بين وجهٍ جميل وعقلٍ راجح، أيهما ستختار؟

سؤالٌ قديم جديد، لا إجابة له. فكلنا نتمنى إطلالة ترضينا وتمنحنا انطباعا جيدا لدى الآخرين، كما نتمنى أيضا قدرة على التفكير تمكننا من التواصل مع العالم بكل ما فيه من تحديات. لن يتنازل أي منا إذن عن هذا مقابل ذاك.

ولكني لطالما آمنت أن للعقل الأولوية، ليس فقط لأنه يعطينا القدرة على التعامل مع الحياة على المدى الطويل في حين لا تمنحنا الإطلالة إلا أفضلية لحظية، ولكن لأنه أيضا يستطيع إحاطتنا بهالة تمنحنا كل شيء، حتى هذه الإطلالة الجميلة وإن لم نمتلك كل مقوماتها. خصوصا أن الجمال مفهوم نسبي، يخضع للذوق الشخصي والعام، كما يخضع لاختلاف الزمان والمكان.

لم أجد خيرا من اليوم للحديث عن الجمال، خصوصا أنه يوم ميلاد سيدة استطاعت أن تبقى جميلة في عيون المصريين مهما كبرت، لأنها أدركت إجابة السؤال الذي فشلت فيه كثيرات، إنها وبلا شك الممثلة الأكثر ذكاءً في تاريخ السينما المصرية، الجميلة الراحلة «فاتن حمامة».

سألت فاتن حمامة: ماذا يثير أعصابك؟ قالت بسرعة ودون أن تفكر: الغباء.
مفيد فوزي في حواره مع فاتن حمامة

باب مفتوح على المستقبل

بدأت «فاتن حمامة» مشوارها السينمائي منذ الطفولة، منذ أن أعجب المخرج «محمد كريم» بإطلالتها حينما كان عمرها تسع سنوات. كان هذا في بداية الأربعينيات التي أكملتها في مربع الطفولة وبداية الصبا، لتعقبها الخمسينيات التي قدمت فيها فاتن أدوارًا كثيرة غلب عليها الرومانسية الحالمة والميلودراما التي كانت مسيطرة على أجواء السينما المصرية في ذلك الحين. انتهت هذه المرحلة بدورها في «بين الأطلال».

ومنذ نهاية الخمسينات وحتى رحيلها المؤقت في منتصف الستينات انتقلت فاتن لمربعها الأهم، بطولاتها المنفردة، بداية الدفاع بشكل صريح عن حقوق المرأة، وتحول غير مسبوق في الأدوار النسائية في السينما المصرية. في سنوات قليلة صنعت «دعاء الكروان»، الفيلم الذي وصل للقائمة القصيرة المرشحة لجائزة «الدب الذهبي» من مهرجان برلين. و«الحرام»، الفيلم الذي نافس بقوة على سعفة مهرجان «كان». وبينهما فيلم يبدو وكأنه قادم من المستقبل، هذا الفيلم هو «الباب المفتوح».

وأنا أحبك وأريد منك أن تحبيني، ولكني لا أريد منك أن تفني كيانك في كياني ولا في كيان أي إنسان، ولا أريد لك أن تستمدي ثقتك في نفسك وفي الحياة مني أو من أي إنسان، أريد لك كيانك الخاص المستقل، والثقة التي تنبعث من النفس لا من الآخرين، وإذ ذاك عندما يتحقق لك هذا لن يستطيع أحد أن يحطمك، لا أنا ولا أي مخلوق.

القصة التي كتبتها الأديبة المصرية «لطيفة الزيات» كانت جريئة للغاية في ثورتها على السلطة الأبوية والمجتمعية على النساء، ولا أبالغ حينما أقول إننا للأسف مازلنا نعاني من نفس السلطة بنفس القيود حتى الآن. رسائل «حسين» الذي أدي دوره الراحل «صالح سليم» يمكن اعتبارها متحررة وثورية في مجال الدفاع عن حقوق المرأة حتى هذه اللحظة. أدركت فاتن كل هذا، وفي هذه المرحلة التي تلت «دعاء الكروان» استطاعت أن تختار لنفسها نصوصا ذات قيمة تمكنها من البقاء في وجه الزمن.

