وشرعنا في ردم الخندق الذي بين السورين بمخالي مملوءة بالتراب ممّا تيسّر من الأخشاب، فصار طريقًا سالكًا وكان رأيًا مباركًا، وسمع به السلطان فأعجبه، وركب بنفسه وحضر … وضُربت عند الصباح ولاحت تباشير الفلاح، وحصل الزحف عليهم من ذلك المكان وغيره.

الأمير والمؤرخ المملوكي «بيبرس المنصوري» أحد المشاركين في فتح عكا

كُنا قد توقفنا في مقالنا السابق «استرداد عكا: استراتيجية التهيئة والإعداد» عند موجز من تاريخ العلاقات الإسلامية الصليبية، ونبذة من طبيعة الصدام بين الجانبين، ثم عرجنا إلى الحديث عن الإمارات الصليبية في بلاد الشام، وآخر تلك الإمارات التي كانت من أخطر الجيوب الصليبية، وهي إمارة أو مملكة عكّا، ورأينا محاولات المماليك لاستعادة هذه المدينة الحصينة على البحر المتوسط. وفي هذا المقال وتاليه نستكمل الحديث عن استعدادات السلطان الأشرف خليل بن قلاوون (ت 693هـ/1293م) وإستراتيجية وتكتيكاته العسكرية أثناء استعادة المدينة، والمقاومة الشرسة التي لاقها المماليك من فرسان الصليب.


استعدادات المماليك

  • التحق المهندسون والأطباء والبنائون والحجّارون وكافة الصنّاع إلى الحملة، وكانوا بمثابة القوات المعاونة.
  • لم ينس الأشرف خليل ما للقوة البحرية المملوكية من أهمية في هذه المعركة، فقام بتجهيز الأسطول الحربي، وعلى رأسها القطع البحرية الكبيرة التي كانت تُسمى «الشواني» حينئذ، فوصل عدد هذه القطع إلى 60 قطعة بحرية عسكرية في هذه الحملة.
  • لم ينس كذلك الأشرف خليل ما للجانب الإيماني من أهمية، فتصدّق بالأموال والثياب على الفقراء والقراء والمساكين، محاولاً شحذ الهمم، وجمع الكلمة، وإشراك الرأي العام والمجتمع معه، ولذلك نرى البرزالي في تاريخه قائلاً: «وعُملت ختمة بجامع دمشق ليلة الجمعة السابع عشر جمادى الأولى، وتضرّع الناس إلى الله تعالى، واجتمعت قلوبهم وجهّزهم، ودعا الخطيب يوم الجمعة، وفتحت عكّا في يوم الجمعة».
  • فتح الأشرف خليل الباب أمام المتطوعين والعامة والجمّالين الذين أسهموا بشكل لافت في دعم الحملة والعساكر المملوكية، قال ابن كثير: «جاء البريد إلى دمشق في مستهل ربيع الأول [سنة 690هـ] لتجهيز آلات الحصار لعكا، ونودي في دمشق: الغزاة في سبيل الله إلى عكا. وقد كان أهل عكا في هذا الحين عدوا على من عندهم من تجار المسلمين، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأبرزت المجانيق إلى ناحية الجسورة، وخرجت العامة والمطوعة يجرون في العجل، حتى الفقهاء والمدرسون والصلحاء، وتولى سياقتها الأمير علم الدين الدواداري، وخرجت العساكر بين يدي نائب الشام، وخرج هو في آخرهم، ولحقه صاحب حماة الملك المظفر، وخرج الناس من كل صوب، واتصل بهم عسكر طرابلس، وركب الأشرف من الديار المصرية بعساكره قاصدا عكا، فتوافت الجيوش هنالك، فنازلها يوم الخميس رابع ربيع الآخر، ونصبت عليها المجانيق من كل ناحية يمكن نصبها عليها، واجتهدوا غاية الاجتهاد في محاربتها والتضييق على أهلها».
  • وصل عدد الجيش المملوكي إلى 160 ألف مقاتل و60 ألف جندي مترجّل «راجل»، وهو عدد ضخم، كان قوامه بجانب الجيش المملوكي النظامي، عناصر من القبائل العربية والأكراد والتركمان والجركس، وقد ساهم طول الفترة الزمنية منذ نقض الصليبيين في عكا للهدنة واستعداد المنصور قلاوون لها منذ شوال سنة 689هـ وحتى بداية الانطلاق والحصار في ربيع الأول سنة 690هـ، ساهم في تجميع كل هذا العدد الضخم من الرجال والآلات والعتاد.

