مسقط رأس وموطن كثير من أعلام الإسلام؛ ومنهم: أبو حامد الغزالي، وأبو علي بن سينا، وأبو مسلم الخُراساني، وأبو الريحان البيروني، وأبو نصر الفارابي، وأبو القاسم الفردوسي، ونصير الدين الطوسي، وعلي شريعتي، ومحمد علي شجريان، وآخرين. إنها مشهد؛ ثاني أكبر المدن الإيرانية (بعد طهران)، ودُرّة إقليم خراسان. تقع في أقصى الشمال الشرقي لإيران، بالقُرب من حدودها مع أفغانستان وتركمانستان؛ وكانت محطة مهمة على طريق الحرير القديم مع مرو. وهي تضُم اﻵن بقايا طوس التاريخية، التي صارت تُعد من أعمالها. وكانت مشهد مُجرّد قرية صغيرة (اسمها سناباد) حتى فر إليها سُكّان طوس من وجه الغزو المغولي، الذي محا طوس القديمة؛ وتكاثروا حول مشهد ومرقد الإمام الرضا، الذي اكتسبت المدينة اسمها من احتضانها له. وهو علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين (السجّاد) بن سبط رسول الله، الحسين بن علي بن أبي طالب؛ وثامن سلسلة الأئمة الإثني عشر عند الشيعة الإماميّة. وتحوي طوس أيضًا قبر الفِردوسي؛ شاعر الفرس الأكبر وصاحب منظومة شاه نامه (كتاب الملوك)، التي تتغنّى بأمجاد الفُرس قبل الإسلام؛ وقد نُظمت للسلطان السُنّي المذهب التركي العرق: محمود الغزنوي. وقد ترجمها نثرًا، زمن الأيوبيين؛ أبو الفتح علي البنداري الإصبهاني (المتوفّي 643 هجرية)، وعُني العلامة عبدالوهاب عزام بنشر هذه الترجمة مُحقَّقة. كما تحوي طوس قبور: الخليفة هارون الرشيد العبّاسي، والشاه طهماسب الصفوي، ونادر شاه أفشار، ونُخبة من أهم علماء الشيعة على رأسهم الحرّ العاملي، والبهائي، والطبرسي صاحب مجمع البيان. وقد فُتحت في عهد عثمان بن عفّان، رضي الله عنه؛ ووليها للأمويين أعلامٌ أمثال: المهلب بن أبي صفرة، وقتيبة بن مسلم، ونصر بن سيَّار، ودعبلًا الشاعر.

وهي مدينة يزدحم فيها التاريخ والحاضر، ويثقُل أثيرها على الزائر، طيِّبٌ هوائها في فصل الربيع، جيِّدٌ خُبزها، وممدوحةٌ فاكهتها إذا نضجت، وتزدحم في شوارعها أشجار التوت مثل كثير من المدن الإيرانية. دخلتُها فجر الأحد لتسعٍ بقين من شهر رجب، في العام السادس والثلاثين بعد الربعمئة وألف من هجرة النبي المعصوم، صلى الله عليه وعلى آل بيته وصحبه وسلم. وكان أول ما فعلت بعد حط الرحال وقبل الاغتسال، وافتقدته عند الرحيل وبعد التجوال؛ هو أداء صلاة الصبح في مشهد جدّنا الإمام الرضا عليه السلام. وفي مقامه، نورَّه الله؛ يتخذُ المصلي الضريح وراءه ظهريا، ولا يستقبله؛ فلا يحول بينه وبين القبلة شيء. لكني في نفس المقام شهدت كثيرًا مما شاع من مُنكرات العوام في أضرحة الأولياء، والتي ترتعد لها الفرائص؛ مما شهدنا له مثيلًا من قبل في غير مكان، وأشهرهم مرقد جدّنا الإمام الحسين بن علي، عليهما السلام؛ بالقاهرة. ومن ذلك: السجود على أعتاب المقام، والتمسُّح بأركانه وتقبيلها، ودعاء صاحبه من دون الله. وهي أفعالٌ شاعت بين جُهّال المتصوِّفة وعوام المتدينين في كل عصرٍ ومصر، ويُحمل ظاهرها على الشرك، والله أعلم ببواطن من ابتلوا بها لجهلٍ، وفتنهم الحُبّ؛ فلم يميّزوا بين الخالق والمخلوق، والعبد والمعبود. وأُشهد الله أن ابن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم؛ وكل مسلم صحيح الإسلام بريء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب.

