يستند خطاب الغلوّ المعاصر في كثير من أسسه على منظومة من المصطلحات، السياسية تحديدًا، والتي تشكّل – بفضاء المفاهيم التي تنشئها – حالة الغلوّ المعاصر بكامل تفاصيلها تقريبًا. أي إنّ هذه المصطلحات وتصوّرها هي الهيكل الذي يقوم عليه هذا الخطاب، ولو افترضنا اختفاءها فجأة؛ لَما تبقّى لدى من يمارس هذا الخطاب سوى عمومات مستقاة من التراث الإسلامي التاريخي.

تكمن المشكلة عند خطاب الغلوّ في ضيق أفق التعاطي مع الواقع، ولذا رأيتُ في كتيّب «الخطاب المريض» أنّ أبرز الأدوية النافعة لمكافحة هذا الخطاب هي الخروج من الوصاية الفكرية التي يمارسها شيوخه، وأخذ قسط وافر من الثقافة، وتحديدًا ثقافة الآخر لفهمه جيّدا. فهذه الممارسة كفيلة بـ«تنفيس» الكثير من الفقاعات التي يبنى عليها هذا الخطاب مقولاته وصراعاته.

سأحاول في هذا المقال أخذ القارئ في جولة سريعة مع 10 مفاهيم رئيسية يمتلك خطاب الغلوّ في العادة تصوّرات مُصمَتة لها، يبني عليها رؤيته للواقع السياسي والاجتماعي الذي يسعى إلى بنائه، مع إيضاح مَكمن الإشكالية في هذه التصوّرات.


1. الدولة

ربما يجدر أن نبدأ بمصطلح الدولة؛ لكونها الأفق النهائي الذي تؤول إليها معظم مقولات هذا الخطاب، فالهدف النهائي لهذا الخطاب هو «إقامة الدولة الإسلامية»، وهو تضييق شديد للآفاق التي بلغها خطاب القرآن والسنة في عهد النبي، حتى في العهد المكّي، إذ كان الخطاب القرآني والنبوي في ذلك العهد ممتدّا لمحاور اعتقادية وأخلاقية واجتماعية وسياسية أكثر اتّساعًا من التمركز حول استهداف الدولة، وربّما يكون خطاب جعفر بن أبي طالب عند ملك الحبشة نموذجًا جيّدًا يطلعنا على طبيعة ذلك الخطاب.

تكمن الإشكالية الكبرى في مفهوم الدولة لدى خطاب الغلوّ المعاصر أنّه تأسس بشكل أساسي على إرث القرن التاسع عشر والعشرين الميلاديّين، أي إنّه متأثر بشكل أساسي لا – كما يظنّ الغلاة – بما في الكتاب والسنة، بل بطبيعة الدولة القومية الحديثة، والحركات الحزبية الشمولية التي تأسست بشكل أساسي للوصول إلى الحكم وتطبيق أيديولوجيّتها، في أوروبا ابتداءً ثم في بقية العالم. ولعلّه من المفارقة أن يتمركز الغلاة حول مقولات نقض المفاهيم الغربية الوافدة؛ كالديمقراطية والمدنية وغيرها، بينما هم يستندون في تصوّر أبرز مفهوم لديهم، وهو مفهوم الدولة، إلى تصوّرات أوروبية حديثة!

كان التمكين للدعوة لتقوم بمهامها على عهد النبيّ، صلى الله عليه وسلّم، هدفًا مرحليّا وليس غاية نهائية عظمى كما يبدو من خطاب الغلوّ المعاصر. بينما ما فعله خطاب الغلوّ هو إدخال المفاهيم الأوروبية للدولة الحديثة المتغوّلة على المجتمع في أزياء إسلامية، واختزال الدعوة النبوية في إقامة هذه الدولة، متجاهلاً اختلاف طبيعة القيادة السياسية على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، وغياب الكثير من الأسس الحديثة للدولة المعاصرة عن تلك الدولة النبوية. ناهيك عن التصوّر الطفولي لإقامة الدولة، وافتقاد الخبرات المطلوبة لبناء دولة ذات سيادة في القرن الواحد والعشرين.