في «الباب المفتوح» نشاهد «ليلى»، فتاة الطبقة المتوسطة، التي تؤمن بأن لها حقوقا، ولكنها تظن أن تحقيقها درب من المستحيل، فترضى كباقي فتيات وطنها عن حياة لم تشارك في اختيارها. ترفض الحب لأنها تعلم أنها لن تقدر على فرض إرادتها، كما ترفض السعادة لأنها تعلم أنها ستزول ولن تستطيع الدفاع عنها. حتى تدرك أخيرا أنها لن تتحرر ولن تجد نفسها إلا إذا عبرت هذا الباب بمفردها، هذا الباب الذي ستدرك أنه مفتوح بمجرد عبورها منه.

ربما يكون «الباب المفتوح» واحدا من أكثر أفلام الستينيات تفضيلا عند جيل «ما بعد يناير»، يبدو هذا جليا من كم الاقتباسات من الفيلم التي يشاركها شباب وفتيات اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي طوال الوقت. يبدو أن فاتن رأت هذا قبل زمانها.


إمبراطورية ميم: خطوة واسعة للأمام تضمن العودة

غادرت فاتن مصر في منتصف الستينيات بعد ضغوط متتالية من مخابرات «صلاح نصر»، حينها كانت الجمهورية العربية المتحدة مساحةً غير آمنة، زوار فجر يختطفون الشباب من منازلهم، معتقلات مليئة بكل أطياف الشعب، وأخيرا مخابرات تحاول تجنيد كل نجوم السينما والفن.

لم تستجب فاتن للضغوط، وقررت الرحيل متحججةً بالانضمام لعمر الشريف (زوجها في هذا التوقيت) خارج البلاد. قضت فاتن الأعوام التى تلت 1966 بين لبنان، وباريس، ولندن. ولم تعد في النهاية إلا عقب وفاة ناصر وبعد أن أجرى السادات بعضا من التغييرات في رأس السلطة فيما أسماه «ثورة التصحيح».

لم ترحم الصحافة فاتن عقب عودتها، ولم يتوقف الهجوم عليها إلا عقب لقائها بمحمد حسنين هيكل، رئيس تحرير جريدة الأهرام في هذا التوقيت. عادت فاتن للسينما بفيلم «الخيط الرفيع» مع بركات مرة أخرى. حقق الفيلم نجاحا لا بأس به، ولكنها أدركت حينها أن الوقت حان لتحول جديد.

واتخذت فاتن حينها قرارا غير متوقع على الإطلاق. تخلت بإراداتها عن أدوار الفتاة العاشقة، وقفزت خطوة واسعة إلى أدوار الأمومة. ولم تبدأ كأم لأطفال صغار، ولكنها أم لشباب مراهقين في الجامعة. كانت «إمبراطورية ميم»، وعادت فاتن إلى القمة مرة أخرى بعد غياب.

في «إمبراطورية ميم» لجأت فاتن لمخرج جديد هو «حسين كمال»، كما لجأت لقصة قصيرة لمعشوق الجماهير حينها «إحسان عبد القدوس»، قدم «نجيب محفوظ» المعالجة الدرامية الأولى للفيلم، قبل أن يعيد عبد القدوس كتابة السيناريو والحوار بشكل مكتمل.

في الفيلم نتابع رحلة «منى»، الأرملة التي تعمل وتعتني بأسرتها، منذ أن كانت شابة قررت أن تتزوج حبيبها بإرادتها، ومرورا برحلة كفاح مشترك مع زوجها، وأخيرا بتعاملها مع جيل جديد من الشباب الطامح للتحرر والديمقراطية في مجتمع عاش لسنين تحت وطأة حكم ديكتاتوري. لم تتخل فاتن إذن عن تيمتها النسوية التحررية، ولكنها مزجتها هنا بحكاية دراما اجتماعية تحمل تحريضا مباشرا على الديمقراطية.


