كثيرا ما يؤكد باحثو العلوم السياسية ذوو النمط الغربي ضرورة الواقعية، وينتقدون الشرقيين والإسلاميين لتعاملهم مع السياسة من باب المثل والمثاليات. وأكثرهم يصل بين الواقعية والمعاصرة؛ بمعنى أن الواقع هو العصر الذي نحياه، وهم يترجمون العصر بالغرب وثقافة الغرب ومنجز الغرب الحضاري والفلسفي والسياسي. ومن ثم فالواقعية هي الاعتراف والتسليم بوضعيتنا من الغرب، والتي قوامها التبعية والتلمذة، ووضعية الغرب منا وهي الأستاذية والهيمنة.

الدكتور عمرو حمزاوي من القلة الأكاديمية التي تتبنى ليبرالية علمانية غربية واضحة، وربما تقول: شجاعة، قياسا على المتعلمنين العرب غير الواضحين أو المموهين. وهو من شراح المقولات السياسية الليبرالية للمصريين، وكيف أنها السبيل ليكون لمصر والعرب مكان تحت الشمس. وهو واضح في تسمية حكم العسكر باسمه، ولا تخونه ليبراليته اللطيفة إلا عند مواجهة الإسلاميين، فتظهر في صورة علمانية منفعلة أكثر منها ليبرالية متحررة تتجمل بالعدالة.

لكن الأخطر في فكر حمزاوي الذي يعرضه على المصريين منذ ما قبل الثورة المصرية وبعدها وبعد الانقلاب عليها، هو وهم الواقعية؛ حين يتحدث عن قوى وحقائق الواقع المصري والعربي بالاعتبار والظن، مع أنها متعينة أمامه، والتعين والتجسد هو عين الحقيقة؛ وذلك كله لإثبات ما يطمح إليه من علمنة غير المتعلمن، وفرض المنطق الحداثي الغربي على مصر والمصريين باعتباره المنطق الأوحد والأجود للعصر ولسائر الأمم، وسبيل التقدم الوحيد الذي لابد منه وليس عنه محيد.

حمزاوي يتحدث دائما عن الديمقراطية، وتحرير إرادة الشعب، والعلمانية وتحييد الدين في المجال العام، لكنه لا يقدم تصورا واقعيا للشعب ولا للدين وبالأخص الإسلام. وإذا لم يقبل الشعب الحقيقي والإسلام العلمي تصور حمزاوي فلا يستحقان لا وصف الشعب والدين، ولا الحضور في الحياة العامة، وعلى الشعب أن يترك الوطن للنخبة العلمانية المتنورة، وعلى الدين أن ينتظر مطرقة الاستبداد العلماني لكي تعرفه حجمه وتضعه في مكانه وحدوده لا يتجاوزها.

الشعب عنده تصنيع ذهني لا نظر واقعي، والدين عنده موضوع قابل لإعادة الإنتاج والتشكيل، ولإعادة الموضعة والتسكين، وليس أي منهما معطى واقعيا ولا تاريخيا. والتصور الذهني الذي يقدمه للشعب المصري وللدين الإسلامي مليء بالمغالطات المنطقية من جهة، وبالإملاءات التعسفية من جهة أخرى. فهو يصور الشعب المصري شعبا علمانيا أو يجب أن يكون علمانيا، وإلا فهو ليس بشعب ولا يستحق التفكير فيه، يراه شعبا يؤمن بتحييد الدين في الشأن العام والمجال العام، وبالأخص في السياسة، وأن مرجعية الدين تعني عدم المساواة، وأن المساواة التي تحققها العلمانية لا تكون إلا بتحييد الدين وبالأخص الإسلام –نظرا لأن المسيحيين لا يقدمون المسيحية مرجعية عامة وشاملة- ومن ثم فإن الدين يمنع التوافق على قواعد لإدارة المجال العام والسياسي، وأن الشعب المصري يرى تعارضا بين الدين في الشأن الخاص والدين في الشأن العام؛ ومن ثم يعرض وجوب المقايضة؛ من أجل حرية إقامة الشعائر الدينية في الشأن الخاص، على الدين أن ينسحب من الشأن العام؛ أي يجب على الشعب والدين أن يذعنا للمنطق العلماني، وعلى السياسة في العالم الإسلامي والعربي ومصر خاصة أن ترضخ لمنطق الحداثة الغربية باعتبارها وصفة التقدم واللحاق بمن تقدم.

