجاريا. لم تكن دور العرض في هذه الحقبة تستخدم كمكان لعرض الأفلام فقط. بل كان أحد استخداماتها الشائعة هو أنها مكان مظلم مناسب لتبادل القبلات بين الشباب والبنات. وكان علي المخرجين والكتاب آنذاك توفير أفضل الظروف السينمائية لمتبادلي القبل. فعندما ينتهون من تبادل قبلهم ويعودون لمشاهدة الفيلم لابد أن يجدوا مشاهد مفهومة ومسلية وممتعة.

لذلك كان يلتزم سيرجو ليوني بأن يكون كل مشهد من أفلامه الويسترن له قصة مفهومة ومثيرة وممتعة حتى لو لم يتابع المشاهد نصف أحداث الفيلم، أطلق على هذه الظاهرة لقب «المشهدية». هكذا كانت سينما «الويسترن» خاضعة لاعتبارات تجارية وكانت السينما المحببة لفئة المراهقين. أما المخرج «جون ستورجس» فقد دعا لأهمية وحدة الروح القومية الأمريكية في فيلمه «العظماء السبع» المقتبس من فيلم «إكيرا كوروساوا» الساموراي السبع. حيث يقوم سبعة من رعاة البقر (Cowboys) بإنقاذ سكان قرية فقيرة من ظلم عصابة تنهبهم دائمًا. السبعة رجال من أصول مختلفة مارسوا في ماضيهم جميع الخطايا والموبقات. ولكنهم الآن أصبح لديهم هدف واحد وروح واحدة تجمعهم. هكذا كانت سينما الويسترن وسيطا جيدا لنشر الروح القومية خصوصا في المناطق الأمريكية التي شهدت عصورا من العنف والحروب الأهلية.

اتجهت أفلام الويسترن تدريجيا لشكل أكثر قتامة ووحشية. إلى أن حدث التحول الأكبر على يد «الأخوين كوين» و«كوانتين تارنتينو». الأخوان كوين اللذان أخرجا التحفة السينمائية «no country for the old men». حيث حولا أفلام الويسترن لمسرح للعبث الكامل وفقدان المعنى. وهجاء لإنسان القرن الحادي والعشرين وللرأسمالية والعولمة. لقد مثلاها في صورة الإنسان الوحشي الذي يقتل بلا سبب وبعشوائية مفرطة، حيث «العملة المعدنية» قد تحدد مصير إنسان. يقوم بالجريمة الكاملة لا أحد يستطيع مواجهته لا أحد يفهم دوافعه.

اقرأ أيضا:سينما الأخوين «كوين»: عالم بلا قانون

أما «كوانتين تارنتينو» فقد أخذ الشكل الفني لسينما الويسترن في أفلامه. من حيث تقسيم الفيلم لفصول، ومن حيث المشهدية والحوارات الطويلة ومساحة الكادر السينمائي. إنه رأى في الإخراج الفني للويسترن الشكل الأفضل لأفلامه العبثية الدموية والهزلية.

«Hell Or High Water» هو أحد أفلام الويسترن الحديثة، والذي يمثل استمرارية للروح العصرية لأفلام الويسترن التي وصل لقمتها الأخوان كوين. وينافس الفيلم في هذا الموسم على أربعة جوائز للأوسكار من بينها جائزة أفضل فيلم.


جائزة النص

«توبي هورد» يستعين بأخيه العائد من السجن مؤخرا «تانير هورد» لتنفيذ مجموعة من السرقات لفروع أحد البنوك من أجل إنقاذ مزرعتهم المهددة بالحجز عليها من قبل هذا البنك. على جانب آخر الشريف «ماركوس» الضابط الأكبر في المدينة يحاول الإيقاع بهما.

شخصيات الفيلم فريدة من نوعها، «تايلور شيريدان» مؤلف النص جعلنا نتعاطف مع جميع الشخصيات حتى في أكثر لحظات الفيلم تفجرا. لعل من مظاهر السينما «ما بعد الحداثية» هي تهميش الفوارق بين الخير والشر. سيناريو الفيلم جعلنا نترقب بشغف نجاح خطة الأخوين الإجرامية كما جلعنا نتفهم دوافعهما.

شخصية الشريف ماركوس الضابط المقبل على التقاعد الذي يعاني من فقدان الثقة والمعنى في حياته. كما أنه يشعر بالإهمال، رأى في هذه الجرائم التي يرتكبها الأخوان فرصة ليشعر بذاته وبقيمته في الحياة. مغامرة أخيرة قبل الخفوت الأخير، حيث سيصبح عجوزا منسيا لا يفعل شيئا سوى انتظار الموت.

أما الأخ تانير هورد فبرغم فظاظته وإجرامه ولكنه يريد تنفيذ مخطط أخيه ويتعاطف معه. أما توبي هورد، الشخصية الرئيسية في الفيلم، فهو الشخص الذي عاش حياة صعبة ويريد المخاطرة بكل شيء من أجل ألا يعيش ابنه الحياة التي عاشها، سيسرق ويقتل إذا لزم الأمر.

