كما كان متوقعاً، لم يضع إعلان حركة حماس عن وثيقتها السياسية حداً للجدل والنقاش حولها، وإنما زادهما زخماً ووتيرة، ذلك أن معظم الجدل الدائر مردُّه للمواقف السياسية المسبقة أكثر من القراءة العميقة في الوثيقة ومضمونها وسياقاتها ودلالاتها.

يضاف إلى ذلك أهمية طارح الوثيقة (حماس) وما تقوله في ظل المتغيرات والتحديات التي تمر بها الحركة والقضية الفلسطينية ككل، مما يزيد من أهمية القراءة المتأنية الموضوعية للوثيقة من مختلف زوايا، أي التوقيت والسياق والأسباب والمضمون والصياغة والدلالات وفضلاً عن الفائدة والمخرجات والانعكاسات المستقبلية.


توقيتان لا توقيت

يفرض سؤال التوقيت نفسه في كل حدث سياسي مهم لأنه يقود في كثير من الأحيان إلى استنتاجات مهمة تُستخلص من العلاقة بين السياق والتوقيت والحدث. بيد أن وثيقة حماس السياسية – التي سمتها وثيقة المبادئ والسياسات العامة – تكتنف توقيتين وليس توقيتاً واحداً.

إذ هناك توقيت «فكرة» العمل على كتابة الوثيقة وهناك توقيت «الإعلان» عن الوثيقة. أما الأول – والذي يعود لسنوات – فيبدو مرتبطاً بسياقين رئيسيين، الأول، هو تراكم الخبرة العملية لدى الحركة من ممارستها للسياسة وانتقالها من طور إلى طور وفي أكثر من مجال وساحة وبلد، الأمر الذي كشف عن ثغرات وتحديات فرضها «ميثاق» حماس الذي أعلنته عام 1988 بما استدعى ضرورة التعديل أو الاستبدال. والثاني، هو التطورات الدولية والإقليمية خصوصاً تلك المتعلقة بالثورات العربية، ثم الثورة المضادة وما جرته على المنطقة من متغيرات وعلى الحركة من ضغوط وتقييدات، الأمر الذي يمكن رصده بين ثنيات مواد الوثيقة.

وأما التوقيت الثاني، وأعني به توقيت الإعلان عن الوثيقة في المؤتمر الصحافي الذي ترأسه رئيس المكتب السياسي الحالي للحركة خالد مشعل، فهو واضح ومفهوم، إذ غالباً ما تُستثمر المحطات السياسية الفارقة للإعلان عن مشاريع أو خطوات مهمة. ولعل «أبا الوليد» ومعه المكتب السياسي القديم أراد أن يختم دورته بهذا «الإنجاز» ليوثق في سجله وسجلاتهم للتاريخ.


الحاجة للوثيقة

قبل ولوجنا إلى مواد الوثيقة وما تضمنته، قد يكون من المفيد نقاش المبدأ، بمعنى هل كانت حركة حماس بحاجة لوثيقة سياسية جديدة في ظل وجود الميثاق المذكور؟ وهو نقاش يمكن تفكيكه لسؤالين: أولاً، هل كانت حماس تحتاج للتغيير، وثانياً، في حال كانت تحتاج فهل كان ينبغي أن يكون على شكل وثيقة جديدة؟

كتبت حركة حماس ميثاقها عام 1988 أي بعد انطلاقها بسنة واحدة فقط، ولذلك خرج محملاً بـ«ثوريةِ» و«طوباوية» البدايات الأولى وحاول الإجابة عن أسئلة واقعه وسياقاته وتحدياته. كانت القضية الفلسطينية تعاني تدهوراً خطيراً تمثل بتراجع الوضع العربي ودعمه لها فضلاً عن مسار الحل السياسي الذي تبنته منظمة التحرير الفلسطينية، وبالتالي كان تأسيس حماس أولاً وميثاقها ثانية محاولة للإنقاذ ورد الفعل على مسار النكوص هذا، كما جاء الميثاق مثقلاً بالأيديولوجيا وتضمن أخطاء ما كان يجب الوقوع بها.

أصبح الميثاق قميصاً لم يعد يناسب جسد حماس المتنامي مادياً ومعنوياً، بل أصبح عبئاً عليها في المحافل الدولية وفي العلاقات الثنائية.

