تتمتع الماركسية ببريق أيديولوجي خاص بين الحركات الثورية في العالم العربي، حتى في ظل محدودية أعداد مُتبنيها. ولم ينازعها في ذلك سوى مفردات الإسلام السياسي الثورية، التي غالبًا ما تجد ظهيرًا شعبيًا ضخم يؤمن بها حتى وإن لم يُدرك كامل أبعادها.

من يحمل لواء الثورية في العالم العربي؟

كان هذا محور التنازع الأيديولوجي بين اليسار والإسلام السياسي، تنازع فكري خالص، عبّرت عنه التحولات الأيديولوجية لقادة الحركات الوطنية التحررية في العالم العربي.

حالة الكتيبة الطلابية لحركة فتح، وتحولها من اليسار إلى الإسلام السياسي، كان نموذجًا مثاليًا لشرح مواطن قوة وضعف كل اتجاه أيديولوجي، وأبعاد التنازع بينهما.

استطاع الباحث السياسي الحاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية «نيكولا دوت بويار»، تقديم قراءة جادة لحالة الكتيبة الطلابية عبر دراسته المُعنونة بـ: «من بكين إلى طهران يولون الوجه شطر القدس: ماويو فتح والتجربة الفريدة من التحول نحو الإسلام».

وقد تمكنت الباحثة «عومرية سلطاني» من ترجمة هذه الدراسة، ليتم إعادة نشرها عبر مكتبة الإسكندرية، من خلال سلسلة كراسات تُسمى «مراصد»، وذلك في نوفمبر/تشرين الثاني 2010.


التقاء اليسار والإسلام

تصريحات ياسر عرفات عام 1979 خلال زيارته لإيران بعد الثورة

يرى بويار أنه خلال الستينات والسبعينات، كانت السياسة لا تزال تستقي مفرداتها من الماركسية، التي هيمنت أيديولوجيًا على بعض بقاع الأرض خلال هذه الفترة الزمنية، وذلك قبل أن يأتي النموذج السوفياتي ليُبدد إيمان الشعوب المقهورة باليسار، ويُثبت أنه ليس إلا «اشتراكية استعمارية» لاسيما في سياق الحرب في أفغانستان عام 1979، لينتقل المشهد السياسي إلى الجانب الآخر، إلى الإسلام السياسي.

جمعت الماركسية في تركيبها بين الثورة واللاهوت (لاهوت التحرير)، وامتلكت النزعة الحركية الإرادوية، والسعي نحو خصوصية تحررية تبتعد عن النماذج الغربية الاستعمارية. وقد وجد المتحولون نحو تيار الإسلام السياسي، أنه استمرار لتركيبة الماركسية في ثوريتها ولاهوتها وخصوصيتها، حتى صار اليوم القوة الرئيسية للتعبئة الجماهيرية في العالم الإسلامي.

إن الانتقال من الماركسية الثورية ذات النزعة القومية إلى الإسلام السياسي داخل الحركات الفلسطينية واللبنانية التي استلهمت التجارب الصينية والفيتنامية والكوبية، يكشف عن بحثهم عن نموذج محلي للتحرر الوطني. وبالنسبة لهم فإن الماركسية الآسيوية (قبل الثورة الإيرانية) قد مثّلت لهم نموذجًا سياسيًا وأيديولوجيًا وعسكريًا.

فالعديد من الشخصيات المحورية في تيار الإسلام السياسي ذات النزعة الوطنية كانوا في بدايتهم مناضلين في الحركة الماوية الفلسطينية اللبنانية في فترة الحرب الأهلية، مثل: عماد مغنية، وطراد حمادي، وأنيس النقاش، وسعود المولى، ونذير جاهل، وروجيه عساف، وسهيل الكاش، وروجيه نبعة.

إضافة إلى بعثيين وناصريين وشيوعيين انتقلوا أيضًا إلى تيار الإسلام السياسي، مثل حازم صاغية.


كتيبة فتح الطلابية

يتحدث بويار عن نشأة الكتيبة الطلابية لحركة فتح، ويدّعي أنها وُلدت عام 1974، عبر اتجاهين اثنين: الأول، بواسطة شباب الطلبة اللبنانيين الذين خرجوا من منظمة العمل الشيوعي في لبنان وأسسوا عام 1972 مجموعة ماوية صغيرة سُميت «نواة الشعب الثوري». الثاني، عبر القادرة اليساريين الفلسطينيين الذين عارضوا الخط السياسي الجديد الذي انتهجته فتح بزعامة ياسر عرفات، والذي تبنى حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية.

فكانت الكتيبة الطلابية ثمرة التقاء فلسطيني لبناني، لاتجاه يساري مستوحى من تجارب الانغماس الشعبي لدى اليسار البروليتاري ولدى الثورة الثقافية الصينية، وبين كوادر فلسطينية راغبة في إعادة توجيه مسار حركة فتح باتجاه اليسار الوطني.


التحول نحو الإسلام

عوامل عدة ساهمت في تنحية الأيديولوجية الماركسية من زعامة حركات التحرر الوطني العربي لصالح تيار الإسلام السياسي.

حيث فشلت الثورة الثقافية في الصين التي أُطلقت في نهاية الستينات، إلى جانب وفاة ماوتسي تونغ في سبتمبر/أيلول 1976 وبداية حملة التطهير الداخلي في الحزب الشيوعي الصيني مع اعتقال «مجموعة الأربعة».

