إن الرسم والكتابة على الجدران والأبواب قديمان قدم الإنسان نفسه، أوجدتهما حاجته الملحة إلى التعبير ورغبته العارمة في التغيير. استعمل فيهما أدواته البدائية من فحم وأحجار ونحوهما؛ ليسجل حكمته وأقاصيصه، ويشكو التقاليد القاسية، ويبوح بهجاء السلطة الباطشة التي تهدد وجوده وحريته. وصارت هذه الوسيلة بمضي الزمان وسيلة ناجعة لدى المهمشين والمقموعين، وإن اتسمت عندهم بالتلاشي والاندراس؛ لأنها تُرتكب في الأماكن المفتوحة على حين غفلة من الناس لئلا يُعرف كاتبها فيبطش به، وتدون بمواد سريعة المحو لذا عُرفت بالأثر الدارس والفن الزائل. اشتهر هذا الفن في عصرنا الحديث بفن الجرافيتي (Graffiti)، ورغم أن هذه التسمية قديمة عتيقة والفن أقدم منها وأعتق؛ فإن الطريقة التي يؤدى بها ما زالت تتسم بالعفوية والتحرر، والتماس المفتوح من الأماكن.

لم تخل كتب التراث العربي من ذكر نماذج جدارية متنوعة نُسبت إلى بعض الأنبياء والمرسلين، وأخرى إلى أصحاب الحضارات القديمة؛ من ذلك ما نُسب إلى يوسف عليه السلام من كتابة بعض العبارات على باب سجنه. وما قيل إن موسى عليه السلام كتبه بالعبرانية على بعض الأحجار. وما كتب على عرش بلقيس ملكة سبأ. ومنه الهجاء الذي أصبح أهل مكة ذات يوم فوجدوه مكتوبا على جدران دار الندوة..إلخ. ولا شك أن هذه المقالة تضيق عن حصر المكتوبات الجدارية أو استيفاء بعضها استيفاء تاما؛ لأنها لا تعدو أن تكون سعيا أوليا في رصد هذا النمط في تراثنا العربي؛ الذي يحفل بطائفة كبيرة تؤكد أنه لو جاءنا وافرا لجاء كلام ورسم كثير. ومن ثم تتغيا المقالة رسم مخطط عام لتلك الكتابات يضم أطرافا منها ويصنفها في فئات ربما أعانت على القراءة الكاشفة لرسائلها الاجتماعية والسياسية. وما نعرضه من هذه المادة جُمع من كتب الأدب مما سُجِّل على جدران البيوت، والقصور، والسجون، والخرائب وغيرها.


أصحاب المذاهب المخالفة

لا شك أن بعض أصحاب المذاهب والعقائد المخالفة تعرضوا للوشاية والتنكيل، وعوقبوا بالتهميش والتشويه في غير عصر لاختلاف آرائهم أو لشذوذها؛ مثل عبد الله بن المقفع الذي اختُلف في سبب مقتله، وقيل إنه رُمي بالزندقة، وكثيِّر عزة الذي قلَّت رواية الشعر عنه في العراق ولم يستحسن العراقيون شعره لإفراطه في تشيعه مع أنه كان عظيما في نظر نفسه، وفي نظر النقاد كما قال الدكتور زكي مبارك [1]، والتضييق والتربص بأصحاب المذاهب المغايرة قد يدفعهم إلى الترميز والتخفي في كتاباتهم، وهذا ما وقفنا عليه في بعض الكتابات الجدارية؛ من ذلك ما حكاه بعضهم قال: كنت بالمدينة؛ إذ أقبل رافضي بفحمة، فكتب بها على الجدار:

من كان يعلم أن الله خالقه … فلا يحب أبا بكر ولا عمرا

وانصرف. يقول الراوي: فجعلت مكان «يُحب»، «يَسب» ورجعت إلى مجلسي، فجاء فوجده كما أصلحته، فجعل يلتفت يمينًا وشمالًا، كأنه يطلب من صنع ذلك، فلما أعياه الأمر انصرف [2].