2. الخلافة

يخلط خطاب الغلوّ بين مفهوم «الدولة» ومفهوم «الخلافة»؛ فيجعل الأولى مطابقة للثانية، متجاهلاً أنّ الخلافة في الأساس جاءت بعد وجود الدولة، وأنّها في الواقع تعبير عن القيادة السياسية للأمة الإسلامية والتي تحافظ على وحدة ديارها واعتصامها، باعتبار الوحدة والاعتصام ونبذ التفرّق قيمًا أساسية في خطاب القرآن والسنة، حيث لم يجد المسلمون بعد وفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، بدًّا من التوافق على قيادة سياسية واحدة؛ خشيةً من تفرّق الأمة.

لكنّ الذي حدث في خطاب الغلوّ المعاصر هو مطّ مفهوم الخلافة ليبتلع بداخله مفهوم الدولة، ليبدأ الحديث غير العلمي عن «شكل دولة الخلافة»! رغم أن التاريخ الإسلامي منذ الفترة الراشدة حتى أواخر السلطنة العثمانية أطلعَنا على أشكال حُكم مختلفة.

لم يدرك الغلاة أنّ الخلافة قبل كل شيء «قيمة» يمكن أن تتحقّق مع مرونة في اختيار الشكل الموافق للعصر، بل تجاهلوا كل التجارب التاريخية التي أدّت إلى التفرّق، وتجاهلوا طبيعة الشعوب التي تعيش في المنطقة، وطبيعة التطوّرات الحديثة واختلاف ميزان القوى وطبيعة المجتمع الدولي، وحرموا أنفسهم الإفادة من تجارب الشعوب الأخرى (كما أفاد الراشدون والأمويون) التي مارست أشكال وحدة متنوّعة يمكن أن تُلهم في إيجاد النموذج الملائم لتحقيق قيم الوحدة التي تنشدها الخلافة.

مع التأكيد على قفزهم إلى قضية الخلافة رغم أنّ الأمة الإسلامية تمرّ اليوم بكوارث وأزمات تجعل حلم الخلافة حلمًا مثاليّا، تسبقه – عند الجادّين – مسؤوليّات إنقاذ الأمة من شلال الدم والاستبداد والتبعية والتفرّق وضياع الهوية والرؤية!


3. الديمقراطية

يتمركز خطاب الغلوّ المعاصر على كون الديمقراطية تعني في الأساس إسناد مهمّة التشريع للشعب، مع كون التشريع حقّا خالصًا لله لا يجوز أن ينازعه فيه أحد. ومن ثم يتم الحكم عليها جملة بأنّها «نظام كفر». هكذا بكل سهولة.

يخلط هذا الخطاب بين «الديمقراطية» و«العلمانية»، فكثيرًا ما نجد الأولى تأتي كمرادف للثانية. ولا يهمّ هذا الخطاب بعد ذلك الآليات التي تشكّل في الواقع بناء الديمقراطية الغربية المعاصرة. وبالتأكيد لا يوجد نظام بشري منزّه عن النقد، ولكن إشكالية خطاب الغلوّ أنّه يتجنّب المشكلات الواقعية الحقيقية للديمقراطية، ويحصرها في قضية التشريع، ويكتفي بالحكم بكفرها، ثم تكفير أو تعنيف من ينادي بالديمقراطية، دون أن يحاول على الأقل فهم منطلقاتهم وماذا وجدوا في الديمقراطية.

إنّ الأفق الضيّق لخطاب الغلوّ حَرمه من التعاطي مع مصطلح الديمقراطية باعتباره مصطلحًا مشتبهًا لا يعني قيمة مطلقة أو شيئًا محدّدًا يمكن إطلاق وصف الكفر عليه، بل هو عند معظم مخالفيه من الإسلاميين آليات حكم تساهم في القضاء على الأنظمة الديكتاتورية التي أثقلت كاهل الأمة، وتحفظ للأمة حقّها الشرعي في ممارسة الحسبة والرقابة والشورى واختيار من يحكمها، دون أن يخطر في بالهم أن يكون أحد أهداف هذه الديمقراطية ودعوتهم إلى تبنّيها الاعتداء على شرع الله، أو تشريع قوانين مناقضة للدين.

يتصوّر خطابُ الغلو أنّ مجتمعات المسلمين مجتمعات كافرة فاسقة معادية للدين، متشوّفة لإعطائها حرية الاختيار كي تقوم باختيار الكفر والفسق! وإلا فكيف نفهم أن يكون هذا الادعاء هو أول افتراض يخطر على بال الغلاة عندما يريد أحدهم أن يقدّم نقده للديمقراطية؟!