الجمل الحوارية في هذا الفيلم في غاية الجمال والشاعرية وبعيدة تماما عن التكلف. خصوصاً حوارات توبر مع ابنه. والحوار في المشهد الأخير. الكثير من محبي الفيلم أو منتقديه يقارن بين نص هذا العمل ونص نسخة الأخوين كوين «No Country For Old Men»، نعم، من المشاهدة الأولى ربما سيشعر المتفرج بتشابه النصين. ولكن المشاهدة الثانية ستظهر عدة عناصر مختلفة.

الأول وجود ضابط يقترب من التقاعد ويعاني من حالة فقدان المعنى واكتئاب الشيخوخة في النصين. ولكن في نسخة الأخوين كوين كان الشريف لا يفهم ما يحدث، لديه رغبة انعزالية، وتسليم بواقع المرحلة العمرية. أما الشريف ماركوس فهو شخص عنيد يحاول مقاومة اكتئابه والتمسك بالحياة. لا يرغب في الابتعاد عن القضية بل يكشفها ويواجهها بكل قوة. كما أن شخصية الضابط في كلا الفيلمين ﻻ يعتبر تشابها، فأغلب أفلام الويسترن لابد من وجود ضابط بها. لأنها أفلام قائمة على وجود جرائم وصراعات بالأساس. فمتى تابعت فيلم ويسترن لم يكن فيه ضابط أو صائد جوائز يحاول الإيقاع بالمجرمين؟

العنصر الثاني وهو الطرف الذي يواجهه الضابط. في هذا الفيلم هم بشر طبيعيون لديهم دوافع إنسانية مفهومة، بل تتعاطف معها. وستسعد كثيرا لو نجحت خطتهم في النهاية. أما في نسخة الأخوين كوين فقد كان الخطر مجرم مخيف غير مفهومة دوافعه، بل يكاد يصل لمرحلة الكائنات الميتافزيقية. إنه شخصية رمزية بشكل كامل لا يوجد أي ملمح إنساني فيه.

التشابه بين النصين ينحصر في أن هذا الفيلم يسير على نفس النهج الجديد ما بعد الحداثي لأفلام الويسترن الذي لعب فيه الأخوان كوين دورا مهما في هذا التحول لهذه الفئة من الأفلام فقط.


جائزتا التمثيل والصورة

رشح الفيلم لجائزة التمثيل في فئة أفضل ممثل في دور مساعد لـ«جيف بردجيز» عن تأديته لشخصية ماركوس. يضع بردجيز خبرته التمثيلية في هذا الدور. فهو أضاف للشخصية بعد الكاريزما والدعابة العبثية المعهودة في أدواره السابقة. بالإضافة لنقل مشاعر الخوف من حياته القادمة. ربما يكون بردجيز على أعتاب الأوسكار الثانية له وستكون جائزة مستحقة بكل تأكيد.

«بن فوستر» في دور تانير هورد أدى أحد أفضل الأدوار المساعدة أيضا. في كل لحظة من لحظات الفيلم نرى عصبيته ودوافعه للإجرام وفي نفس الوقت قلبه الطيب وحبه لأخيه. هذا العام مليء بالأدوار المساعدة المتألقة ولو كانت الأدوار المساعدة أقل تألقا لكان فوستر في قائمة المرشحين بل المنافسين على الأوسكار. كذلك «كريس باين» في دور توبي هورد الذي نقل إحساس الأب العازم على توفير حياة أفضل لابنه. كانت له لقطات مميزة وفرت له فرصة لإظهار قدراته التمثيلية خصوصا في المشهد الأخير في الفيلم. ومشهده مع الابن.

المخرج «ديفيد ماكنزي» هو صاحب الفضل الأكبر في تألق الفيلم. فهو الذي اختار وقاد فريق التمثيل للظهور بهذا التألق. أما من حيث الرؤية الإخراجية فقد رأينا فيلم ويسترن خالصا يضاهي أفلام عظماء هذه الفئة. صورة قاسية للصحراء والقرى الحارة والفقيرة. وعلى الرغم من قسوة الصورة فكانت جميلة في نفس الوقت من حيث تكوين الكادر. أما المونتاج فقد لعب دورا مهما في تسريع وتبطيء وتيرة الفيلم حسب حاجة ماكينزي. وبالفعل كان ماكينزي لديه المرونة الكافية ليسرع من وتيرة الأحداث في مشاهد السرقة والاشتباك وتهدئة الوتيرة في لحظات الحوارات المفصلية.

«Hell Or High Water» فيلم ويسترن جمع بين القسوة والشاعرية والحب والعواطف المتأججة والمسارات العبثية. لذلك استحق مكانته في موسم الجوائز.


موسم الجوائز السينمائية

سلسلة «موسم الجوائز السينمائية» نتتبع فيها أهم الأعمال السينمائية التي تتسابق على الجوائز الفنية المختلفة في موسم يمتد منذ ديسمبر/كانون الأول 2016، بإعلان ترشيحات جائزة «جولدن جلوب»، مرورا بجائزة «البافتا»، وانتهاء بإعلان الفائزين بجوائز أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة «الأوسكار» في نهاية فبراير/شباط 2017.

(يمكنكم متابعة جميع حلقات السلسلة من هنا)