وضريح الرضا فخمٌ بصورة تصرف القلب ولا تؤدي لحضوره، وهو ما أعانيه في المساجد والأضرحة الفخمة المهيبة. إذ لا أجد قلبي في صلاة ولا أخشع بدعاء في وجود هذه الزخارف، والتي تدُل على أبّهة المُلك الدنيوية بأكثر مما تدُل على زُهد الولاية الدينية، ولا أجد قلبي إلا في مُصلى مجهول مُجرّد من كل زينة، كما في المطارات والزوايا الخفيّة. في هذه الأماكن فقط، حيث أصلي ما شاء الله أينما حللت؛ أشعر بعُمق معنى الصلاة في أي مكان بطول الأرض وعرضها، وفي كل بلدٍ أسيحُ فيه بإذن الله. وليس مرقد ابن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم؛ في بساطة وتواضُع أكثر أضرحة الأولياء في أنحاء العالم، بل هو في فخامة وأبهة قصرٍ ملكي. ولم أعرف مثيلًا له في الفخامة سوى قصور الطواغيت الجبّارين من أمثال العثمانيين والصفويين، بل إنه صار يُضاهيها؛ فكل الحوائط الداخلية مكسوّة بالزجاج الفاخر، والأرض مكسوّة برخامٍ من نوعٍ نادر باهظ الثمن. ويمكن فهم ذلك في إطار كون الرضا ليس مجرد ولي عادي، أو فرع طيّب من شجرة النبي الكريم في بلد ذي تقليدٍ صوفي/عرفاني عريق، بل هو نظريًا وعمليًا أحد أصحاب السلطة في إيران، أو بالأحرى هو أحد مصادر هذه السلطة في النظرية السياسية الشيعية (لاحظ أن شقيقه إبراهيم بن الكاظم مدفون في ضريح متواضع، بجوار المحروق؛ في نيسابور). فاﻷئمة الإثني عشر في التقليد الشيعي ليسوا مجرد أئمة اجتهاد، ولا تقتصر قيمتهم على علمهم أو كرامة انتمائهم للبيت النبوي الشريف، ولكنهم عمليًا أصحاب الدولة ومصدر مقولاتها التأسيسية، وسلف صاحب الزمان المنتظر (الإمام المهدي، الثاني عشر؛ الذي ينتظر الشيعة الإمامية خروجه من العراق). وإذا كان رأس الدولة في إيران، المرشد الأعلى؛ هو نظريًا مُجرَّد نائب عن الإمام الغائب، وقائم مقامه. فهذا يُفسِّرُ، إلى حدٍ ما؛ سبب تعامُل أكثر الإيرانيين مع الإمام الرضا باعتباره ملكًا أو سلطانًا. إذ لا يدخُل الواحد مقامه من الأعتاب الخارجية إلا ويسلم وينحني انحناءة خفيفة تتكرر عدّة مرات، كعادة الجيل القديم من الإيرانيين في تحيّة كل أحد؛ ولا يخرج طول الطريق بظهره؛ بل يلتفت كل حينٍ بنصف انحناءة. أضف إلى ذلك الوجود الكثيف والدائم للمتطوّعين، من أعيان إيران والشيعة؛ خدمة لزوّار المشهد وتنظيمًا لحركتهم، كالحُجّاب على أبواب السلاطين؛ وبعضهم مُسنّ لا يقعُد عما افترض على نفسه قُربى لله ورسوله وآل بيته، وهؤلاء يُسمّون بالفارسية: “خادم افتخاري”.

وبين الإفراط في الزُخرف والمعاملة السلطانية؛ تجد نفسك في حضرة شاه فارسي، ويتلاشى شعورك بأنك في حضرة ولي من آل بيت النبي، صلى الله عليه وسلم. وهذا الزخُرف والهيلمان هدفه الظاهر إخضاع العامة (نظريًا) لسُلطة الإمام الدينية، لكنه يؤدي عمليًا لإخضاع رقابهم للسلطة الدنيوية التي تقوم مقامه، وليس لسُلطة الإمام الأخلاقيّة وفضله وعلمه. ويُمكن اعتبار الضريح (وما حوله من نشاطات) أحد أدوات السلطة في فرض حضورها الدائم، اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا؛ من خلال سرديّة التديُّن المذهبي المفرطة الكثافة والحرارة. ويبدو أن التمذهُب، كصورة نهائية للتقليد في أمور الدين؛ هو الوسيلة المثاليّة، على ما فيه؛ لحفظ تماسُك تديُّن العامّة من فتن الأهواء.