الشعب المصري شعب متصل بالدين ويراه –من حيث المبدأ- مكونا جوهريا في الحياة كلها العامة والخاصة، وعلى الرغم من مرور مائة عام من مشروع علمنة الشعب المصري، فإن كثيرا من الدراسات، إن لم يكن أكثرها أو كلها، يؤكد أن هذا المشروع قد فشل. ولا يعود الفضل في ذلك فقط إلى جهود الإسلاميين دعاة ومفكرين ورواد مجتمع، بقدر ما يعود إلى تجذر الدين في نفوس الناس مسيحيين ومسلمين في مصر، وإلى غباء العلمانيين في تنفيذ مشروعهم بالعسف والعجلة والفساد والاستبداد، الأمر الذي برز بصورة أوضح في تجارب أشد عنفا في جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز وأرثوذكس الاتحاد السوفيتي السابق، وفي يوغوسلافيا السابقة، وفي الجزائر بين الاحتلال والاستقلال، وفي تركيا بين أتاتورك وأردوغان.. فما بالك بالشعب المصري الذي لم يتعرض لهذه المقادير من التغريب العنيف؟

ثم الإسلام نفسه وطبيعته، يقف حائط صد عبر العالم وليس في مصر وحدها ضد العلمنة، ويعدها بنهاية خاسرة في كل مكان وكل عقد من السنين. الإسلام دين موحد شامل لا يقبل لا التجزيء رغم الجهود الضخمة لتفكيكه، ولا التحجيم رغم سياسات العلمنة الجبارة لنحو قرنين من الزمان. وفي مصر اعترف الكثيرون بالخسارة الفادحة لمشروع العلمنة.

حمزاوي يربط الديمقراطية –حضور الشعب- بالعلمنة –تحييد الدين- ضاربا بعرض الحائط حقائق الواقع الشعبي المصري، وحقائق الإسلام في مصر، بما فيها علاقة المسيحيين بالإسلام، وأنها ليست مأزومة بالضرورة على النحو الذي يستبطنه. الغرب يرضى اليوم بحضور الإسلاميين المؤمنين بالإسلام الشامل في حكم دول كثيرة، منها البوسنة وتركيا في أوروبا، وباكستان وماليزيا وإندونيسيا وإيران فضلا على دول الخليج التي تدعي المرجعية الدينية، ويشارك الإسلاميون في برلماناتها أو وزاراتها (لعمرو حمزاوي كتاب مهم مع ناثان براون عن الإسلاميين في البرلمانات العربية، وقارنه مع كتاب زميله في تدريس العلوم السياسية معتز عبد الفتاح: المسلمون والديمقراطية.. تلحظ العجب من الفارق الشاسع بين علميتهما حين تتجرد من شرط العلمانية وعلمانيتهما حين تتجرد من واجب العلمية).

في مصر شعب مسلم ومسيحي، أغلبيته مسلمة ومسيحيوه لا يظهرون عداء جماعيا لحضور الإسلام في المجال العام. الشعور بثقل ظل الإسلام في المجال العام يقف على أرضية أيديولوجية لا واقعية ولا علمية ولا فقهية، ومن ثم فهي دعوة فوقية نخبوية مؤدلجة في ثوب الفكر العلمي، وهي ليست بجديدة ولا غريبة، تبناها ودافع عنها من قبل عدد ملحوظ من العلمانيين المنهجيين، فضلا على العلمانيين المسيسين والأيديولوجيين من الشيوعيين أو الليبراليين.

معضلة حمزاوي كانت وستظل عدم الاعتراف بالواقع الذي كشفت عنه أحداث 2011-2012 من شعبية الفكرة الدينية، وعدم رغبته في تذكر وذكر ما يعرفه جيدا من تجديدات الإسلاميين في فقه السياسة والشأن العام، والموقف من الديمقراطية ومن التعددية والتنوع وفقه الاختلاف وإدارته، التي استوعبوا فيها أفكار غيرهم من الغرب والمتغربين، وقدموا ما يمكن تنفيذه وتحقيقه على أرض الواقع من رؤى إسلامية واقعية. نعم الإسلاميون لا يعترفون بكل الواقع ويصر قطاع كبير منهم على إنكار ما يخالفهم (وليس الاختلاف معه فهذا حقهم)، لكن حمزاوي –وهو أفضل من غيره بكثير- ووراءه المصرون على العلمانية القومية بلا نقد ولا تجديد لها –بخلاف الغرب نفسه- لا يرون الواقع إن لم يكن علمانيا أو في طريقه للتعلمن.

يحتاج عمرو حمزاوي لأن يعيد النظر في الكتابين السابق ذكرهما، وأن يعيد النظر في العلمانية المحضة التي يكرر طرحها شرطا للديمقراطية.

ومن الجدير بالذكر أن عمرو حمزاوي أستاذ متميز في النظرية السياسية والفكر السياسي، وله اتصال خاص بأساتذة هذا الحقل الكبار الإسلاميين، وعلى رأسهم: د.منى أبو الفضل (وهو من أميز تلاميذها أثناء دراسته الجامعية)، ود.حامد ربيع، وقد حرر عنه كتاب وكتب فيه دراسة مهمة، ومن ثم فيمكنه –إذا أراد- بخلاف آخرين لا يملكون ملكاته، أن يطور رؤية للديمقراطية يقبلها الإسلام لا أن تفرض عليه، وكأن الإسلام ضد الحرية والمساواة والتقدم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.