مضت عشرات السنين منذ ذلك التاريخ وجرت مياه كثيرة تحت الجسر. أثبتت حماس حضورها كفصيل سياسي وكحركة مقاومة ثم كتيار سياسي منتخب من الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، وانفتحت في علاقاتها الخارجية وباتت أكثر احتكاكاً بالمنظمات الدولية وأكثر إدراكاً للأبعاد الأخرى للصراع إضافة للمواجهة العسكرية، تحديداً العلاقات السياسية والبعد القانوني/الحقوقي.

أصبح الميثاق قميصاً لم يعد يناسب جسد الحركة المتنامي مادياً ومعنوياً، بل أصبح عبئاً عليها في المحافل الدولية وفي العلاقات الثنائية سيما ما يتعلق بتوصيف الصراع وأبجدياته (كصراع مع اليهود كما نص الميثاق)، كما تعاظمت خبرات الحركة كثمرة لممارستها السياسة لعشرات السنين. ترسخت هنا لدى قيادة حماس قناعة بضرورة تغيير الصورة النمطية التي يقدمها الميثاق عنها، ولربما كان لنصائح بعض الأصدقاء دور في إقناعها بذلك.

كان التغيير ضرورة إذن، أو هكذا ارتأت حماس على الأقل. لكن، ولأن الشعب الفلسطيني بما فيه أنصار الحركة مشبع بفكرة المقارنة بين حماس وفتح – رائدة العمل المقاوم قبلها – فقد تهيبت الحركة فيما يبدو من فكرة «تغيير الميثاق» كي تتجنب المقارنة القاسية مع تغيير منظمة التحرير للميثاق الوطني الفلسطيني عام 1998 بشكل مهين، سيما في ظل تشابه الظروف الإقليمية والدولية بين الحدثين.

ولذا فقد اتخذت الحركة قرار إصدار شيء جديد فضلت تسميته بـ«الوثيقة» في مقابل «الميثاق»، بحيث لا تلغي الأول ولا تبقى محصورة به، ولكن تحوله إلى رفوف الأرشيف فيما تكون الوثيقة الجديدة تعبيراً عن الحركة ونضج فهمها السياسي وتسطيراً للمبادئ العامة التي تحكم رؤيتها لنفسها وللقضية الفلسطينية وللصراع مع العدو الصهيوني وللعلاقة مع الآخر الفلسطيني والأطراف العربية والإسلامية والدولية …الخ.

ولعل حالة السيولة في المنطقة والضغوط المتزايدة على الفلسطينيين ومآل الثورات العربية ومشاريع تصفية القضية من العوامل التي دفعت قيادة الحركة لتأطير هذه الرؤى في وثيقة مكتوبة لتعميمها على الكوادر والأنصار، توحيداً للفهم ومنعاً للتجاذبات قدر الإمكان، سيما وأنها تتزامن مع تغير في قيادتها بعد فترة طويلة من رئاسة «أبي الوليد» الطويلة والتاريخية للحركة كما تأتي في فترة ضغوط وأزمات كبيرة تمر بها الحركة.


بين الوثيقة والميثاق

ثمة فوارق واضحة بين ميثاق 1988 ووثيقة 2017 تعبر من زاوية ما عمّا مرت به الحركة من خبرة وتجارب من جهة وضغوط وأزمات من جهة أخرى، بحيث تحمل هذه الفوارق معنى «التكيف» بنفس القدر الذي تحمل معه معنى «النضج».

الفارق الأول يكمن في الخطاب والصياغات، بحيث تحللت الوثيقة إلى حد بعيد من الحمل الأيديولوجي والعبارات الفضفاضة والمصطلحات الحادة لتخرج في صياغة متماسكة ومكتوبة بعناية، فضلاً عن البعد الحقوقي – القانوني واضح البصمات في الوثيقة (يبدو أحياناً كمرجعية لبعض المواد) ولعل ذلك نتاج عرضها على خبراء في القانون الدولي كما ذكر.

في الخطاب والأسلوب أيضاً تختلف النظرة للمجتمع الدولي في الوثيقة عنها في الميثاق، ابتعاداً عن التفسير التآمري والخطاب الحاد، ومروراً بالحديث عن المشتركات والقيم الإنسانية مثل الحق والعدل والكرامة والحرية ورفض الظلم والتمييز، وصولاً إلى اعتبار تحرير فلسطين عملاً مشروعاً من زاوية إنسانية وقانونية والإشارة إلى مخالفة اتفاق أوسلو للقانون الدولي، وليس انتهاءً باعتبار الكيان الصهيوني خطراً على «الأمن والسلم الدوليين».