والتحديث يزحف بشراهة على قلب مشهد مُبتلعًا إياه؛ فقد أزيلت البلدة القديمة، المحيطة بالضريح؛ وبدأت الأبراج الإسمنتية في غزو الأفق المحيط بالمقام كما حدث من قبل حول البيت الحرام في مكة. ويا ليتها كانت أبراجًا إسمنتيّة لسُكنى الأغنياء فحسب، ولكنّ أكثرها مراكز تجاريّة فخمة بشكلٍ مبالغ فيه. وقد كان فندقي يقع في شارع نواب صفوي المؤدي للمشهد، والذي حفل بمشروعات هائلة الضخامة جلّها قيد الإنشاء. والمبرر الجاهز لهذه المأساة الحضاريّة والعمرانية والأخلاقية؛ هو الحاجة لتلك المنشآت “التنمويّة” لتغطية التزايُد المستمر في أعداد الزوّار! ويبدو أن ابتذال مفهوم “التنمية” ومنطقه المادّي قد طغى على كل مجتمعات المسلمين ووجداناتهم؛ حتى صار مُرادفًا لمظاهر الرفاه المادي التي تستمتع بها نُخب المترفين، بغض النظر عن قيمتها الإنسانية الحقيقية.

وقد كان دليلي في طوس ونيسابور (أو نيشابور كما تُنطق بالفارسيّة) صديقي الدمث الجوّاد: محمد مهدي خالقي. وهو كاتبٌ مشهديٌّ واسع الثقافة، ذو معرفة واسعة ببلده وعاداتها، فضلًا عن كونه مخرج أفلام وثائقية. وقد أحسن صحبتي وصبر على كثرة أسئلتي وغرابتها، برغم ضعف لغته العربيّة؛ فشكر الله له. إذ كان يضطر أحيانًا لشرح بعض التفاصيل البسيطة التي لا تلفِت أنظار الغالبيّة. وبما أن مشهد أحد مَعقِلين اثنين، في إيران؛ تتشكَّلُ فيهما السردية الشيعية، فقد كانت أسئلتي مُتعلّقة بمظاهر وممارسات شهدتها، وأريد دمجها في نموذجي لأزيده تفسيريّة.

وإذا كان الإمام الغزالي أحد أهم الأعلام الذين ارتبط اسمهم بمدينة طوس، فهي مسقط رأسه ومُعتزله إبان أزمته الروحية ومدفنه؛ إلا أن قبره فيها غير معلوم اليوم، وإن كان البعض يذهب إلى وجوده في المبنى المسمّى اليوم ب”الهارونية”؛ مدفن هارون الرشيد العباسي. وقد تلقّى الغزالي العلم على إمام الحرمين الجويني في نيسابور، ثم هجرها بوفاة شيخه، لكن الوزير فخر المُلك أعاده إلى التدريس في مدرستها النظامية.

…….

بلاد الدنيا العظام ثلاثة: نيسابور لأنها باب الشرق، ودمشق لأنها باب الغرب، والموصل لأن القاصد إلى الجهتين قلما لا يمر بها. – ياقوت الحموي.

……

كانت نيسابور أحد أهم حواضر الإسلام الاقتصادية والثقافية وعاصمة إقليم خراسان، حتى نهاية العصر العبّاسي تقريبًا؛ فاشتهرت بنهرها وبساتينها وخصوبة أرضها، وسعة وتنوع أسواقها، وجمال عمارتها، وذلك حتى خرّبها المغول في أوائل القرن السابع الهجري. وهي الآن مدينةٌ صغيرةٌ هادئة، شوارعها واسعة مُجللة باﻷشجار. لطيف هوائها، وتندُر فيها البنايات المرتفعة. وخُبزها أفضلُ خُبزٍ في جُلّ خُراسان، بشهادة صديقي المشهدي؛ الذي ابتاع كميّة كبيرة من خُبزها قبل مغادرتنا المدينة. وتشتهر نيشابور كذلك بنبات الراوند البرّي (بالفارسيّة: ريواس)؛ وهو نباتٌ مُعمّر حامض الطعم، يؤكل نيئًا، وتُصنع من سيقانه المحمرَّة اللون بعض الأشربة المرطّبة، وله استخدامات طبيّة عديدة.كذا تشتهر المدينة بالفيروز، حتى أنها تُسمّى أحيانًا: “مدينة الفيروز”، وفيها سوق مشهور لبيع هذا الحجر الكريم، بجوار ضريح عمر الخيام؛ الذي زرته بعد عطار نيشابور، وسلّمت على صاحبه واستغفرت له؛ فهو من أحب الشعراء إلى قلبي. ثم عرجت بعدها على ضريح المحروق الزيدي وابن عمومته إبراهيم بن موسى الكاظم؛ فصلّيت ركعتين مُستدبرًا المدفن، ودعوت الله بما فتح عليّ. ولهجة سُكّان هذه المدينة، مثل أكثر لهجات خُراسان؛ لهجة فارسيّة فريدة قد يصعُب أحيانًا فهم بعض مفرداتها على من لم يألفها.

