يسير الضوء في خطوط مستقيمة مالم يعترض طريقه شيء. تعد هذه القاعدة من القواعد الأساسية التي تشكل رؤيتنا للعالم والكون من حولنا. إن تصورنا كبشر للعالم والكون الشاسع المحيط بنا يخضع لعدة قواعد تتحكم في منظورنا لكل ما نراه من النملة الصغيرة إلى المجرة الضخمة.

حتى وإن استطاع العلم تحريرنا من هذه الدوجما الإدراكية، فإن عقولنا ستظل تعمل بالطريقة نفسها. هذا بالطبع مع الفارق الجوهري بأننا أصبحنا نعلم بأننا نعيش خدعة. لقد تطور العقل البشري إلى درجة أنه يستطيع استغلال خداع حواسنا لنا لنقوم باستنتاج معلومات جديدة عما لا نستطيع أن نراه.

عودة إلى الضوء، ماذا إذن لو تلاعبت بنا الخطوط المستقيمة؟


عدسة كونية

في ثنايا الثورة التي أحدثتها نظرية النسبية العامة لأينشتين، اكتشفنا أن نسيج الزمان والمكان ليس صفحة مستوية كما كنا نعتقد. لقد قامت الأجسام التي تمتلك كتلة ضخمة بإحداث انحناءات وانبعاجات في النسيج الزمكاني. من هنا نشأت قوة الطبيعة التي أطلقنا عليها اسم قوة الجاذبية Gravity force.

كان للأمر تداعيات راديكالية جدًا في تأثيرها على معلوماتنا عن الأجسام الكونية المحيطة بنا. طبقًا لميكانيكية عمل عيوننا فإننا نرى الأشياء عندما يسقط الضوء الصادر منها أو المنعكس عليها على أعيننا. ولأننا نعتقد – أو تعتقد مكونات أعيننا وخلايا مخنا – أن الضوء يسير في خط مستقيم، فإننا نعتقد أن مصدر الضوء دائمًا ما يقع على امتداد بصرنا مباشرة كما في الصورة

عدسة الجاذبية النسبية أينشتاين نجوم
الموضع الظاهري لنجم مقارنة بمكانه الحقيقي نتيجة انحناء الضوء بسبب الجاذبية

في الواقع، يسير الضوء بالفعل في خط مستقيم، ولكن الخط المستقيم السائر على سطح منحنى ينحني مع السطح أيضًا دون أن يشعر بأي تغيير في الاتجاه. يشبه الأمر سيرنا في الشارع، هل تشعر وأنت تسير في طريقك بأنك تسير على سطح كروي؟ هل تشعر بأنك تسير في دائرة؟ بالطبع لا، وكذلك لا يشعر الضوء المستقيم بأنه ينحني، ولا تشعر أعيننا بذلك.

لهذا السبب، ولأن أعيينا لا تدرك الانحناء الزمكاني، فإننا الضوء القادم من جسم بعيد إذا مر حول جسم آخر في طريقه إلينا، وكان هذا الحدث قد أحدث انحناء في نسيج الزمكان بطبيعة الحال، فإن الضوء ينحني معه ثم يكمل مسيرته نحونا فنتخيل أن الجسم في موضع غير موضعه الحقيقي.

هذه هي الخدعة التي تلعبها طبيعة الكون علينا. وهي أيضًا الخدعة التي استطاع العلماء استغلالها لمصلحتنا. تلك هي العدسة.


وراء الشمس

في عام 1919 قام اّرثر ادينجتون بمصاحبة مجموعة من أفضل فلكيي العالم بتقسيم نفسهم إلى مجموعات سافرت كل منها في رحلة لتسجيل كسوف الشمس الكلي من مكان مختلف في شتى بقاع الأرض. كان لدى ادينجتون شك في البيانات التي تواجدت آنذاك بخصوص مواقع بعض النجوم والأجرام السماوية وكان بحاجة لطمس نور الشمس ليعرف أكثر.

عندما اختفت أشعة الشمس المسببة للتشوش، استطاع ادينجتون وزملاؤه تسجيل مواقع النجوم القابعة في خلفية الشمس دون أن تختفي تحت الوهج الغامر للشمس، وهكذا ظهر للعيان أن شك ادينجتون كان في محله.