يمكن الحديث كثيرًا عن منظومة التشريع المختلفة بين الإسلام والعلمانية، وما يراه الإسلاميون الذين قبلوا الديمقراطية بتصوّر معيّن أنّه بالإمكان تحييد منظومة التشريع العلمانية ضمن الديمقراطية. لكن المشكلة أن خطاب الغلوّ لا يمكنه قبول هذا الاختلاف في تفسير الديمقراطية والتعاطي معها؛ لأنّه أسقط عليها ما يتم إسقاطه في العادة على القضايا القطعية، فحكم عليها بالكفر، ومن ثم يصعب عليه أن يقبل الاختلاف في شيء يراه هو كفرًا!


4. الحاكمية

الحاكمية في الأساس مفهوم إيمانيّ عامّ غير مختصّ بالقضايا السياسية، وهو يعني بمعناه القرآني: قبول شرع الله ورفض ما سواه؛ فمن يرفض الحكم أو التحاكم أو تحكيم الشرع مع الرضا به في أي جزئية من حياته، فهو رافض لسيادة شرع الله على سلوكه، ومن ثم فهذا يحيل إلى خلل إيماني داخلي، ولذا تُعتبر الحاكمية بمعناها هذا مفهومًا عقديّا.

لكن الذي حدث بفعل خطاب الغلوّ هو أولاً تركيز الحاكمية في قضايا الدولة و«القانون»، وهو ما اصطُلح عليه بـ«تحكيم شرع الله»، باعتباره وظيفة الدولة. ثم حدث انحراف آخر في مفهوم الحاكمية، وهو توسيع مناطاتها بحيث أصبحت الكثير من الممارسات القانونية والدستورية كفرًا دون تحقيق، لمجرّد كونها غير صادرة عن الله.

لقد دعم خطاب الغلوّ – من حيث لا يدري – المقولات العلمانية حول الحاكمية باعتبارها تصوّرًا غير واقعي وباعتبار أنّ الله – تعالى عمّا يصفون – «لن ينزل ليحكمنا»! دعم خطابُ الغلوّ هذه المقولات بضيق أفقه وتوسيع المساحة العقدية في مفهوم الحاكمية لتشمل الكثير من الأنشطة الخارجة عنها في الحقيقة، ممّا جعل هذا الخطاب شبيهًا بخطاب الخوارج في التاريخ الإسلامي، الذين خلطوا بين «التحكيم» كممارسة بشرية طبيعية لفضّ الخلافات الحادثة، والتي يُفترض أن تكون مستندة إلى مرجعية الشريعة، وبين «تحكيم الشرع» باعتباره يعني مرجعية الشريعة والاحتكام إليها فيما بتّت فيه. وهذا يقودنا إلى الحديث عن مفهوم «التشريع».


5. التشريع

اعتبر خطاب الغلوّ التشريعَ حقّ الله الخالص في كل شيء، وأنّه لا يحقّ لأحد أن يشرّع شيئًا من دون الله. وهي مقولة تنطوي على كثير من الحق؛ فلا يجوز للمسلم أن يشرّع شيئًا مخالفًا للحكم الذي شرعه الله في كتابه وعلى لسان نبيّه، صلى الله عليه وسلم. ولكن الذي حدث عند خطاب الغلوّ هو (مجدّدا) توسيع مساحة التشريع، فأصبحت كل ممارسة تسمّى «تشريعًا» هي ممارسة «كفرية» في هذا الخطاب.

ونحن لو عدنا إلى القرآن الكريم لوجدنا أنّ المقصود بالتشريع الذي هو حقّ الله الخالص: «التحليل والتحريم»؛ فما أحلّه الله لا يجوز للبشر أن يحرّموه، وما حرّمه لا يجوز لهم أن يشرعوه. أما ممارسة البشر للتشريع وسنّ القوانين من أجل «تنظيم المباحات» مثلاً، أو باعتباره اجتهادًا لتحصيل المصالح فيما لم يرد فيه نصّ؛ فهو ممارسة بشرية بحتة، احتكامها للشرع هو في عدم الخروج عنه وفي اعتباره المرجعية الأولى، ولكن نسبة التشريع إلى البشر هنا لا علاقة لها بالكفر من قريب أو بعيد.