وقد سكن نيشابور جمعٌ غفير من أعلام الإسلام؛ منهم: الثعالبي الأديب صاحب يتيمة الدهر، والميداني صاحب مجمع الأمثال، والإمام مُسلم صاحب المسند المعروف بالصحيح، والحاكم صاحب المستدرك، والشاعر الفلكي عمر الخيام، والعارف بالله فريد الدين العطار (عطار نيشابور) صاحب منظومة منطق الطير، وأبو بكر البيهقي صاحب السنن، وأسد بن الفرات الفقيه المالكي والقائد العسكري الذي فتحت صقلية على يديه، ومحمد المحروق بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب، وإبراهيم بن موسى الكاظم، وكمال الملك؛ أهم رسامي إيران في عهد القاجار، والمدفون في رحاب عطّار نيشابور.

……

والطريق بين مشهد ونيسابور بديع؛ فالخُضرة تكسو التلال والجبال في فصل الربيع، وتجعل رحلة زوّار الرضا المسافرين مشيًا على الأقدام، وبعضُهم شيوخٌ حُفاة؛ أيسر وألطف. وقد التقينا الكثيرين منهم في منتصف الطريق، الذي لا يزيد على طول الطريق بين القاهرة ومدينة الإسماعيلية كثيرًا. وتقليد الحجّ إلى بيت الله الحرام مشيًا قديمٌ قِدَم فريضة الحج نفسها، ومثله الارتحال إلى المسجد النبوي أو المسجد الأقصى أو مراقد الأولياء للزيارة والتبرُّك. لكنه تقليدٌ تآكل في القرن العشرين، بعد خراب الدروب البريّة وإقفارها، بظهور نموذج الدول القوميّة الحديثة وارتباطها بفكرة الجنسيّة الضيّقة ووثائق السفر، وترسُّخ الحدود السياسيّة التي تحكم على الجغرافيّا وتُنكر التاريخ، وتعذُّر عبور هذه الموانع المحدثة إلا بشقّ الأنفس.كذا ساهمت عملية التحديث كعلمنة في تفريغ الفكرة من محتواها، بعد تآكُل صور التديُّن المذهبي بين العامة، خصوصًا في العالم العربي؛ لحساب عبادة الدولة القُطريّة/العرقيّة ثم عبادة السوق العابر للحدود.

لم يكُن الحُجّاج إلى مرقد الرضا، مشيًا على الأقدام؛ هم كل ما أثار شجوني وذكّرني بماض كنت أظن الحداثة قد قوّضته، بل كذا فعلت كثير من مظاهر الحياة الدينية (المذهبيّة) في إيران. ويبدو أن حسنين هيكل كان صادقًا، على غير عادته؛ حين وصف الإمام الخميني بأنه رصاصة أطلقت من القرن السابع إلى صدر القرن العشرين. فالرصاصة (سلاح حديث) لكنه أطلق من زمنٍ مضى (القرون المفضلة)، ليستقرّ في صدر القرن العشرين بحداثته التي صرعت أكثر المجتمعات التقليديّة. وهو توصيفٌ عبقريّ، في مجمله؛ ونموذج تفسيري يصلح لقراءة بعض عناصر التركيبيّة في الاجتماع الإنساني في إيران، خصوصًا بعد الثورة الإسلاميّة. وربّما كان السبب الأهم لهذه التركيبية هو الاستقرار الاجتماعي لتقليد المرجعيّة، ومن ثم الحضور الدائم والكثيف والمستقل (بمعنى عدم التبعيّة للدولة) لرجال الدين، في المجال العام؛ مما يحفظ سيطرتهم على السردية الدينية المذهبيّة، فلا تفلت من بين أيديهم، بل تزداد قُدرتهم على دمجها في نسيج الوعي التاريخي الجمعي بشكلٍ دقيق ومحكم. صحيح أن لهذا الحضور الكثيف مثالب قاتلة، سنبسطها في موضع آخر؛ إلا أن فضائله تستحق الذكر أولا. وإذا كانت العلمنة/التحديث تجتاح كل شيء، حتى البيوت القديمة التي تُهدم حول مشهد الرضا، لتُبنى مكانها أبراج أو فنادق حديثة؛ إلا أن إحكام السردية وتشابُكها مع كافة مناحي الحياة يجعل تفكُّكها بصدمة خارجيّة أمرًا شديد الصعوبة، بل أقرب للاستحالة. لتصطف إيران خلف النموذج الصيني؛ بقدرتها على تفكيك أيديولوجيتها الصلبة من الداخل، لتستوعب الحداثة وأيديولوجية السوق الحر؛ وإعادة تركيبها من جديد على صورة قد تخدع الكثيرين.