ضمير أبلة حكمت: سيدة الشاشة في كل بيت مصري

الحب حجة الديكتاتورية، كل ديكتاتور بيقول للناس إنه بيحبهم وهو مبيحبش غير نفسه.

في السبعينيات استمرت فاتن في تربعها على عرش السينما بعد ثلاثة عقود كاملة من ظهورها، قدمت عقب «إمبراطورية ميم» أفلاما بحجم: «أريد حلا» مع المخرج «سعيد مرزوق»، الفيلم الذى أدى لتغيير قانون الأحوال الشخصية المصري وظهور قانون الخلع عقب ذلك، و«أفواه وأرانب» مع «بركات» مرة أخرى، فيلم الدراما الاجتماعية الذي قام فيه النجمان «فريد شوقي» و«محمود ياسين» بأدوار مساندة لها.

في الثمانينيات بدأت السينما في الركود، كما بدأ الزمان في فرض أحكامه على فاتن، فالفتاة التي كانت تقوم ببطولة عشرة أفلام أو أكثر في العام، لم تصنع غير فيلمين في حقبة الثمانينيات مكتملة، هما «يوم مر ويوم حلو» مع مخرج جديد هو «خيري بشارة»، و«ليلة القبض على فاطمة» آخر أفلامها مع مخرجها القديم بركات.

فقدت فاتن -بحكم السن- قليلا من جمالها، ولكنها لم تفقد ذرة من جمال عقلها، أدركت أن لحظة التحول قد حانت فلم تتأخر عنها، فهاجرت من الشاشة الكبيرة إلى الشاشة الصغيرة، فأدركها جيل جديد وارتبطت ذاكرته بها في صورة «أبلة حكمت».

في «ضمير أبلة حكمت» تعاونت فاتن مع كاتب درامي كان في أوج عطائه، هو الراحل «أسامة أنور عكاشة»، ومع مخرجة مبدعة هى «إنعام محمد على». كثفت فاتن خبرة السنين السينمائية وتوحدت بشكل مكتمل مع شخصية أبلة حكمت. لم يلحق جيل التليفزيون بأفلام فاتن في سينما الخمسينيات والستينيات وربما حتى السبعينيات، لم تكن قنوات الأفلام قد ظهرت بعد، ولم يكن في التلفاز خيارات تتعدى بضع قنوات محلية. حقق المسلسل نجاحا ساحقا، وقدمت فاتن من خلاله للجمهور نجوما شبابا صاروا كبارا الآن منهم «سوسن بدر»، و«عبلة كامل».

لم تكن اكتشافات فاتن تمثيلية وفقط، ففي «ضمير أبلة حكمت» أعطت الفرصة مرة أخرى موسيقارا كبيرا هو «عمر خيرت»، بعد أن اكتشتفته ودفعته للتأليف الموسيقي للسينما والتليفزيون من خلال فيلم «ليلة القبض على فاطمة». كانت لها رؤية ثاقبة وعين خبيرة، فعاشت موسيقى خيرت التي صنعها لها وارتبط بها الجمهور حتى الآن.

الطريف أن فاتن التي قدمت أكثر من 94 فيلما سينمائيا، أكثر من نصفها في الخمسينيات والستينيات، لم تحصد لقب «سيدة الشاشة العربية» إلا عقب عودتها في السبعينيات، وذلك من خلال الصحفي اللبناني «محمد بديع سربية» رئيس تحرير مجلة «الموعد». كان من الممكن أن يسقط ويُنسى كما سقط كثير من الألقاب، ولكن ذكاءها وقدرتها على صنع هذه التحولات المتلاحقة وهذه الاستمرارية المدهشة هو ما جعل هذا اللقب حقيقة. وهو ما منحها القدرة على اقتناص لقب أفضل ممثلة في تاريخ السينما المصرية في احتفالية «مائة عام من السينما» والذي أقيم في القاهرة في عام 1996. وهو ما جعلنا كمحبين للسينما نتذكرها دائما، وحتى اليوم بكل ما هو جميل.