ولعل حماس أرادت من خلال هذه الإشارات تقديم نفسها كحركة سياسية أكثر من كونها تياراً إسلامياً، رغم تأكيدها في المادة الأولى على أن «مرجعيتها الإسلام». كما أن الحركة ميزت نفسها بوضوح عن بعض التيارات المتشددة المرفوضة مجتمعياً والمحاربة دولياً من خلال تأكيدها على طبيعتها «الإسلامية الوسطية» نصاً، فضلاً عما احتوته عدة مواد أخرى من طرح وأفكار وسياسات.

في المضمون، ثمة أربعة فوارق مهمة بين الميثاق والوثيقة، الأول، التأكيد على «فلسطينية» الحركة وبالتالي الابتعاد ضمناً عن إشارة الميثاق لعلاقتها التنظيمية والعضوية مع جماعة الإخوان المسلمين، رغم تأكيد مشعل خلال حديثه على جذور حركته الفكرية وأن ذلك ليس تنصلاً من الإخوان في أزمتهم.

الفارق الثاني، هو توصيف الصراع مع «الحركة الصهيونية» وليس مع «اليهود»، ولعل هذه الإشارة في الميثاق من أهم المواد التي لطالما سببت لحماس إزعاجاً وضغوطاً وأغلقت أمامها الكثير من الأبواب. هذا التغير المُحق والضروري أردفَ أيضاً بصياغات مساندة مثل رفض العداء للسامية والظلم والتمييز.

التغيير الثالث، يتمحور حول العلاقة مع الآخر الفلسطيني أو لنقل العلاقات الفلسطينية – الفلسطينية، حيث هناك إشارة واضحة للقبول بمنظمة التحرير كـ«إطار وطني» تسعى الحركة للانضمام له بعد إصلاحه، وتأكيد على التعددية والحوار والشراكة والخيار الديمقراطي كوسائل لإدارة هذه العلاقات. ومن اللافت أن التوصيف أتى دون «ال» التعريف بما يزيل عن المنظمة حصرية الأطر الوطنية، في تناغم مع عدم نص الوثيقة على أنها «الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني».

التغيير الرابع، والأهم والأكثر جدلاً، كان إشارة الوثيقة لفكرة «دولة على أراضي العام 1967» باعتبارها تمثل «صيغة توافقية وطنية مشتركة»، والتي سنعود لنقاشها باستفاضة.


نقاش

تحللت وثيقة حماس إلى حد بعيد من الحمل الأيديولوجي والعبارات الفضفاضة والمصطلحات الحادة لتخرج في صياغة متماسكة ومكتوبة بعناية.

تبدو وثيقة حماس السياسية في معظمها تسطيراً وتوثيقها لتطور فكرها وممارستها السياسية ومنظومة رؤاها ورؤيتها لنفسها وللقضية وللآخر (كل الآخرين) أكثر من كونها تحمل معنى المبادرة أو تسعى لتسويق مشروع جديد. ورغم ذلك، فإنه من الواجب التنبه إلى أن أمرين يسبقان النصوص دائماً في قائمة الأهمية، وهما الانطباعات التي تبنى عليها بمعنى كيف يفهمها المتلقي/المتلقون والممارسة العملية أو التطبيق القعلي للنصوص.

وهنا نلحظ أن الوثيقة قد أثارت جدلاً كبيراً جداً لا أدري إن كانت حماس تتوقعه بهذه الدرجة والحدة بعد أن اعتقدت أن عدم مساسها بالميثاق وبذلها سنوات طويلة في التفكير والنقاش والصياغة والمراجعات والاستشارات ستوفر عليها الكثير من النقد. اعتبر الكثيرون، محقين في رأيي، أن الوثيقة عبارة عن محاولة من حماس لتسويق نفسها في الإقليم والعالم، أو على الأقل لحماية نفسها قدر الإمكان من الضغوط والأزمات القائمة والمرتقبة. قال مشعل، في معرض النقاش، إن الوثيقة صدرت ذاتياً عن حركته، وإنها ليست مبادرة سياسية أو مشروعاً مقترحاً أو استجابة منها لطلب قدم لها من آخرين، وهو صادق في ذلك فيما أعتقد، لكن الانطباعات – دائماً وأبداً – أهم من الوقائع.