أمام أسوار عكا

تحركت القوات المملوكية وفق الخطة والاستعدادات التي تمت على مدار أشهر متوالية، واشتركت في هذه الحملة العسكرية المكبّرة كل المدن والولايات المملوكية في مصر وبلاد الشام، وفتح الطريق أمام المتطوعين من العامة ورجال الدين والمتصوفة وغيرهم، لقد أمست حملة استرداد عكا مشروعًا إسلاميًا ومملوكيًا، اختزل كل ما عاناه المسلمون على مدار قرنين من الضيم والمذلة والإرهاق الصليبي الذي عانى منه المسلمون في المدن التي صارت صليبية في بلاد الشام، فضلاً عن غيرهم من المناطق القريبة، ولم يتورع الصليبيون عن استخدام كل الأساليب الإرهابية من التقتيل والسرقة والنهب والأسر، ولم يجد المسلمون أمام هذا التاريخ الطويل من الإجرام إلا التوحد على استخلاص عكا – آخر قلاعهم الحصينة – وإذاقة هؤلاء المجرمين كل صنوف الألم التي تحملوها هم وأجدادهم مدة قرنين متواليين!في أوائل ربيع الآخر سنة 690هـ حاصرت القوات الإسلامية المدينة من جهات البرّ، فكانوا في شرق المدينة والمدينة وظهرها البحر في مقابلهم جهة الغرب، وقُسّم الجيش المملوكي كعادته إلى ثلاثة أقسام رئيسة:

  • في الميمنة الفرقة الحموية بقيادة الملك المظفر بن المنصور ملك حماة، وكانوا يواجهون القوات البحرية الصليبية في البحر فضلاً عن قوات البرية على الأسوار والأبراج، وقد قاتلت هذه الفرقة طيلة مدة الحصار، وواجهت كذلك دفاعات شرسة، بل وهجوم صليبي مباغت في إحدى الليالي من القوات الداوية المقابلة، واستطاعت أن تفشله وتأسر عدد من المهاجمين.
  • الميسرة بقيادة الأمير المملوكي المخضرم «بدر الدين بكتاش» رابطت في الجنوب الغربي لخليج عكّا.
  • بقية العساكر كانت تنتشر في الوسط بين الميمنة والميسرة. ونصب الأشرف دهليزه أي خيمته العسكرية ومركز القيادة قبالة البرج البابوي بين الوسط وميسرة المسلمين بالقرب من البحر المتوسط.

اعتمدت الخطة المملوكية في حصار المدن واقتحامها على استخدام آلات نقب الأسوار والأبراج الثقيلة مثل المنجنيقات والعرّادات، واعتمدت كذلك على إنهاك العدو من خلال الاشتباك غير المباشر بواسطة الأسهم والنّشاب، وصارت المنجنيقات تقذف يوميًا الأحجار أو القوارير الضخمة المملوءة بالنفط على أسوار المدينة، وعمد المهندسون والنقّابون والحجّارون إلى البحث عن الثغرات في الأسوار.إن لنا أن نتخيل 92 منجنيقًا كبيرا وصغيرًا ودورها في الثقب والنقب والسحق والهدم الذي أحدثته لمدة 44 يومًا هي مدة الحصار، لقد هدمت أجزاءً واسعة من الأسوار والأبراج والمنازل والحصون، وأسقطت عشرات القتلى والجرحي، وقد صدق أحد الشعراء المسلمين في وصف المنجنيق حين قال:

للمنجنيق على الحصون وقائع *** فيها عجائبٌ للذي يتفهّمُ يومي إليها بالركوع مُخادعًا*** فتخرّ ساجدة إليه وتُسلِّمُ

المماليك يدكّون أسوار العدو!

