في 18 أغسطس/آب 2005، بدأ العدو الصهيوني في الانسحاب من قطاع غزة. كان ذلك الانسحاب نتيجة لحدثين متضادّين، الأصل فيهما التناقض التامّ، ولكنهما تحالفا لا ليفضيا إلى ذلك الانسحاب فحسب، ولكنهما أسسا لمرحلة الفلسطينيين الراهنة، مرحلة ما بعد الانقسام السياسي والجغرافي.

لم يكن التناقض التام السمة الوحيدة لطبيعة ارتباط الحدثين، ولكن مسارهما انطبع بالمفارقات الجامعة بينهما، فبينما استغرق الحدثان الفلسطينيين كلهم في الضفة الغربية وقطاع غزّة، فإنهما في النتيجة أسسا لانقسام الفلسطينيين، وفرشا الأرض للحالة القائمة الآن.

في أي وقت من الأوقات، ومنذ مطلع القضية الفلسطينية، لم يكن الاجتماع هو الغالب على الحركة الوطنية الفلسطينية، ولكن توقيع منظمة التحرير الفلسطينية – بقيادة حركة فتح التي جسّدها في حينه ياسر عرفات – اتفاقية أوسلو أحدث شرخًا واسعًا وعميقًا بين الفلسطينيين، لم تتضح هوّته السحيقة إلا بمرور الوقت.

بالرغم من أن النتائج المترتبة على قيام السلطة قد أخذت تسفر عن ذلك الشرخ بالاضطهاد الذي أوقعته سريعًا على معارضيها من حركتي حماس والجهاد الإسلامي، إلا أن فداحة هوله لم تنكشف إلا بفضل ضعف السلطة الفلسطينية مع اضطرام انتفاضة المسجد الأقصى، فبينما كانت اتفاقية أوسلو أساس الانقسام السياسي الراهن، فإن انتفاضة الأقصى، التي يُفترض أنها نقيضه، أسست للانقسام الجغرافي القائم.

لم يكن اضطهاد حركة فتح لحركة حماس وليد قيام السلطة الفلسطينية، لكنها مارسته ضد الإسلاميين قبل تأسيس حماس وبعدها.

لم يكن اضطهاد حركة فتح لحركة حماس وليد قيام السلطة الفلسطينية، ومع أنه ليس دقيقًا القول إن مسار العلاقة بين حركتي فتح وحماس بمرحلتيها، ما قبل المقاومة وما بعدها، اختص بالصدام الدائم، إذ إن تاريخًا من العلاقة المرتبكة بالتعاون والتلاقي والشك والريبة جمع بينهما، إلا أن حركة فتح، ولاسيما داخل الأرض المحتلة، ومعها رفيقاتها من فصائل منظمة التحرير، مارست اضطهادها على الإسلاميين قبل تأسيس حماس وبعدها، في الجامعات والسجون وميادين الانتفاضة الأولى، وقد استصحبت الحركتان ذاكرة ذلك الاضطهاد إلى ما بعد قيام السلطة التي دفعته كثيرًا إلى أقصى حدّ لم يكن متخيلًا.

تحولت حركة فتح إلى سلطة ضابطة في ظل الاحتلال، ضمن تركيبتها المعقدة والمتناقضة، فالتناقض الهائل ما بين التحرر الوطني ومقتضيات مشروع التسوية وقيام السلطة التي نفذتها بحذافيرها، لم يكن ليبدو واضحًا في وعي العنصر الفتحاوي الذي يمكنه دون أي قدر من الشعور بالتناقض أن يهتف للشيء ونقيضه، للثورة التي مثّلتها فتح يومًا، ولقمع المقاومة في الوقت نفسه.

هذه المفارقة على مستوى العنصر الفتحاوي البسيط كانت تختزل عمق المأساة الوطنية، وبما يجعل أي حجاج خطابي عقلاني وطني بين فرقاء الساحة الفلسطينية غير متاح، وبما يجعل الصدام الحقيقة الكامنة في قلب التناقض والمؤجلة إلى حين انقلاب موازين القوى بما يحيل إلى حجاج من نمط آخر، من نمط مسلّح!