من هنا أساء خطاب الغلوّ مثلاً استخدام مقولة غير دقيقة وهي «القرآن دستورنا». فالقرآن ليس دستورًا؛ لأنّ الدستور مفهوم حديث يعني بشكل أساسي مجموعة من المواد الأساسية لتنظيم شؤون مجتمع ما، ولذا فهو أقرب ما يكون لنموذج «وثيقة المدينة». القرآن ثابت وهو كلام الله، والدستور متغيّر وهو من صنع البشر، وحتى لو نصّ على مرجعية الشريعة، فإنّ معظم ما فيه من مواد ستكون نظرًا مصلحيّا لتنظيم القضايا الإدارية وشؤون الدولة.


6. الولاء

يستند مفهوم الولاء الإسلامي بشكل أساسي على المحبّة والنصرة؛ فالمسلم يتولّى الله ويحبّه وينصر دينه ويُعليه، وهو يتولّى المسلمين بولاية الإسلام، فينصرهم ولا يخذلهم. ولكن خطاب الغلوّ – كعادته في هواية توسيع المناطات – وصفَ الكثير من الممارسات بـ«موالاة أعداء الله»؛ فأصبحت التحالفات ولاءً، وأصبح رفع علم غير راية العُقاب السوداء ولاءً على غير الإسلام. نظر هذا الخطاب إلى أشكال معيّنة مباحة شرعًا بشروط معيّنة، وضمّنها داخل الممارسات الكفرية في قاموسه الواسع.

أدى توسيع مناطات الولاء في خطاب الغلوّ إلى خلق عداوات كثيرة في الأساس مع الحركات الإسلامية الأخرى؛ فهي بمشاركتها السياسية في الأنظمة المعاصرة ترتكب موالاة للكفار بحسب هذا الخطاب، وبتحالفها مع حركات غير إسلامية تصبح موالية لها، وبرفعها لشعارات غير راية الإسلام تتولّى بولاية غير ولاية الإسلام.. إلى آخر هذه الاتهامات المتهافتة التي تستند في الأساس إلى ضعف التحقيق لمفهوم الولاء في الإسلام.


7. الشّرك

يوسّع خطاب الغلوّ مناط الشّرك في المفهومين اللذين ذكرناهما بشكل أساسي: الحاكمية والولاء. وتكمن المشكلة في أنّه يتغافل عن أنّ تكييف الشرك في الأساس يعود إلى «القصد» من الفعل، لا إلى «الفعل» ذاته؛ فالفعل ممارسة مادية ليست هي حقيقة الإنسان، والقصد الدافع هو المناط الحقيقي الذي ينزل عليه الحكم.

ولو افترضنا وجود شخص يسجد وأمامه قبر، فإنّ تكييف فعله إذا كان كفرًا أم لا متعلّق بالأساس في القصد؛ فلو لم يلاحظ القبر أساسًا وهو يصلّي لله لم يكن فعله شركًا، ولو كان يقصد التعبّد لهذا القبر كان ذلك شركًا. لكنّ خطاب الغلو يتغافل عن ذلك، فيصف الفعل ابتداءً بأنّه «شرك»، معزول عن القصد، وفي أحسن الحالات فهو يعذر الفاعل إذا علم أنّه لم يفعل ذلك قاصدًا ولم يلاحظ القبر، ولكنّه يُبقي على وصف «الشرك» للفعل ذاته!

وهذا يُعيدنا إلى جذر المشكلة عند خطاب الغلوّ، وهي أنّه خطاب مولع بالشكليّات والظواهر، ولا يمكن لتفكيره أن يرى أبعد مما يتحرّك أمامه من أشكال! ولذلك نجده قد يبرّئ جهة ما من مهادنة النظام «الجاهلي» لمجرّد أنها لا تشارك في الانتخابات التي يسمّيها «شركية»، حتى لو كانت داعمة له، ولكنّه في المقابل يدين جهة أخرى تخوض الانتخابات بالشرك لمجرد خوض الانتخابات، رغم أنها قد تكون أشدّ الجهات معاداة للنظام «الجاهلي».