لقد ظهرت النجوم خلال الكسوف في مواقع مخالفة لمواقعها الحقيقية، ظهرت كما لو كانت أكبر من حقيقتها وأكثر لمعانًا وكما لو كانت تتباعد عن مركز ما. بالطبع لم يتمكن ادينجتون من فهم السبب، إلا أن هذه الملاحظة كانت من أوائل أدلة صحة نظرية النسبية العامة لأينشتين.

اّرثر ادينجتون

لننظر للأمور من الأرض. عندما يأتي الضوء من الجسم البعيد بالنسبة إلينا ليمر بالقرب من الجسم الأقرب إلينا، فإن هذا الجسم الأقرب يكون قد تسبب في ثني نسيج الزمكان حوله وبالتالي ينحني الضوء في سيره على هذه المنحنى كما ذكرنا. عند هذه المرحلة يصبح الجسم الأقرب كما لو كان عدسة مكبرة تتسبب في دوران الأشعة حول الجسم فيما يسمى بحلقة أينشتين Einstein ring، الأمر الذي ينشأ عنه وهم صورة كبيرة. لذا سمي الحدث باسم تأثير عدسة الجاذبية Gravitational lensing.

بالطبع كان هذا التأثير صاحب حظوة بالغة لدى فلكيي المادة المظلمة. بتعريفها، فإن المادة المظلمة لا يمكن رؤيتها لأنها لا تتفاعل مع الضوء أو الإشعاع الكهرومغناطيسي كما نسميه، فهي لا تمتص ولا تشع ولا تعكس ولا تشتت. إنها قابعة هناك في سكون.

من حسن حظنا أن تأثير العدسة الجذبوي قد منح صوتًا لهذا السكون. ربما لا تتفاعل المادة مع الضوء إلا أنها مازالت في النهاية «مادة». نعني بذلك أنها تمتلك كتلة وبالتالي فإنها تحدث انحناء في نسيج الزمكان أيضًا، وبالتالي فإن مراقبة ضوء الأجسام المتواجدة بعيدًا وقياس مدى خطأ قياسات مواقعها، يمنحنا تحديدًا دقيقًا للكتلة التي تسببت في ثني النسيج الذي مر عليه هذا الضوء.

إنه أمر شديد البساطة والتعقيد في آن واحد.


نجاح جديد

عدسة الجاذبية النسبية أينشتاين نجوم
عدسة الجاذبية النسبية أينشتاين نجوم

واستمرارًا في مسلسل نجاحات هذه التقنية، وباستخدام كسوف نجم بعيد لنجم أبعد منه، ولأن تيليسكوب هابل يملك من التطور التكنولوجي ما يكفي ليمنحنا قياسًا دقيقًا لمدى اختلاف موقع النجم خلال الكسوف عن موقعه في الأوقات العادية، فإن ساهو وزملاءه من الباحثين في الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة تمكنوا لأول مرة من مشاهدة ما يسمى بتأثير العدسة غير المتماثل Asymmetric lensing.

بالإضافة إلى تسجيل الحدث فقد تمكن الفلكيون من استخدام التأثير في تحديد كتلة قزم أبيض صغير white dwarf يدعى stein 2051 B. عندما مر القزم الأبيض أمام النجم البعيد التقط هابل تغير موقع هذا النجم البعيد بدقة هائلة ومن ثم تم حساب كتلة هذا القزم الأبيض من مقدار ثنيه لنسيج الزمكان والذي تم قياسه بدوره بمقدار انحراف الضوء. تم نشر هذا البحث في مجلة Science ليضع حدًا للجدل الثائر حول هذا القزم الأبيض منذ ما يقرب من قرن.

قد تبدو نظريات مثل ميكانيكا الكم والنظرية النسبية أمورًا نظرية بحتة، إلا أن تطبيقاتها دائمًا ما تكون المسئولة عن إجابات الأسئلة الأعمق والأكثر عسرًا على الإجابة. استطاعت نظرية أينشتين أن تجعلنا نضع نجمًا بعيدًا على كفة الميزان، هذا بعد أن وضعت لنا التفاصيل الدقيقة عن المجرات البعيدة على طبق من فضة بنفس التقنية وباستخدام تيليسكوب ألما Alma. لا يبدو أن النظرية ستتوقف عن إبهارنا في المستقبل القريب.

المراجع
  1. In First, Einstein Relativity Experiment Used to Measure a Star's Mass
  2. Relativistic deflection of background starlight measures the mass of a nearby white dwarf star
  3. F. Courbin, D. Minniti: Gravitational lensing- an astrophysical tool