ما أشد قسوة هذا الشعور على النفس، أن تشعر بأنك عاجز قليل الحيلة تريد فعل الكثير بل وينبغي عليك فعل الكثير لكنك لا تستطيع أن تفعل شيئا!تُستباح من حولك الحرمات وتُكشف العورات وتُقترف السيئات وتسيل الدماء ويقل العزاء ويموت الأطفال والشيوخ والنساء في العراء ولا يجدون لبرد قلوبهم سكنًا ودفئًا وإيواءً، وأنت جالس في بيتك تريد مساعدة أبيك وأمك وأخيك وأختك وابنك وابنتك هناك وفي كل مكان لكنك لا تجدُ للوصول إليهم أو مساعدتهم بما يرفع عنهم ما أصابهم سبيلا ممكنا، هنا تتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «اللهم إني أعو بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال» يا الله، ما أشد وأقسى قهر الرجال!


في مثل هذا الموقف نتذكر بكاء الصحابي المسكين المعذب حين ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو إليه ما أصابه من أذى المشركين، حتى إنهم قد أطفؤوا الجمر المشتعل في ظهره، وترك الجمرُ في ظهره علامات وحفر كادت تصل إلى عظمه، وحين ذهب يائسًا بائسًا إلى رسول الله يشكو حاله ويطلب الدعاء بالنصر والفرج لفت النبي صلى الله عليه وسلم نظره إلى معنى مهم جدا وهو أن هذا الحال الذي هم فيه قد أصاب الأمم السابقة جميعا، وأن النصر والفرج قادم لا محالة، ولكن للحرية ضريبة يجب دفعها أولا، وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم على هذا. وتعالوا نتأمل هذه الرواية العجيبة عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال:

أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فشكونا إليه فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ فجلس محمرًا وجهه فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ثم يؤتى بالمنشار فيجعل على رأسه فيجعل فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء وحضر موت ما يخاف إلا الله تعالى والذئب على غنمه ولكنكم تعجلون.

نعم يا رسول الله نعجل لأننا بشر، ولأن الصبر صعب، ولأن البلاء شديد، ولأن الألم يكاد يكون غير محتمل، ونحن نعلم يا رسول الله أنك تعذرنا وترق لحالنا ونسألك بالله أن تستغفر لنا [1].


ما هو العجز؟

بمراجعة المعجم نعرف أن عَجَزَ أي: لم يكن حازمًا.

وأَظْهَرَ عَجْزًا أي: ضَعْفًا، وهو عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى القِيَامِ بِعَمَلٍ مَّا.

وفي علم النفس هو: عدم القدرة على أداء وظيفة ما، ويكون ذلك عادة من جرّاء ضرر أو ضعف يلحق البنية.والعَجْز في ميزان المدفوعات: زيادة المصروفات عن الإيرادات.والعَجْز في الميزان التِّجاريّ: زيادة قيمة الواردات عن قيمة الصَّادرات.والعَجْز الماليّ: المقدار النَّاقص عن مبلغ المال المطلوب أو المتوقَّع.والعجوز المرأة الكبيرة التي ضعف بدنها، والرجل يقال له: مسن.


