انتهت الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية الفرنسية بتأهل كل من إيمانويل ماكرون بنسبة 23.7% من الأصوات و مارين لوبان بـ 21.3%، يفصل بين الدور الأول والثاني أسبوعان. سنحاول سرد أهم الأحداث التي قادت إلى فوز المرشح الشاب إيمانويل ماكرون. ورغم تصدره الجولة الأولى إلا أن هذين الأسبوعين لم يكونا بالسهولة التي تصورها إيمانويل ماكرون.


خطيئة la rotonde

مباشرة بعد إعلان نتائج الدور الأول وإلقائه كلمة مقتضبة أمام أنصاره في مقر حملته الانتخابية، انتقل ماكرون تحت أعين الكاميرات إلى مطعم لاروتوند الراقي حيث كان في انتظاره كبار داعميه من الشخصيات السياسية والفنية والإعلامية لتناول العشاء والاحتفال بهذا النصر الرمزي. هذا التصرف ذكّر الناس بفعل مماثل قام به الرئيس ساركوزي عشية انتخابه سنة 2007 الذي اختار مطعم الفوكيتس الراقي مثيرًا ضجة لم تنته حتى خروجه من الحكم، وقال في عدة حوارات صحفية بعدها إنه نادم على الطريقة التي احتفل بها بفوزه.

هذا الفعل من ماكرون عرّضه في اليوم الموالي لسلسلة من الانتقادات من كُتاب أعمدة الرأي في الصحف والمعلقين في الإذاعات والقنوات الإخبارية، مدعين بأن هذا التصرف المغرور وكأنه قد فاز بالرئاسة أو على نمط أنه يجتمع ببذخ مع كبار القوم دون مراعاة مشاعر عامة الشعب الفرنسي. من جهته دافع ماكرون بشدة عن موقفه وقال إن هذا مطعم (شعبي) يرتاده عامة الناس.


معركة WHIRLPOOL

لكونها في المركز الثاني كان على لوبان أن تكثف من نشاطها دون أن تضيع الوقت. في اليوم الموالي كان من المفترض أن يذهب ماكرون لزيارة مدينة صباه (أميان) حيث ولد وتربى وفي نفس الوقت لقاء وفد من نقابات مصنع ويرلبول للغسالات، الذي أعلنت الشركة أنها ستنقله إلى بولندا لتخفيف تكاليف العمل ما يضيع أكثر من مئتي وظيفة مباشرة وألف وظيفة من المناولين.

اختار ماكرون مقر الغرفة التجارية بالمدينة لعقد اللقاء بعيدًا عن مقر المصنع حيث الجو مشحون والعمال المضربون يحتلونه.

في نفس توقيت عقد الاجتماع باغتت لوبان الجميع بزيارة مفاجئة للمصنع حيث استقبلها العمال بحفاوة كبيرة، وتحت أهازيج مارين رئيستنا وتحت أعين الكاميرات. وعدت لوبان العمال أنها لو فازت فأنها ستجبر الشركة على رد كل المساعدات الحكومية التي أخذتها كما ستأمم المصنع مؤقتًا إذا لم يكن هناك عروض عليه.

اضطر ماكرون حينها لزيارة المصنع هو كذلك لكن استقبل بعدائية من العمال تحت دخان الشماريخ والشتائم، لكنه تمسك بموقفه ووعد من جهته العمال بالحصول على أكبر قدر من التعويضات لكنه رد على وعد لوبان واصفًا إياه بالديماجوجي غير قابل للتحقيق.

بزيارتها المفاجئة للمصنع حققت لوبان نقاطًا مهمة وارتفعت في دراسات سبر الآراء والأهم من ذلك أخذت زمام المبادرة من ماكرون.


إعلان نيكولا دوبونت إينيان إنضمامه إلى لوبان

بعد ظهور نتائج الدور الأول أعطى كل من فرانسوا فيون (مرشح حزب الجمهوريين) و بونوا آمون تعليمات لأنصارهم بالتصويت لإيمانويل ماكرون، بالمقابل قال جون لوك ميلونشون إنه لن يعطي أي تعليمات بخصوص الدور الثاني وأنه سيتسشير مناضليه عبر الإنترنت لمعرفة رأيهم في الموضوع.