أيقن الصليبيون أن الحصار المملوكي على عكا شديد، وأن القوات الإسلامية تفوقهم عددًا وعتادًا ونشاطًا وبأسًا، ولم يجدوا بداً إلا من محاولة أن يتفاوضوا مع السلطان الأشرف خليل، فأرسلوا رسلهم وسفراءهم يوم 16 جمادى الأولى 690هـ/16 مايو (أيار) 1291م قبل الهجوم الإسلامي الكاسح بيوم واحد، فطالبوا المماليك بالرحيل عن المدينة شريطة أن يدفعوا -كما يذكر بدر الدين العيني -: «كل سنة مالاً يحملونه إليه مع هدايا وتحف كما كانت في الأول، فلما جاء رسلهم إلى السلطان جمع الأمراء فشاورهم فيه، فقال جميعهم على لسان واحد: إن هذا حِصن كبير عندهم، ولم يبقَ في بلاد الساحل من أهل الكفر غير أهله، وكان عزم الشهيد والد الإشراف على فتحه، والسلطان قد عزم في أول دولته على فتحه على ما كان عليه عزم الشهيد [المنصور قلاوون]، وأنه قد أُصيب من المسلمين جماعة، وقُتلت جماعة، وما بقي للصلح فائدة، فإنما قد أشرفنا على فتحه، وهم في ذلك، وإذا بصياح عظيم من السوقة والحرافيش والغلمان والجمّالين: يا مولانا السلطان بتُربة الشهيد لا نصطلح مع هؤلاء الملاعين. ثم قال السلطان للرسل: لا صلح عندنا إلا أن تُسلّموا الحصن بالأمان، فذهبت الرُّسل».ونتيجة لهذا الحصار القوي، ونجاح فرقة المهندسين والمنقّبين والحجّارين في ثقب الأسور، ونجاح بعض الفرق العسكرية الخاصة في ردم الخندق، تم الاتفاق على الهجوم الكاسح المباشر يوم الجمعة الموافق 17 جمادى الآخرة سنة 690هـ، فاستطاعت الفرق العسكرية المملوكية أن تهزم المدافعين الصليبيين وتقهرهم من الأسوار قهرًا، بل وقطعت أوصال تجمعاتهم بحيث صاروا متفرقين عن بعضهم، ثم حوصر أكثرهم في الأبراج الكبيرة على الأسوار، واستسلم ما يقرب من 10 آلاف مقاتل صليبي وطلبوا الأمان، لكن السلطان وزّعهم على كبار الأمراء وأمر بقتلهم، وهرب من استطاع الهرب من الجنود والعامة إلى المراكب في البحر، لكن الهروب لم يكن منظّمًا مما جعلهم فريسة سهلة للقوات الإسلامية.


شاهد عيان من أرض المعركة

أمست حملة استرداد عكا مشروعًا إسلاميًا ومملوكيًا، اختزل كل ما عاناه المسلمون على مدار قرنين من الضيم الذي عانى منه المسلمون في المدن التي صارت صليبية