هل تشاركونني الرأي أن الأنواع المختلفة المذكورة للعجز قد أصيب بها جميعا هذا الجيل المعاصر.جيل أصيب أبناؤه بالعجز النفسي والفكري والثقافي والعسكري حتى فقد واحدًا من أهم مقومات الصحة النفسية وهو: الانتماء.إن الانتماء لفكرة أو لقوم وأمة هو أحد المكونات الأساسية للشخصية السوية، وذلك لأن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، وأن يعيش الإنسان في جماعة بشرية فهذا أمر يوجب عليه بعض الواجبات ويحصل به على بعض المكاسب ، وهذا الجيل بسبب عجزه عن إفادة قومه الذين ينتمي إليهم أو الاستفادة منهم بشكل يضمن استقراره وأمنه وسلامته فإنه قد أصابته حالة من عدم الانتماء لأي شيء تقريبا ، وأصبحت مصطلحات مثل: الوطن، الأمة، الناس، الجماهير، الشعب، الأرض، الأفكار، القيم، وغيرها كثير أصبحت عند الكثير من أبناء هذا الجيل مجرد مصطلحات جوفاء لا قيمة لها ولا تمثل بالنسبة له أمرا مهما وذلك ببساطة بسبب عجزه عن الوفاء بمتطلبات الانتماء إلى مصل هذه المعاني والأفكار.العجْز (بسكون الجيم) هو الضعف وعدم الحزم، والعجَز (بفتح الجيم) هو التقدم في العمر وضعف النشاط والهمة، وهما متقارنان في كثير من الأحيان لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصرني الشباب وخذلني الشيوخ.والسؤال المهم هنا: هل شباب هذا الجيل ما زالوا شبابا حقا أم أصابهم عجَز مفاجئ أدى بهم إلى ما يشبه العجْز التام؟يقولون: عندما نكبر تصغر الأشياء من حولنا، حتى أحلامنا تصغر جد.وقد كبر هذا الجيل فجأة، بل لقد شاب رضيعهم في حجر أمه من هول ما هو مقبل عليه.فهل من محضن لأحلامنا يمنعها من الذبول والانكماش؟

إن أعمار الناس لا تحسب بالأيام والشهور والسنين، بل تحسب بالخبرات والمواقف والأحداث التي يمرون بها، وهذه الخبرات والمواقف والأحداث إما أن تؤدي إلى النضج والفهم والبصيرة وعلو الهمة ومواصلة السعي أو تؤدي إلى اليأس والهم الإحباط والتوقف عن كل أمر مفيد إفادة متعدية للآخرين، فما الفارق المؤثر الذي يساهم في تحديد أحد المصيرين – مواصلة السعي أو الإحباط والتوقف- ؟الفاروق المؤثر هو إضافة أعمار إلى أعمارنا وخبرات إلى خبراتنا ولا يكون ذلك إلا بتأمل عميق للتاريخ، فإن من تأمل التاريخ علم أن كل ما نحن فيه أمر متكرر جدًا.وأن لحظات العدل قليلة، وأن الظلم كثيرا ما ينتصر ويستمر، وأن الدنيا دار بلاء وليست دار جزاء، وسيعلم كذلك أن الظلم مهما طال فسينكسر، وأنه بعد انكساره سيعلو مرة أخرى بأشكال أخرى كثيرة، وأن أتباع الحق قليل، وأن اللذة من نصيب المغامر، وأن الجبناء يموتون أيضا، وأن الشجاعة لا تنهي العمر مبكرا بالضرورة، وأن كل شيء ما سوى الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل.من تأمل التاريخ علم كثيرًا وحزن كثيرًا وفرح كثيرًا وعاش أعمارًا كثيرة فوق عمره، ومن لم يقرأ ماذا حدث قبل أن يولد سيعيش طوال حياته طفلًا.


رسول الله يقول: استعن بالله ولا تعجز، وأتبع السيئةَ الحسنةَ تمحها.ويقولون: على قدر الغاية يكون السعي وعلى قدر الهم تكون الهمة.وإذا أتعب الإنسان بدنه استراحت روحه وإذا أرح بدنه تعبت روحه.إن علاج العجز هو التدريب على العمل ومواصلة السعي وعدم التعلق بالنتائج بل نعمل بكل قوة وعزم وهمة وشعارنا: «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب»، وما أعمالنا إلا معذرة نعتذر بها لربنا، كلنا ثقة أن الفرج قادم بأيدينا أو بأيدي غيرنا، ومن مات فقد قامت قيامته، فنحن نحاول أو نعمل قبل موتنا عملنا نعتذر به إلى ربنا عما أصاب أمتنا من العجز وقلة الحيلة.علاج العجز هو محاولة العمر قدر الطاقة وقراءة التجارب المختلفة للناجحين سواء رأوا النجاح بأنفسهم أو حدث بعد موتهم بسبب أعمالهم، وقلوبنا بيد الله مطمئنة راضية عن كل مصير والحمد لله رب العالمين.


[1] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حياتي خير لكم، تحدثون ويحدث لكم، فإذا أنا مت كانت وفاتي خيرًا لكم، تعرض علي أعمالكم، فإن رأيت خيرًا حمدت الله، وإن رأيت شرا استغفرت لكم.