بالتأكد كانت حركة حماس وظلّت منافسًا سياسيًّا غير مقبول، هكذا نظرت فتح دائمًا إلى حماس، وهذا سبب أوقعت فتح على حماس لأجله اضطهادها مستصحبة العلاقة المتوترة من الانتفاضة الأولى التي كانت قد انتهت للتوّ، وبالرغم مما يقال عن قدرة فتح على استيعاب التنوع في الحركة الوطنية الفلسطينية في مرحلة الثورة بشطريها الأردني واللبناني، إلا أنها لم تتمتع بهذه القدرة مع حركة حماس، على الأرجح لأن حماس كانت منافسًا حقيقيًّا لا خطابيًّا، وربما أيضًا لأن الأرض المحتلة لم تعرف سعة التنوع السياسي وتجسداته الواقعية التي عرفها الفلسطينيون خارج الأرض المحتلة.

كانت تظهر الشخصية الفتحاوية، بمستوييها الرسمي والشعبوي، شخصية عُصابية طالما تعلق الأمر بحماس. تبدو حماس، والحال هذه، عدوًّا لدى التشخيص الفتحاوي، وربما العدوّ المقدّم، ولو استعرنا لغة الجهاديين، فإنها وللمفارقة الموجعة العدوّ القريب.

مثلاً هتفت كوادر فتحاوية في مدنية رام الله أخيرًا في فعاليات مناصرة للأسرى المضربين عن الطعام «يلي قاعد في قطر هيّ الأسرى في خطر»، فمع أن الهتاف ينبغي – في الفعالية هذه – أن يوجّه ضدّ الاحتلال وحده، فإنه لا يفوت الكادر الفتحاوي أن يوجهه أيضًا ضدّ خالد مشعل، رئيس حماس «القاعد في قطر»، دون أي سبب وجيه يستدعي ذلك، فكيف وحركة خالد مشعل خاضت حروبًا وأسرت جنودًا لأجل تحرير الأسرى، وكيف وقيادة فتح طالما قارعت حماس وناوءتها بسبب اشتغال الأخيرة على تحرير الأسرى!

على أي حال، يمكن القول أيضًا إن فتح عادت لاضطهاد حماس بعد قيام السلطة، لأن المقاومة التي تنتهجها الأخيرة، صارت خطرًا على «المشروع الوطني» الذي جرى توصيفه حصرًا بمشروع التسوية، وتحديده بمصالح فتح المرتبطة عضويًّا بوجود السلطة الفلسطينية، وهو ما احتاج إلى إعادة ترسيم الأعداء، وبذلك كُرّست حماس عدوًّا.

انفجرت انتفاضة الأقصى حينما اصطدمت آمال ياسر عرفات بيقين كامب ديفد الثانية، فشاركت قطاعات من السلطة وفتح في تلك الانتفاضة.

بالرغم من ذلك، ظلّ قدر من التوازن قائمًا في فتح يحفظ لها شيئًا من بقايا زمنها الثوري، ويمكن تلخيص ذلك، بوجود ياسر عرفات الجريء على المناورة بالسلاح، وبالكادر العائد من عبق الثورة، والقادم من زمن الانتفاضة الأولى، والذي كان يعتقد حقًّا أن السلطة مرحلة انتقالية صوب الممكن من حق الشعب الفلسطيني.

بذلك أمكن لانتفاضة الأقصى أن تنفجر، حينما اصطدمت آمال ياسر عرفات بيقين كامب ديفد الثانية، وبهذا أيضًا أمكن أن تشارك قطاعات من السلطة وفتح في تلك الانتفاضة دون أن تتخلى فتح عن السلطة التي ثبت أنها لم تعد مرحلة انتقالية، وبهذا أبقت فتح في ذاتها على عناصر التناقض، وممكنات الانقسام الأعمق في القليل من السنوات القادمة!

قبل سبعة عشر عامًا ارتكس مشروع السلطة، ولاحت انتفاضة الأقصى فرصة لتصحيح مسار الحركة الوطنية، بيد أن التناقض المشكّل للشخصية الفتحاوية أفسد تلك الفرصة.