من حسن حظّنا أن عددًا من المؤرخين الكبار كانوا شاهدين على تلك الأحداث، ومشاركين فيها، ومنهم الأمير المملوكي والمؤرخ «بيبرس المنصوري» الذي يصف الزحف المملوكي على المدينة قائلاً: «وعلت الأصوات، وزحفت الأبطال والكُماة، وقاتلوا الإفرنج قتالاً شديد الكفاح، وعدلوا عن الرماح إلى الصفاح، وتكاثروا على الأسوار، فتسوّروها وحملوا السناجق (الأعلام المملوكية) ورفعوها، وذعروا القوم ذعرًا شديدًا، وأخذتهم السيوف أخذًا مبينًا، وأثخن المسلمون فيهم إثخانًا عنيدًا، وقتلوا منهم عديدًا، وسبوا نسوانهم وشبابهم، ونهبوا أموالهم ونهبوا أموالهم وأعيانهم، وخرّبوا أوطانهم ومنازلهم، وعصت الأبراج الكبار وهي الداوية والأمن والإسبتار، هيهات، وقد شملهم الصغار، وحاق بهم البوار، وعدموا النصر والأنصار، لكن دعاهم إلى ذلك الذعر الشامل، وخيفة الموت العاجل، ولم يكن لهم سبيل إلى الفرار، ولا وجه للقرار، فغلّقوا أبواب البروج، وتربّصوا عن الخروج، ثم إنهم استأمنوا، فأُخذوا وأُخرجوا وفرّقوا على الأمراء فقُتلوا، وكان هذا الفتح العظيم في يوم الجمعة السابع عشر من جمادى الآخرة».وقال ابن كثير: «ودُقّت الكوسات [صنوج النحاس الموسيقية] جملة واحدة عند طلوع الشمس، وطلع المسلمون على الأسوار مع طلوع الشمس، ونُصبت السناجق الإسلامية فوق أسوار البلد، فولت الفرنج عند ذلك الأدبار، وركبوا هاربين في مراكب التجار، وقُتل منهم عدد لا يعلمهم إلا الله تعالى، وغنموا من الأمتعة والرقيق والبضائع شيئا كثيرا جدا».وبهذا الانتصار العظيم، تم طرد كل الصليبيين من الشام من بعد احتلالهم لكثير من سواحلها وحصونها مدة تقارب القرنين، ولم يعودوا مرة أخرى إلا في الهجمة الاحتلالية الحديثة على العالم الإسلامي بدءًا من الحملة الفرنسية بقيادة نابليون ثم باحتلال البلدان العربية في القرن التاسع عشر والعشرين، ولم يرحلوا هذه المرة إلا وتركوا كيانات وظيفية أشد خطورة وتبعية لهم، مع تقسيم وشرذمة العالم العربي والإسلامي بحدود وهمية مصطنعة!

المراجع
  1. بدر الدين العيني: عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان، تحقيق محمد محمد أمين، دار الكتب والوثائق القومية – القاهرة، 2010م.
  2. بيبرس المنصور: زبدة الفكرة في تاريخ الهجرة، تحقيق دونالد.س.ريتشاردز، من منشورات النشرات الإسلامية التابعة لجمعية المستشرقين الألمانية، الشركة المتحدة للتوزيع – بيروت، 1998م.
  3. أبو الفدا، الملك المؤيد الأيوبي عماد الدين إسماعيل بن علي: المختصر في أخبار البشر، الطبعة الأولى، المطبعة الحُسينية المصرية – القاهرة.
  4. بيبرس المنصوري: التحفة الملوكية في الدولة التركية، تحقيق عبد الحميد صالح حمدان، الطبعة الأولى، الدار المصرية اللبنانية – القاهرة، 1987م.
  5. بيبرس المنصوري: التحفة الملوكية في الدولة التركية، تحقيق عبد الحميد صالح حمدان، الطبعة الأولى، الدار المصرية اللبنانية – القاهرة، 1987م.
  6. ابن حبيب الحلبي: تذكرة النبيه في أيام المنصور وبنيه، تحقيق محمد محمد أمين، الهيئة العامة المصرية للكتاب، القاهرة، الجزء الأول 1976، الجزء الثاني 1982، الجزء الثالث 1986م
  7. ابن كثير: البداية والنهاية، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، الطبعة الأولى، دار هجر للطباعة والنشر – 2003م.
  8. ستيفن رانسيمان: تاريخ الحروب الصليبية، ترجمة السيد الباز العريني، دار الثقافة – بيروت، 1997م.
  9. فلسطين تيسير إبراهيم: "السلطان الأشرف خليل بن قلاوون وسياسته الخارجية والداخلية"، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة الخليل – فلسطين، 2013م.