ولكن القضية عند هذا الخطاب محسومة في الشكليات، ولا يتعب نفسه بالنظر في القرائن الحالية والمقالية وفي المقاصد كما كان دأبُ علماء الإسلام المحقّقين على مرّ العصور. وهو بذلك خطاب سطحي، وسطحيّته هذه هي التي دفعته إلى توسيع دائرة الشرك لتشمل عددًا هائلاً من الممارسات.


8. التعددية

يعتبر خطاب الغلوّ «التعددية» فكرة غربية وافدة لا أساس لها في تاريخنا الإسلامي. وهو يرتكب إحدى أشدّ الحماقات قبحًا عندما يرى أنّه عند وجود دولة إسلامية لا ينبغي وجود أية أحزاب؛ لأنّ تعدد الأحزاب يعني في حسّه تفرّقًا منهيًّا عنه. ومن ثمّ تصبح الدولة في تصوّر الغلاة هي «الدولة الحزب».

ما لا يفهمه الغلاة أنّ حظر التعددية هو سيرٌ نحو التخلّف بل والتبعيّة؛ فاحتكار السلطة ضمن حزب واحد يعني ضيق أفق الأفكار والبرامج، ممّا يولّد عقمًا فكريًّا داخل الحزب الحاكم. بينما تسمح التعددية بوجود روافد عديدة متنوعة لتقديم الآراء والبرامج والحلول، ممّا يثري الحالة السياسية ويزيد نسبة الخبرات المتاحة. وفضلا عن ذلك، فإنّ وجود قوى الأمة المختلفة ضمن أحزاب سياسية متعددة يجعل عملية اختراقها أكثر صعوبة، بينما سيكون من السهل اختراق حزب واحد منغلق على نفسه ويحتكر الحكم. وفي هذه الحالة يكون الاستبداد هو أول الطريق نحو التبعيّة والارتهان للخارج.

إنّ العهد النبوي نفسه لم يشهد بعد التمكين سعيًا لتلوين كل فئات المجتمع بلون واحد، بل بقيت الأطر متعددة، كالقبائل وكالمهاجرين والأنصار على سبيل المثال، مع اجتماعها على مشروع واحد وفي إطار دولة واحدة.

كان لتلك الفئات المجتمعية تمثيلها ضمن مختلف الأنشطة السياسية والاجتماعية، وكان هناك «العرفاء» الذين يمثّلون قومهم عند النبي صلى الله عليه وسلم، بل جاءت بعض الروايات بوجود تمثيل امرأة عن فئة النساء في المجتمع. ممّا يجعلنا نؤكّد أنّ فكرة التعددية ليست فكرة غربية وافدة، بل هي في الأساس الوضع السليم لسياسة المجتمعات البشرية، وقد كانت بداية الانحراف السياسي في تاريخ الأمة القضاء على هذه التعدّدية وعلى تمثيل فئات الأمة المختلفة في الحالة السياسية، والتأسيس للاستبداد والتوريث واحتكار السلطة منذ العصر الأموي.


9. الحرية

من أسوأ ما يطرحه خطاب الغلوّ هو تقديم مفهوم «الحرية» باعتباره معاديًا للدين، فالحرية في هذا الخطاب تُصرف دائمًا للتفلّت من الدين وحرية الفجور! وهو ما أشرنا إليه عند حديثنا عن الديمقراطية، بأنّ هذا الخطاب مولع بالتفكير السلبي تجاه الأمة، وافتراض فجورها وفسقها وكفرها ابتداء.

ما يغفله هذا الخطاب أنّ الحريّة، وإنْ لم تردْ بهذا اللفظ تمامًا في الشرع، هي من أسس تكليف الإنسان وتشريفه؛ فبدون الحرية لم يكن هناك معنى لهذا التكليف. وإنّ رسالة الإسلام الأولى، وهي رسالة التوحيد، تعني التحرر من عبودية المخلوقين وإفراد العبادة لله ربّ العالمين. فالإسلام كلّه حرية، بالمعنى المتبادر الجميل للكلمة، والمسلم لا يخشى بعد ذلك الانحراف إلى المعاني السلبية لأنّه يُفترض به أنّه «مسلم»، أي متّبع لدين الإسلام.