قبل سبعة عشر عامًا ارتكس مشروع السلطة، وتبين أن أفقه الموعود لم يكن أكثر من سراب، ولاحت انتفاضة الأقصى فرصة لتصحيح مسار الحركة الوطنية، وإعادة تأسيس الاجتماع السياسي الفلسطيني على جامع كفاحي يُصلح ما فسد، بيد أن التناقض المشكّل للشخصية الفتحاوية، والوقائع التي فرضها وجود السلطة على فتح، وأولوية السلطة والتمثيل في العقل الفتحاوي، وما يستتبعه من أولوية العداء الداخلي؛ أفسد تلك الفرصة وأحالها إلى تأسيس إضافي لانقسام أكثر عمقًا هذه المرّة.

في جانب منها كانت الانتفاضة بما تخللها من استمرار للسلطة ومسلك سياسي لفتح تعبيرًا عن التناقض الفتحاوي المزمن، التناقض لمتصالح مع ذاته، ولكنه الذاهب باتجاه حسم نفسه.

بعد ملحمة كفاحية تأسست وقائع جديدة. عنفوان الانتفاضة واتساعها وضعف السلطة أسس قاعدة للمقاومة في قطاع غزّة حوّلت حماس هناك إلى قوّة عسكرية مكافئة للسلطة، وقد تأكدت هذه النتيجة باستكمال الاحتلال انسحابه من القطاع في العام 2005، بينما الضفة الغربية التي أوقعت في الاحتلال المقتلة العظيمة باستشهادييها ولأنها كانت وظلت أرضًا محتلة، فقد تعرضت المناطق الصغيرة فيها التي سمّيت في اتفاقية أوسلو مناطق (أ)، -وهي المناطق التي خضعت للسيطرة الأمنية للسلطة الفلسطينية- إلى عملية إعادة اجتياح استمرت من آذار/ مارس 2002 وحتى تموز/ يوليو من العام نفسه، وظلّ الحال كذلك، أي إلغاء خاصية مناطق (أ) الأمنية قائمًا حتى اليوم.

ميّزت رؤية الاحتلال دائمًا بين الضفة وغزّة على أسس جيو إستراتيجية وسياسية وإيديولوجية ودعائية، ومزّقت الشعب الفلسطيني وحالت دون تواصله.

لم يكن ثمة إرادة صهيونية أو إقليمية أو دولية أو فتحاوية لإنهاء السلطة، ولكن ياسر عرفات رحل، واجتياح مناطق (أ) لم يزد من ضعف السلطة، وإنما أعاد صياغتها بما ينزع منها البقية التي جاءت إليها من زمني الثورة والانتفاضة، ثم يعاد تشكيلها بما لا يسمح بتكرار تجربة انتفاضة الأقصى، أما غزة فكانت على موعد لمراكمة سلاح المقاومة وخبرتها وتجربتها، ولكن في شريط ساحلي ضيق ومكشوف وغير ملتحم جغرافيًّا مع الاحتلال.

كانت حماس قد انتهت إلى أن الزمن لن يعود إلى الوراء، غير أنه لن يعود إلى الوراء في غزّة، أما الضفة التي ألقت فيها حماس خيرة شبابها وصفّها الأول في موقد المعركة، واستنزفتهم بالشهادة والاعتقال، وفي بيئة تنظيمية غير قادرة على استيعاب الضربات وتعويض الفقد، فقد بقي فيها الاحتلال، واستعادت السلطة فيها أنفاسها، وجرت صياغتها من جديد، وأسفرت تلك الصياغات عن سياسات تهدف إلى صرف الجمهور الفلسطيني عن موقعه في مواجهة الاحتلال، وقد تطلب هذا إعادة تشكيله من جديد.

ميّزت رؤية الاحتلال دائمًا بين الضفة وغزّة على أسس جيو إستراتيجية وسياسية وإيديولوجية ودعائية، ومزّقت الشعب الفلسطيني وحالت دون تواصله، وهي بذلك خلقت مجتمعات منفصلة، وفي الأساس كان هذا العامل الأول التي دارت عليه الوقائع، حتى انتهت إلى قضايا منفصلة، قد تتقدم في الوعي الآني على القضية الأصل التي انبثق عنها الكفاح كله بعذاباته كلها. بدأ ذلك يرتسم منذ الانتخابات التشريعية في العام 2006، وذلك تتمة الحكاية.