كان حزب الجبهة الوطنية دائمًا يعاني في الانتخابات غير النسبية مما يسمى بـ (الجبهة الجمهورية)؛ أي تحالف مرشحي كل الأحزاب ضد مرشحيه.

هذه المرة وبعد مفاوضات قصيرة أعلن نيكولا دوبونت إينيان، المرشح الذي حل خامسًا بـ 4.78% من الأصوات، دعمه لمارين لوبان. رغم قلة عدد أصواته إلا أن هذا التحالف الأول من نوعه حمل دلالات رمزية كثيرة، وبعث برسائل طمأنة للكثير من المترددين من ناخبي فيون. هذا النائب منذ 1997 عن محافظة إيسون المعروف بنزاهته ومواقفه الشجاعة حيث انفصل في 2005 عن الحزب الجمهوري بسبب موقفه المعارض للدستور الأوربي. أعلنت لوبان أنه بموجب الاتفاق فإن دوبونت إينيان سيكون رئيسًا لحكومتها في حال ما وصلت للرئاسة كما قامت بإدراج عدد من مقترحات حليفها في برنامجها الرئاسي.

كما حصلت لوبان في نفس اليوم على الدعم اللافت من ماري فرانس جارو مستشارة الرئيس السابق بومبيدو وإحدى الشخصيات الديجولية التاريخية.

مجددًا شغلت لوبان الساحة الإعلامية بهذا الإعلان كما شحنت أنصارها الذين أصبحوا يرون النصر في متناولهم، خاصةً وأن الفارق بين المرشحين نزل إلى ثمان نقاط في بعض الإحصائيات.


الخداع الإستراتيجي

خلال هذه الفترة كان ماكرون الذي يعلم أن عنده أفضلية مريحة في السباق قد قلل تحركاته، وأبدى قدرات تكتيكية لم يعرفها الكثيرون عنه عبر التفاوض مع رموز الحزبين الاشتراكي وبعض من الجمهوريين لوضع بذور تفاهم في التشريعيات.

كانت مؤسسات الاستشارة الكبيرة التي يستعين بها تعطيه صورًا دقيقة يوميًا عن المشهد الانتخابي وما ينتظره ناخبوه أو الذين ينوون التصويت عليه في الدور الثاني فضبط حملته على إيقاع دقيق وفعال.

في نفس الأثناء تكفلت وسائل الإعلام المناصرة له شن حرب نفسية شعواء على ميليونشون؛ لأنه رفض الدعوة صراحة لانتخاب ماكرون والكثير من الشخصيات الثقافية والعلمية التي سارت على دربه، رافعةً المخاوف من الخطر (الفاشي) الذي تشكله مارين لوبان.

دوبونت إينيان ناله نصيب وافر من هذه الحرب الإعلامية، حيث بثت عدد من القنوات الإخبارية تقارير مفبركة عمن تزعم أنهم أنصاره الذين لم يعجبهم قرار التحالف وتبين لاحقًا أن هؤلاء الأشخاص مناضلون في الحزب الاشتراكي بل منهم من كان منتخبًا.


المناظرة: الانتصار الكبير

جاءت مارين لوبان إلى المناظرة و في ذهنها صورة عن ماكرون الصبي الخائف الذي يسهل إرباكه و زعزعته أمام المشاهدين، ساعدها في ذلك أداؤه الباهت في المناظرتين السابقتين وقلة خبرته السياسية والأكبر من ذلك كله تصريحه أنه سيغادر البلاتو إذا هاجمته لوبان شخصيًا.

بدأت المناظرة بهجوم ممنهج على ماكرون وأدائه في الفترة الحالية لما كان مستشارًا في الرئاسة ولما أصبح وزيرًا بعدها مُحملة إياه الفشل الذريع في المجال الاقتصادي والأمني حتى.