فالمتغيرات الموجودة في الوثيقة، وخصوصاً ما يتعلق بفكرة الدولة على أراضي العام 1967 هي ما يصنع الانطباع عن الوثيقة ويساهم في تقييمها وليس مجمل المواد الـ 42. كما أن فكرة الحاجة إلى تغيير بعض مواد الميثاق والخروج بطرح جديد لا يمكن فصله عن الضغوط التي تتعرض لها الحركة وبالتالي يدخل ذلك أيضاً في أسباب طرح الوثيقة، فضلاً عن أن أصدقاء حماس وحلفاءها قد نصحوها بطبيعة الحال بضرورة التنصل من مواد خاطئة في الميثاق تخطتها الحركة في الممارسة العملية، ولكنها ما زالت حجة عليها في الميثاق المكتوب (العداء لليهودية، والنظرة للمجتمع الدولي، وغيرهما).

بهذا المعنى، يمكن فهم الوثيقة على أنها نتاج تفاعل بين الأفكار والأحداث، بين الرؤى والتطورات، بين الهوية والاضطرارات، وهي جدلية قديمة متجددة لم ولن تنجو منها أي حركة سياسية. إذ من الطبيعي أن تتأثر أفكار أي فاعل سياسي نتيجة لتراكم خبراته العملية، لكن على أن يقتصر ذلك على الجزئيات والوسائل والخطاب والفروع، ولا يصل إلى الكليات والغايات والمبادئ والأصول أو ما يسميها الفلسطينيون الحقوق والثوابت.

كان الأجدر بحركة حماس ألا تلجأ لكتابة وثيقة جديدة تجنباً لمقارنتها مع فتح و/أو خشية من المعارضة الداخلية، وأن تكتفي بتعديل الميثاق.

حتى الآن وبين سطور هذه الوثيقة، لا يبدو أن ذلك حصل، لكن من يضمن ألا يحصل في المستقبل إنْ ترك باب الـ«التكيف» مع التطورات والاستجابة للضغوط مفتوحاً؟ ثمة ثقة في قيادة حماس الحالية يمكن للمرء مطالعتها في معظم الكتابات والتقييمات والآراء الرصينة، بيد أن الوثائق – مثل دساتير الدول – تكتب لفترات زمنية طويلة يمكن أن يتغير خلالها الكثير، سيما وأن الوثيقة الحالية قد فتحت الباب على فكرة سد الذرائع عبر التعديل والتكيف لتخفيف الضغوط، لكن من قال إن الضغوط ستخف؟

كان الأجدر بحركة حماس ألا تلجأ لكتابة وثيقة جديدة تجنباً لمقارنتها مع فتح و/أو خشية من المعارضة الداخلية لإزهاق رمزية الميثاق، وأن تكتفي بتعديل الميثاق ليكون أكثر تعبيراً فعلاً عن أفكارها وسياساتها، ودون تخطي هذه العتبة.

وبالعودة إلى المادة 20 المتعلقة بفكرة دولة على الأراضي المحتلة عام 1967، فقد حازت المساحة الكبرى من الجدل والنقاش كما كان متوقعاً منذ تسريبات بعض مواد الوثيقة، رغم أنها لم تأت بجديد على صعيد موقف حماس، التي أعلنت ذلك على لسان شيخها المؤسس أحمد ياسين وفي أكثر من وثيقة سابقة في مسار المصالحة الفلسطينية الداخلية. أكثر من ذلك، فقد صيغت المادة بعناية شديدة كما يبدو، إذ بدأت – قبل الإشارة للدولة – برفض «التنازل عن أي جزء من فلسطين»، وأوردت فكرة الدولة على أنها «صيغة توافقية وطنية مشتركة» وليس على أنها «هدف» حماس أو مسعاها ولا حتى ذكرت صيغة «القبول» أو «الرضى” بها، بعد أن وضعت شروطاً تضع الفكرة برمتها في مربع المستحيل السياسي.