ولعلّه من المفارقات أن تكون إحدى أزمات الأمة الإسلامية (والعرب تحديدًا) في وقتنا الراهن هي الاستبداد والطغيان المفروض عليها منذ عقود طويلة، ثم يأتي من يذمّ – في هذه الأجواء – فكرة الحرية! التي يتم تداولها في سياقنا الحالي كمضاد للطغيان والاستبداد السلطوي، مما يجعل الدين في حسّ من يستمع إلى خطاب الغلوّ هذا نصيرًا للاستبداد!


10. التفاوض والهُدَن

تبدو كلمات مثل «مفاوضات» أو «هُدَن» في خطاب الغلوّ بمثابة رجس ينبغي تجنّبه، أي يتم التعامل معها باعتبارها انبطاحًا وخيانة وأحيانًا «كفرًا» ووقوعا في غواية الأعداء. رغم أنّ ألف باء السياسة عبر الدهور تقول إنّه لا يمكن لأي حراك ثوري/سياسي/عسكري أن يجني ثماره إلا من خلال المرور بهذه العملية، وهي التفاوض.

يُغفل الغلاة تاريخًا حافلا بالمفاوضات بين القيادات الإسلامية وأعدائهم من الكفار عبر أكثر من ألف عام، منذ عهد النبيّ، صلى الله عليه وسلم، ومعاهدة الحديبية الشهيرة (التي يحبّ الغلاة الهروب منها والتشغيب على الاستدلال بها) مع كفار قريش، مرورًا بصلاح الدين الذي تفاوض في «صلح الرملة» مع الصليبيين الذين أقاموا المذابح للمسلمين، وصولا إلى الدولة العثمانية وغيرها. هذا التاريخ كلّه هو في حكم غير الموجود في حسّ الغلاة، وكأنّ تاريخ المسلمين كلّه تاريخ من القتال المحض!

ومن مساوئ هذا التفكير أنّ الكثير من الجهات الإسلامية فشلت في قطف ثمار جهادها وتضحياتها، وذلك لجهلها بأهمية التفاوض، وكونه علمًا يحتاج إلى خبرات متراكمة وممارسة حيّة، مثله مثل علوم الحرب وتكتيكاتها. وإنّ أخطر ما طرحه خطاب الغلوّ بخصوص التفاوض والهُدَن هو وضعها في خانة «الكفر»، فأصبح كلّ من يمارس هذه العملية خائنًا معاديًا للأمة.

لقد تفاوض الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، وهادَنَ ومارس خطابًا سياسيًا ودبلوماسيًا من أرقى وأصلب الخطابات التي عرفها التاريخ البشري، والموجة المضادة التي تحاول بيان اختلاف مفاوضات الرسول، عليه الصلاة والسلام، عن مفاوضات الواقع المعاصر لتقبيحها وصرف النظر عنها؛ تمارسُ فعلَها النكد في بقاء الأمة ساذجة في هذا الجانب الحيوي والضروري.


لم يكن من أهداف هذا المقال التفصيل في كل مفهوم من هذه المفاهيم، ولكنّها إشارة إلى مكمن الإشكال حول تلك المفاهيم والمصطلحات، وكيف أنّ سوء فهمها والخطأ في التعاطي معها أدى إلى بناء هيكل «هشّ» لخطاب الغلوّ المعاصر، حيث بدا لنا أنّ خطاب الغلاة في معظمه هو هذا التصوّر المشوّه لتلك المفاهيم.

مع التأكيد على أنني لا أقلل من أهمية المصطلحات في أي خطاب، وأنّ كل مفهوم قابل للنقاش وإبداء الرأي، ولكن خطاب الغلوّ المعاصر تميّز بسوء فهم عجيب شمل هذه المفاهيم والمصطلحات، وتميّز أيضًا بضيق أفق جعله يعادي فئات واسعة من الأمة لمجرّد الاختلاف حول قضايا يسعها الاختلاف.

وقد تناولت هذه المفاهيم وخطاب الغلوّ بشكل أوسع في كتيّب «الخطاب المريض: جراحة استئصالية لأفكار سرطانية»، وهو منشور إلكترونيّا في موقع «يقظة فكر»، فليراجعه من أراد المزيد.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. كتيب الخطاب المريض صدر عن موقع "يقظة فكر" عام 2015.
  2. قال الكاتب "إنشاء التعارض بين إرادة الأمة وإقامة الشرع".
  3. مقال الكاتب بعنوان "هوَس الرايات السود: بين الحقيقة والخرافة".