ارفع إيدك فوق.. لو متضايق هتروق.. القمة جت هتذيع اوعاك في العكسي تسوق.

بهذه الكلمات يفتتح فريق «اتحاد القمة» مهرجانه الأشهر «فرتكة فرتكة»، الملفت جداً للنظر أنك بعد أن تستمع للجملة وتجرب رفع يدك فوق فعلا سوف تجد نفسك تضحك ببلاهة على اللاشيء، تلك ليست تجربة شخصية، وإنما بشكل ما ملاحظة متكررة، أيا كان الوسط الذي تنتمي إليه.

انتشر، في الشهور الأخيرة، كليب دعائي لإحدى شركات التجميل واسعة الشهرة قليلة الجودة منخفضة السعر، بالطبع لا يستخدم منتجاتها أبناء الطبقة المتوسطة والتي تعلوها، ولكن بقليل من البحث ستكتشف أن معظم أبناء تلك الطبقة يحفظون الإعلان عن ظهر قلب، ويرددون «أنا راجل كلمتي واحدة ومتفرقش معايا ولا واحدة».

موسيقى المهرجانات أصبحت هي الأشهر والأكثر سيطرة على كل مناسبات مجتمعنا خلال السنوات الأخيرة، ينقسم المجتمع إلى المحافظين الذين يرون أن ذلك النوع من الموسيقى ينحدر بالذوق العام إلى الهاوية، وآخرون يرون أنها مبهجة وفي هذا الكفاية، بعضنا يضيق بصخب الموسيقى المصاحبة لأي كلام يقال في الأغنية، والبعض الآخر ينسجم مع الموسيقى السريعة ذات النغمات المتكررة وكأنه منوم مغناطيسيا، جدل واسع حول موسيقى المهرجانات، ولكن هذا الجدل لا ينفي أنها تنتشر يوميا بشكل أسرع وأكبر من أن تلاحقها تحليلات الطبقة المثقفة.


ولكم في الموسيقى شفاء

في العلاج النفسي الشعبي تستخدم الموسيقى الصاخبة، كما في حفلات «الزار» التي كانت منتشرة قديما،يقول الدكتور أحمد عكاشة في كتابه الطريق إلى السعادة إن «الزار هو من أكثر العلاجات الشعبية شيوعا في مصر والسودان، حيث اعتمد الزار على قرع الطبول بشدة مع رقصات عنيفة يتخلص بها المريض من أعراضه النفسية».

وطبقا لدراسة أجريت في جامعة «كوينزلاند» بأستراليا عمدت إلى تعريض مجموعة من الشباب بين عمر 18 و34 إلى مثيرات مغضبة ثم تعريضهم لسماع موسيقى صاخبة، ظهر أن الموسيقى ساهمت في تقليل حجم التوتر وانخفاض معدل ضربات القلب العالي، وقد خرجت الدراسة باستنتاج أن الموسيقى الصاخبة لا تجعل الأشخاص الغاضبين أو المستثارين أكثر غضبا، بل تساعد في توليد مشاعر إيجابية لديهم.

موسيقى المهرجانات تشبه إلى حد كبير حفلات الزار، وهي ابنة شرعية لموسيقى الميتال الغربية، إيقاع صاخب وكلمات لا تفهم معظمها تحث المستمعين على تحريك أجسادهم قسريا، وكأنهم مجبرون على التفاعل، هذا المجهود الكبير الذي يترك الإنسان منهكا بعد ممارسته يساهم بشكل ما في تفريغ طاقات كامنة تساعده على الاسترخاء مثل ممارسة الرياضة العنيفة مثلا، كما أن إنهاك العضلات يؤثر تأثيرا كبيرا في تقليل المجهود الذهني وتقليل التوتر.


التطور الطبيعي

فرضت موسيقى المهرجانات نفسها على المشهد الفني في السنوات الأخيرة، فتداولها لم يصبح مقتصرا فقط على الطبقات الشعبية التي خرج منها هذا النوع من الموسيقى في البداية، فقد تشعبت حتى استمعنا في منتصف 2015 إلى مهرجان من تأليف الشاعر «مصطفى إبراهيم»، هذا الشاعر الحالم الذي يكتب عن الرأسمالية والحرية والثورة والحلم، المهرجان غناه واحد من أشهر فرق غناء المهرجانات في مصر «السادات وفيفتي» تحت اسم «مهرجان الإفراج».

تجد في المهرجان الذي كتبه «مصطفى إبراهيم» بصمته العميقة في الكلمات لتجده يحكي قصة في منتهى العذوبة والحساسية؛

بعد ما قضى نص المدة فتحوا باب زنزانته الصاج.. عم محمد مات م الوحدة أول يوم بعد الإفراج

ربما لم تكن تلك الكلمات لتجد صدى إذا ظلت قصيدة شعرية لن يقرأها سوى المتعارف عليهم كمثقفين، ولكن بصوت السادات وفيفتي فالجمهور أوسع، وعدد من تعاطفوا مع عم محمد الذي مات أول يوم بعد الإفراج أكبر بكثير.