ورغم ذلك، فإن من الواجب نقاش قيادة الحركة في مدى ضرورة النص على ذلك في وثيقة تعبر عن رؤاها، إلا إن كانت رسالة موجهة لعدة أطراف في المقدمة منها الشريك الفلسطيني الآخر (فتح والسلطة) والمجتمع الدولي سيما الأوروبيين؟ هنا، ومن باب الانطباعات التي تتغلب دائماً على الوقائع والحقائق، كان ينبغي الحذر من الوقوع في مطب التماهي مع فكرة «حل الدولتين» الذي يحيل إليه الفهم الدولي/الغربي/الأوروبي لفكرة «القبول بدولة على أراضي 1967»، ولا أظن أن قيادة حماس رغبت بذلك أو أرادت أن توحي به.

وأما عن الفائدة العملية لهذه المادة – وربما الوثيقة ككل – على صعيد انفتاح الإقليم أو العالم على حركة حماس فلا شك أنها محدودة جداً. فجذور حماس وتاريخها وسياساتها ومقاومتها وسلاحها أثقل بكثير في ميزان التقييم والتعامل من الوثائق والنصوص. سيكون لهذه الوثيقة بعض الفائدة على هذا الصعيد بلا شك، سيما إن اجتهد أصدقاء حماس في مساعدتها، لكنه أيضاً سيفتح الباب على طلب المزيد من النصوص والتوضيحات والسياسات والمواقف التي لا تحتملها الحركة ولا يجب أن تقترب منها أو توحي بها مجرد الإيحاء.

لا غنى لأي حركة تحرر وطني أو حركة مقاومة عن الدعم الخارجي والعلاقات الدولية، فالأرض لا تحرر فقط بالقوة العسكرية كما أن القوى الذاتية غالباً ما تعجز عن القيام بهذه المهمة الكبيرة، إلا أن واجب هذه الحركات وفي مقدمتها حماس استثمار هذا الدعم وتلك العلاقات لتقوية موقفها وتدعيم سياساتها وليس العكس. في محطات كثيرة في التاريخ الإنساني وفيما يخص القضية الفلسطينية تحديداً لعب بعض «الأصدقاء» دوراً أهم من «الأعداء» في إقناع بعض الأطراف السياسية بالتغير والتكيف وساهموا في نقلها من مربع التطور إلى سياق التنازل. كما أن التراجعات والتنازلات لا تأتي دفعة واحدة، لكن بالتدرج وبالتفاعل مع عدد غير محدود من العوامل الذاتية والموضوعية والخارجية ومع تأثير الوقت والتطورات والأشخاص وغيرها، ولعل مفارقة المقارنة بين البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير عام 1974 كخطوة أولى مهدت لما وصلنا له اليوم وبين فكرة «دولة 1967» مهمة في هذا السياق لزيادة الحذر وتفهم الخشية.

لم تغازل حماس في وثيقتها المجتمع الدولي ولم تغمز بعينها للكيان الصهيوني، فوثيقتها تزخر بأفكار واضحة حول التمسك بكامل التراب الفلسطيني.

ولأن العبرة بالممارسة العملية وليس بالنصوص الجامدة، فلستُ أرى خطراً داهماً مما نصت عليه المادة 20 من الوثيقة، سيما بالطريقة التي كتبت بها وبوضعها في سياق المواد الأخرى جميعها دون انتقائية أو تجزئة. ويبدو لي أن حماس أرادت فقط أن تسحب الذرائع وأن ترمي بالكرة – إن وجدت – في ملعب الكيان الصهيوني وأن تصل مع حركة فتح إلى حد أدنى يمكن التوافق عليه ولو لاحقاً. ثمة أسباب ذاتية تمنع حماس من الالتحاق بركب فتح، وهناك أسباب أخرى أكثر تأثيراً تتعلق بانهيار فكرة حل الدولتين أصلاً صهيونياً ودولياً، وبالتالي فليس ثمة «جَزر» كثير يمكن أن يغري حماس سيما وهي تعرف تاريخ التنازلات الفلسطينية والنتيجة الصفرية التي وصلتها القضية من هذا المسار. وفق المتغيرات الدولية والتطورات الإقليمية الأخيرة، لن يحمل الكيان الصهيوني وحلفاؤه في المنطقة والعالم إلا «العصا» لحركة حماس، ولذلك ينبغي أن تشغل هي نفسها بكيفية مواجهة هذه العصي وتكسيرها.