ومن ذلك ما وُجد مكتوبا على بعض الجدران إبَّان مقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما:

فسأل المارة راهبًا عمن كتبه فقال -كما زعموا- إنه مكتوب هنا من قبل أن يُبعث نبيكم بخمسمائة عام. وقيل إن الجدار انشق فظهر منه كف مكتوب فيه بالدم هذا السطر [3] ولا تخلو هذه الحكاية -وغيرها من الحكايات- من ذلك البعد الأسطوري الملحوظ والتعليل الميتافيزيقي الذي أفسح له غياب الفاعل ورغبة الاصطباغ بالمقدس المجال ليتمدد، وهو بُعد يحتاج إلى إفراده بالدرس والتحليل. ويتضح من النموذجين المتقدمين وأضرابهما كيف اتُّخذت الكتابة الجدارية وسيلة للدعوة إلى المذهب، أو لمعارضة السلطة وكشف ظلمها وتجاوزها. وتتضح أيضا بعض خصائص الفن التي تتمثل في سرعته وعفويته، وفعاليته، هذا غير سمة الزوال والتبدد فما كان أيسر تغيير السُّني لعبارة الرافضي في وقت الكتابة نفسه.


المساجين

نُسب إلى النبي يوسف عليه السلام أنه كتب على باب السجن بعض العبارات التي تلخص تجربته المريرة؛ مثل قوله: (هذه منازل البلوى، وقبور الأحياء، وشماتة الأعداء، وتجربة الأصدقاء)[4].

ومن ذلك قول أعرابي:

ولمّا دخلت السجن كبّر أهله … وقالوا: أبو ليلى الغداة حزين وفي الباب مكتوب على صفحاته … بأنّك تنزو ثمّ سوف تلين[5]

ويقال: إنّ قولهم «تنزو وتلين» رؤي مكتوبا على باب حبس فضربه الناس مثلا. وهو يُضرب للرجل يتعزز ثم يذل.

وقال موسى بن عبد الملك: رأيت وأنا في الحبس، كأن قائلا يقول:

لا زلت تعلو بك الجدود … نعم وحفت بك السعود أبشر فقد نلت ما تريد … يبيد أعداءك المبيد لم يمهلوا ثم لم يقالوا … بل يفعل الله ما يريد فاصبر فصبر الفتى حميد … واشكر ففي شكرك المزيد

قال: فانتبهت، وقد طفئ السراج، فطلبت شيئا، حتى كتبت الأبيات على الحائط…فما مضى على ذلك إلا أيام يسيرة حتى أطلقت [6].

وجل هذه الكتابات تصف أحوال أهل السجن والمأسورين وما يستشعرونه من ذل ومهانة، وفي بعضها تعزية لهم وتبشير بالفرج كما تبين. وما زالت جدران السجون تحمل إلى اليوم مثل العبارات الموجزة التي تكتب بالفحم والطباشير وغيرها من الأدوات الساذجة التي تتيسر للسجين أو الأسير.


أصحاب المظالم

ما أكثر النصوص والعبارات التي سُجلت في معارضة الحكام وهجوهم، أو في وعظهم ومناصحتهم، من ذلك ما روي من أن المأمون رأى رجلا يكتب بفحمة على حائط قصره، فقال لبعض خدمه: اذهب إلى الرجل، وانظر ما يكتب وائتني به. فقبض الخادم عليه وتأمل ما كتبه فإذا هو:

يا قصر جمع فيك الشُّوم واللوم … متى يعشِّش في أركانك البُوم يوم يعشش فيك البوم من فرحي … يكون أول من ينعيك مرغوم

فأحضره الخادم فقال له المأمون: ويلك ما حملك على هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنه لا يخفى عليك ما حواه قصرك من خزائن الأموال والحلى والطعام والشراب والفراش… وغير ذلك، وإني قد مررت الآن عليه وأنا في غاية من الجوع والفاقة، وقلت في نفسي: هذا القصر عامر عال، وأنا جائع ولا فائدة لي فيه، فلو كان خرابا ومررت به لم أعدم منه رخامة أو خشبة أو مسمارا أبيعه، وأتقوت بثمنه أو ما علم أمير المؤمنين ما قال الشاعر؟ قال: وما قال الشاعر؟ قال:

إذا لم يكن للمرء في دولة امرئ … نصيب ولا حظ تمنى زوالها وما ذاك من بغض لها غير أنه … يرجي سواها فهو يهوى انتقالها[7]

وكَان ابن الزيات يتخذ تنورا من حَديد له مسامير يُعذب فِيهِ الناس أَيَّام وزارته، وإذا قال له أحد ارحمني أيها الوزير فيقول لَهُ الرَّحْمَة خور فِي الطبيعة، فلما اعتقله المتَوَكل أَمر بإدخاله فِي التَّنور فقال له يا أمير المؤمنين ارحمني فقال له: الرحمة خور فِي الطبيعة كما كان يقول للناس، وكانت مدة تعذيبه أربعين يوما إلى أن مات فيه، وَوجد مكتوبا بالفحم فِي جَانب التَّنور:

من لَهُ عهد بنوم … يرشد الصب إِلَيْهِ رحم الله رحِيما … دلّ عَيْني عَلَيْهِ سهرت عَيْني ونامت … عين من هنت عَلَيْهِ[8]

العشاق والمجانين

أترجو أمةٌ قتلت حُسينا … شفاعةَ جَدِّه يوم الحساب

كان العشق في المجتمعات العربية من المحرمات التي تحول عند كشفها دون وصل العاشق والمعشوق، إذ يُضرب بينهما بسور من الأعراف والتقاليد، الأمر الذي قد يدفع إلى بث الشكوى عن طريق بعض الأدوات المتاحة مثل الكتابة الجدارية؛ من ذلك أنهم ذكروا أنَّ العتبي حبس ابنا له في بيتٍ لمَّا ظهر على أنَّه عاشق ليكون الحبس رادعا له ففتح الباب عنه بعد مدَّة فوجده قد كتب على الحائط:

أتظنُّ ويحكَ أنَّني أبلَى … وأُطيعُ رأيك في الهوَى عقلا

ومدَّ الحرف الأخير مع استدارة حائط البيت أجمع فلمَّا نظر أبوه إلى ذلك يئس منه فخلَّى سبيله [9].

ومثلُ العشاقِ المجانين المتظاهرون بالجنون ومن يطلق عليهم عقلاء المجانين الذين يتخدون من جنونهم ستارا لقول ما لا يباح قوله أو بث نصائحهم ومواعظهم دون خوف من العقاب. ومن هؤلاء سعدون المجنون الذي يبدو أنه لم يكن يفارق فحمته؛ فقد شُوهد يوما وبيده فحمة يكتب بها على جدار قصر خراب:

يا خاطب الدنيا إلى نفسه … إن لها في كل يوم خليل ما أقبح الدنيا لخطابها … تقتلهم عمدًا قتيلاً قتيل تستنكح البعل وقد وطنت … في موضع آخر منه البديل أنعم في عيشي وأيدي البلا … تعمل في نفسي قليلاً قليل تزودوا للموت زاداً فقد … نادى مناديه الرحيل الرحيل[10]

تلك طائفة صالحة أحسب أنها تقف القارئ على الكتابات الجدارية عند المهمشين والمقموعين وطبيعتها. وهي تحرض على البحث عن نظائر لها، وعلى تحليلها على المستوى النصي وقراءتها في سياقها التاريخي للوقوف على تطورها وخلفياتها الاجتماعية والسياسية والنفسية. ولعل من أبرز خصائص هذه الكتابة -بحسب النماذج المتقدمة- أنها تتسم بالإيجاز الشديد -شعرا ونثرا- كما أنها كتبت بمواد بسيطة مثل الفحم غالبا. ولا تخلو هذه النماذج من بعض التشكيلات الفنية البصرية التي تتآزر مع البنية النصية كما في بيت العاشق المتقدم الذي كتبه وحرص على مدَّ الحرف الأخير مع استدارة حائط البيت أجمع. ومثله ما روي عن المنصور من أنه دخل قصرا، فوجد في جداره مكتوبا: (ومالي لا أبكي بعينٍ حزينةٍ … وقد قربت للظّاعنين حمول) وتحته مكتوبٌ: إيه إيه؟ أو آهٍ آهٍ – فقال المنصور: أيّ شيءٍ إيه إيه؟ فقيل له: يا أمير المؤمنين إنّه لمّا كتب البيت أحبّ أن يخبر أنّه يبكي. فقال: قاتله الله ما أظرفه![11].


[1] العشاق الثلاثة، دار المعارف، سلسلة اقرأ، 62. [2] نفح الطيب، ت: إحسان عباس، دار صادر، ص256، 257. [3] حياة الحيوان الكبرى للدميري، ت: إبراهيم صالح، دار البشائر ج1 ص 217. [4] المحاسن والأضداد للجاحظ، ت: فوزي عطوي، ص 36. [5] السابق.[6] الفرج بعد الشدة للتنوخي، ت: عبود الشالجي، دار صادر ج2 ص 326، 327. [7] حياة الحيوان الكبرى للدميري، ت: إبراهيم صالح، دار البشائر ج1 ص 526، 527.[8] خزانة الأدب للبغدادي، ت: عبد السلام هارون مكتبة الخانجي ج1، ص 450، 451. [9] الزهرة لداود الأصبهاني، ت: إبراهيم السامرائي مكتبة المنار، ص 434. [10] عقلاء المجانين، ت: محمد السعيد، دار الكتب العلمية، ص54. [11] محاضرات الأدباء للأصفهاني، تحقيق: الدكتور عمر الطباخ، دار الأرقم ج2، ص 85.