امتص ماكرون الضربات بوجهه الوسيم وابتسامته العريضة ورد ببرودة أعصاب كبيرة وتحكم في النفس وأبدى تحكمًا في الملفات الاقتصادية بحكم تخصصه أربك منافسته وجعلها أكثر عدائية وأخرجها عن الذوق العام في مرات عديدة.

كما ركزت مارين لوبان هجومها على اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا الذي دعا للتصويت لصالح ماكرون واصفةً إياه بذراع الإخوان المسلمين الداعم للإرهاب والتطرف (أمر مناف للصحة فالاتحاد يضم العديد من التوجهات، والفكر الإخواني فيه أقلية كما أن وزراء داخلية فرنسا دأبوا على التفاوض معه من أول شوفانمو إلى ساركوزي وصولًا إلى الوزير الحالي).

في نفس الصعيد أبدت لوبان وجها علمانيًا متطرفا ضد كل الشعائر الدينية، أكثر تطرفًا حتى من رئيس الحكومة السابق مانويل فالس أو ميلونشون الذي رغم مواقفه الشخصية من التدين إلا أنه لم يجعل منه موضوعًا في حملته الانتخابية. في المقابل ماكرون قال إن هذه المنظمة لم تخالف القانون ولو فعلت فلم لا ترفع لوبان دعوى قضائية تطالب بحلها.

إصرار لوبان وتركيزها على الإسلام أنساها موضوعًا مهمًا هو في صلب حملتها وأقل استقطابا في فرنسا وهو وقف الهجرة العشوائية التي واكبت الصراع في دول مثل ليبيا وسوريا، حتى أصبح المهاجرون السوريون أقلية ضمن الأفغان والإيريتريين ومواطني جنوب السودان. أداء لوبان ساء المشاهدين حيث لا يليق بمن يطمح للرئاسة أن يتكلم على طريقة بائع الخضار في السوق أو يفقد صوابه.

انعكس هذا الأداء العنيف وغير المجدي في اليوم الموالي على أنصار لوبان في شبكات التواصل حيث انهارت معنوياتهم وعبروا عن استيائهم صراحةً من مرشحتهم وفقد الكثيرون منهم الأمل في تحقيق المفاجأة في انتخابات يوم الأحد وأصبحت أقصى أمانيهم عبور عتبة الـ 40%.

دراسات سبر الآراء كذلك عكست هذا الاتجاه حيث نزلت مرشحة الجبهة الوطنية مجددًا تحت عتبة الأربعين بالمئة وبلغت في بعض الدراسات أقل من 35%.


ماكرون رئيسًا

رغم العزوف الكبير نسبيًا مقارنة بالسنوات الماضية، إلا أن ماكرون استطاع الظفر بنصر واسع ومريح وإن لم يبلغ نسبة شيراك في 2002، وهنا تجدر بنا المقارنة بين الرجلين؛ شيراك في 1995 الذي حاول إصلاح نظام الرفاه الاقتصادي الفرنسي بنظرية الصدمة فكانت النتيجة إضرابات دامت أسابيع ومظاهرات لا آخر لها في كل التراب الفرنسي وانتهى به الأمر إلى سحب (إصلاحاته) ما جعل همه الدائم في عهدته الثانية الحفاظ على انسجام المجتمع الفرنسي والابتعاد عن الاستقطاب قدر المستطاع وهذا ما ترك ذكرى طيبة عند الفرنسيين كرئيس قريب من الشعب.

قبل ماكرون حاول ساركوزي وبعده هولاند القيام بنفس الإصلاحات ولكن الاحتجاجات في الشارع كانت تحول دون تنفيذ أجندتهما كاملة.

وعود الحملة الانتخابية لا تلزم إلا من يؤمنون بها، هكذا كان يقول شيراك في حينه وأعتقد شخصيًا أن الكثير من وعود ماكرون سينالها نصيب من التناسي أو ستتكسر على صخرة الواقع الفرنسي الصلبة، خاصةً و أن أمامه مهمة صعبة وهي الحصول على أغلبية نيابية في شهر يونيو/حزيران القادم.