لا يمكن لأحد أن ينكر على حماس بذلها الجهد في تحصيل عناصر الصمود والقوة، ومحاولة تخفيف الضغوط عنها، والعمل على فتح الأبواب الموصدة إزاءها في المنطقة والعالم، والسعي لأن تكون جزءاً من قيادة الشعب الفلسطيني، لكن دون تعديل هويتها من حركة مقاومة إلى فصيل سياسي مجرد، أو من حركة تحرر وطني إلى حزب سلطة كما فعلت فتح وخسرت.

لم تغازل حماس في وثيقتها المجتمع الدولي ولم تغمز بعينها للكيان الصهيوني، فوثيقتها السياسية تزخر بأفكار وصياغات واضحة حول التمسك بكامل التراب الفلسطيني وفكرة التحرير قبل الدولة وعودة اللاجئين ورفض الاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني والتأكيد على حق المقاومة المسلحة واعتبارها «الخيار الاستراتيجي» للفلسطينيين ورفض أوسلو والقرارت الدولية التي تنازلت عن الحقوق الفلسطينية، وهذا يبعد الوثيقة عن كونها مبادرة سياسية أو تنازلاً واضحاً من حماس.

ورغم ذلك، فإن الإشارة التي قدمتها الحركة في وثيقتها توحي بأنها قابلة للتراجع أمام الضغوط (أو التفاعل مع المتغيرات، لا فرق)، وهو ما سيشجع مختلف الأطراف على زيادة الضغوط وليس تخفيفها. ولذلك أجد أنه كان من الخطأ إدراج المادة المتعلقة بفكرة الدولة في هذه الوثيقة لما ستتسبب به من تقييمات وتفسيرات وضغوط وجدل داخلي وخارجي هي في غنى عنه، وسيما وأن فائدته العملية ليست بالكبيرة. أكثر من ذلك، من قال إن الفلسطينيين مطالبون بتقديم مبادرات أو تصورات لحل القضية الفلسطينية لن تعدو في الفترة الحالية أن تكون مطارحات فكرية لا رصيد لها في الواقع؟

في المنعطف الخطير الذي تمر به القضية الفلسطينية حالياً، وفي ظل مرور حركة حماس بانتقال قيادي مهم في تاريخها، ينبغي عليها الاهتمام بالتحديات الحقيقية التي تفرض وستفرض نفسها عليها الآن ومستقبلاً، وفي القلب من هذه التحديات صراع الهوية والالتزامات الذي فر ض نفسه على حماس بعد دخولها في انتخابات عام 2006 لتتحول إلى مقاومة و«حزب حاكم» (مع عدم انطباق هذه التسمية على الواقع الفلسطيني) في آن معاً. استفادت الحركة من ذلك أن فتحت لنفسها قنوات التواصل الخارجية وحمت مقاومتها في الداخل، فهل ما زالت بحاجة للبقاء داخل إطار أوسلو ولو رمزياً، أم يجب عليها التفكير بكيفية العودة لتكون حركة مقاومة خالصة (ضمن مفهوم المقاومة الشامل)؟

لا أدّعي أنني أملك حلاً سحرياً يمكّن حماس من فعل ذلك، ولا أظنه سهلاً بكل الأحوال، لكنني أعتقد أن هذه هي الأسئلة الحقيقية التي تحتاج الحركة اليوم بعد 30 عاماً من انطلاقها للإجابة عليها.

أعلنت حركة حماس عن وثيقتها ولم تتغير بعدها عما كانت عليه قبلها، ولا تغيرت طبيعة الصراع مع العدو الصهيوني بعدها، لكن الجدل بدأ وليس مرشحاً للانتهاء قريباً. الشعب الفلسطيني الذي لدغ من فتح والمنظمة سابقاً يشفق على حماس – ومقاومتها – من أن تسير في نفس الطريق ولو بدرجة مختلفة نسبياً و/أو سقف زمني أطول، بل حتى ولو دون قصد أو وعي، ولذلك ينبغي أخذ النقد والنقاشات الدائرة على محمل الجد والمسؤولية والقبول، فحماس لم تعد اليوم تمثل ذاتها فقط بل هي الفصيل الأكبر للمقاومة الفلسطينية وتمثل أمل الشعب بتحرير الأرض.