وعندما احتفلت واحدة من أشهر صفحات الكوميكس في مصر بعيد ميلادها، آثروا أن يكون الاحتفال ضارباً في جذور الشباب الذين يخاطبونهم، رغم أن الصفحة تخاطب بالأساس جمهور السوشيال ميديا الذي هو بشكل ما ينتمي للطبقة المتوسطة فكان «مهرجان العمق» الذي يسخر بشكل ما من المجتمع المنشي الذي يسمي نفسه مثقفاً فيبدأ المهرجان بجملة «أنا اللي عشت عميق في عميق كل ما أوسع أفقي يضيق»، ويستمر على مدى الأغنية في السخرية من كل مظاهر العمق المتعارف عليها في قالب خفيف الدم.


المهرجانات السياسية

رغم أن موسيقى المهرجانات جاءت من طبقات اجتماعية دنيا إلا أن هذه الفئة تعيش معنا على نفس الأرض، يقاسموننا نفس المشاكل السياسية ونفس الصراعات الطاحنة، ربما لا تعلو أصواتهم في العادة نظراً لأنهم فئة مشغولة دوماً بلقمة العيش «بيعيشوا اليوم بيومه» كما يقول التعبير العامي الدارج، إلا أن هذه الفئة تحديداً كانت تشعر أن في الثورة المصرية خلاصاً لأرواحهم، ويمكنك أن تسمع الكثير من الشهادات الحقيقية من الميدان عن «الغلابة» الذين شاركوا في الحلم/الكابوس.

كانت المهرجانات – ولا زالت – صوتاً لتلك الفئة، الفئة المهمشة التي فجأة صارت قادرة على الصراخ في أرقى الأماكن عن طريق الموسيقى، فكان من الطبيعي أن تستمع إلى مهرجان «يا بتوع السياسة» الذي يشارك في الحلم بسذاجة شديدة كأن يقول «إنتي يا بت يا ثورة بسرعة هاتي عدالة.. دي الثورة للرجالة»، أو أن تستمع إلى مهرجان «الدولجية» الذي يسخر من داعش والدولة الإسلامية وكأن موسيقى المهرجانات حررت قوة الفئة الفقيرة من عقال الصمت فانطلقت تتحدث في كل شيء ببساطة ولكن بكلمات مؤثرة وبصخب لابد أن يجذب أسماعك.

ومؤخراً انتشر مهرجان الكوتشي اللي باش من فيلم «علي معزة وابراهيم»، الملفت للنظر في هذا المهرجان تحديداً أنها لم تكن المرة الأولى التي يتم فيها غناء هذه الكلمات، فقد غناها «محمد محسن» من قبل بمنتهى الرقي، ودون موسيقى إلا وشيش صخب الشارع في الخلفية، لم تنتشر الأغنية حين تم إطلاقها في 2013 إلا بين أوساط المثقفين، ولكن بعد غناءها كمهرجان اشتهرت الكلمات أكثر، بل أصبح يمكنك بالفعل أن تستشعر تلك الكلمات عندما تخرج بصخب من «توكتوك» يليق عليه فعلاً أن يغني صاحبه للكوتشي اللي باش، الكلمات مناسبة جداً لتكون صوتاً للفئة التي تلف في الشوارع فعلاً، التي يذوب الكوتشي معها، الكلمات مناسبة لتكون مهرجاناً شعبياً أكثر من أن تكون أغنية شيك يغنيها محسن بشكله الوقور الكلاسيكي.


إلى اللانهائية وما بعدها

ومع أن «موسيقى المهرجانات» خرجت من عباءة الأغنية الشعبية فإنها تفوقت عليها واستطاعت أن تجذب جمهورا مختلفا تماما، وتوسعت قاعدة جمهور المهرجانات لتخرج إلى العالم الأول، فبدأ مطربو المهرجانات في إحياء حفلات في باريس، ولوس أنجلس، وهم الذين لا يفقهون حرفا من لغة أخرى، ولكن موسيقاهم قادرة على جذب آذان لا تنطق حرفا من العربية بدورها، وإنما العامل الأساسي هو الموسيقى، الرتم والإيقاع الذي يجذب الجمهور دون الالتفات للكلمات أيا كان ما يقال.

موسيقى المهرجانات أصبحت لغة قائمة بذاتها لا تعتمد بشكل أساسي على الكلمات، وإنما على الحالة التي تضعك فيها الأغنية، والدليل على ذلك أن الجمهور الغربي يتفاعل مع «عمرو حاحا» و«السادات»، اللذين يجوبان العالم ليقدما موسيقاهما التي تنتمي إلى فئة المهرجانات.

رغم كل ذلك النجاح فإن هناك قطاعا لا يستهان به من الجمهور المصري لا يزال يرى أن المهرجانات نوع رديء من الموسيقى رغم أنها موجودة وبقوة في كل شيء، ولا زالت هناك فئة من المثقفين يرون أن المهرجانات تمثل انحدارا في الذوق العام، ولكن لا يرجع هذا لرداءة نوع الموسيقى في حد ذاتها، ولكن لأن من يقومون بأدائها شباب ليسوا جذابين بالمرة، أشكالهم «غلط» كما يطلق عليهم صفوة المجتمع، أصواتهم خشنة وملامحهم غير بريئة وطريقة كلامهم سوقية، ليسوا واجهة ثقافية بالمعنى المتعارف عليه، فيستمر المجتمع في ازدرائهم رغم نجاحهم الذي لا يمكن لأحد أن ينكره.