وإذا كانت البروتستنتية -كعلمنة للكاثوليكية- قد انتزعت بعض المساحات من سلطة الكنيسة؛ إلا أن الكاثوليكية لا زالت قوية عتيدة يبلغ أتباع مُعتنقيها عدّة أضعاف مُعتنقي البروتستنتية، بل ويظل الكاثوليك أكثر تديُّنًا بكل المعاني. لقد نجح التحديث/العلمنة في انتزاع مساحة كبيرة من المجال العام؛ إلا أن المساحة الأكبر لا زالت خاضعة لتقاليد المذهب القوي والمتغلغل بوعي تاريخي عميق، وعي تُرسّخه أكثر تفاصيل الحياة اليوميّة (وإن حاربته تفاصيل أخرى!) حتى في وجدان من يرفضون الدين أصلًا أو لا يُبالون به؛ فإذا هُم قد تشرّبوا أكثر مقولاته بعد فصلها عن مصدرها، وتجسّدت فيهم سلوكيًا وسوسيولوجيًا، بل ومعرفيًا في أحيانٍ كثيرة. لهذا قد تلتقي في إيران بمن يتعامل مع المذهب باعتباره هويّة إثنيّة، فقد يتعصَّب له وهو غير مبال بالدين أصلًا، أو رافض له من الأساس.

وإذا كانت حيويّة المذهبيّة الفقهيّة في مصر، قبل تغوّل التحديث؛ هي أهم تجليات التديُّن والحضور الواضح للدين في المجال العام، من خلال القاضي المجتهد والمفتي المجتهد وخضوع السلطة السياسية نسبيًا للجماعة العلميّة؛ فإن وطأة السرديّة الشيعية، بصبغتها المذهبية الواضحة؛ هي ما تحفظ تديُّن الإيرانيين، وتجعلهم قادرين على بعض التوازُن الذي يحفظ كثيرًا من خصائص ما يُمكن تسميته تجاوزًا ب”الشخصيّة الإيرانيّة”، حتى بعد دمجها في الحداثة ومجتمعاتها، وتشرُّبها لأيديولوجياتها المختلفة.

إن المذهبيّة هي باب تديُّن العامة، وحضور المذهب/التقليد بتفاصيله السلوكيّة في المجال العام هو ما يجعل هذا المجال مواتيًا للتديُّن، وغير مُعادٍ سوسيولوجيًا لمظاهره وممارساته. فلا تديُّن للعوام بغير تقليد، ولا يُصلح شأنهم مثل الالتزام بتقليد إمامٍ مجتهد. وما رفضُنا للتمذهُب/التقليد إلا بسبب توظيفه السياسي، واستخدامه في شق صف الأمة. إذ يعمد المشتغلون بهذه الخلافات لجرّها إلى المجال العام، واستثارة الدهماء واستنفارهم لنُصرة رأي على رأي؛ فينتقل الخلاف العلمي من ساحة الدرس والمناقشة إلى ساحة التوظيف السياسي والتناحُر الاجتماعي، ويتحول التقليد/التمذهب/الاختلاف من رحمة وتوسعة على الأمة؛ إلى نقمة وكارثة تقوّض صفّها.

وإذا كانت المذهبيّة هي التي تحفظُ تديُّن الإيرانيين عمومًا، شيعة وسُنة؛ فهي مذهبية مُرتبطة بسمتٍ طقوسي جماعي، يتجلى مثلًا في الأدعية والأذكار الجهريّة قبل وبعد الصلاة. ويبدو أنها سمة لتديُّن العجم عمومًا؛ حين تغيب اللغة العربيّة عن المجال العام. وقد لاحظت شيئًا مماثلًا في مجتمعات سُنيّة، حنفيّة وشافعيّة؛ في تركيا والهند. ليبقى تديُّن العجم أكثر توهُّجًا، مع عصبيّة للمذهب الفقهي والعقدي؛ عصبيّة قد تكبحها أحيانًا المعرفة بالعربيّة وانتقال المتديِّن من خانة المقلِّد الأعمى لخانة المقلِّد على بصيرة، مُسترشدًا بالدليل من الوحي.