كما أن الحرب الصينية الفيتنامية في فبراير/شباط – مارس/آذار 1979 دفنت بدورها فكرة الأممية الاشتراكية النقية والبعيدة عن المنطق الوطني والدولتي.

كما وجه التدخل السوفياتي في أفغانستان في سبتمبر/أيلول 1979 ضربة قوية للمشروع الاشتراكي برمته، والذي سيُعتبر منذ ذلك الحين مشروعًا استعماريًا أسوة بالمشروع الغربي.

وعلى الصعيد العربي، نشبت الحرب الأهلية في لبنان، وتدخلت القوات السورية ضد منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، لتضرب المشروع البعثي العربي الذي تراجعت الثقة فيه.

وجاءت زيارة السادات للقدس عام 1977، مضافًا إليها سياسة الانفتاح، لتضح حدًا نهائيًا للمشروع القومي الناصري الاشتراكي، ثم توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، التي شعرت معها الحركة الوطنية الفلسطينية أنها تعرضت للخيانة.

وأخيرًا جاءت الثورة الإيرانية، لتُعلن بشكل واضح أن الإسلام السياسي هو من سيقود دفة قيادة الحركة الوطنية العربية. فبوصفها ثورة الجماهير الشعبية الوحيدة في المنطقة تاريخيًا آنذاك، نجحت بقوة في الاستحواذ على المفردات الكلاسيكية: مناهضة الإمبريالية، والانقسام شمال-جنوب، ومركزية نموذج الإنسان المُضطهد، مرورًا بأسملة تطبيقاتها.

فكانت الدعوات الإيرانية قادرة على أن تجذب في بداياتها عددًا من الثوريين الذين كانوا يمرون بأزمة في المنظور الإستراتيجي.

ويؤكد بويار أن تبني الحركة الوطنية العربية للماركسية الماوية لم يكن بسبب الافتتان النظري بها، ولكن بسبب كونها مشروعًا جديدًا ومحليًا للتحرر الوطني؛ أي لأجل جوهرها غير الغربي.

وعلى المنوال ذاته، اعتبر عدد من المناضلين العرب أن تبني الثورة الإيرانية اندرج في إطار استمرارية إستراتيجية شاملة، تتعلق بتطوير طريق تحرري محلي فعال، ومتجذر في الميدان الاجتماعي والثقافي الخاص به.

بمعنى آخر، فإن استعارة النموذج الثوري الإيراني سبقت التحول الداخلي والوجداني إلى الإسلام؛ أي أن السياسة سبقت مسألة الإيمان الديني.

أولوية السياسة هذه تدفع عبر الزمن إلى التفكير في الوظيفة التعبوية المتفردة التي تقوم بها الأديان في تاريخ نزاعات التحرر الوطني، والإسلام ليس إلا مثالاً ضمن أمثلة أخرى.

منظمة «ايرا» الأيرلندية، ورغم تبنيها الاشتراكية، فقد اغترفت جزءًا من إلهامها من الكاثوليكية، على أساس أنها لم تكن تواجه بريطانيا فقط ولكن أيضًا خصمًا بروتستانيًا، وكذلك الحركة البرتغالية في «أولتسر» لم تتورع عن الدفع بهوية سياسية دينية إنجليكانية.


فشلٌ وتشظٍّ

إن الخميني إمامنا، زعيمنا، قائد جميع المجاهدين، سنكون شعبين يلتحمان في شعب واحد، ثورتين تجسدان ثورة واحدة، وكل فدائي وكل مجاهد، كل ثوري إيراني سيكون سفير فلسطين في إيران. لقد حررنا إيران، وسنحرر فلسطين. سنكمل جهودنا حتى نهزم الإمبريالية والصهيونية، كفاح الإيرانيين ضد الشاه يُطابق كفاح الفلسطينيين ضد إسرائيل.

يذهب بويار إلى أن الثورة الإيرانية انتهت وتراجعت تحت أنقاض الحرب مع العراق، والسياسات القمعية، ومصادرة السياسي والحدث الثوري معًا.

وهنا يقول روجيه عساف، المسيحي الذي تحول إلى الإسلام، عن خيبة أمله الثورية التي لم تلوث إيمانه الديني:

لقد كانت الثورة الإيرانية رؤية حماسية جدًا في البداية. ثم خاب أملي بسرعة حين قمت بزيارة إلى إيران، حيث دُعيت إلى طهران عام 1985، وسريعًا وجدت هناك شيئًا كنت أتقزز منه حين كنت ماركسياً: هو مذهب التسيير، ومنطق الحزب، وممارسات هذا أو ذاك. والغريب أن ذلك لم يكن فقط على مستوى الممارسات السياسية ولكن في الفن أيضًا، الفن والأشكال الفنية في إيران نُسخت على منوال تلك الموجودة في النظم الماركسية، نفس الصور، الدم والعنف والقومية وتمجيد الزعماء. لقد كان هناك إعادة لكل ما سبق ورأيناه.
وهنا نذكر أن الحركة الطلابية تشظت وتلاشت عبر ثلاثة نماذج:

الأول: هو نموذج الاستقلالية والابتعاد، حيث الشعور بأن المجال السياسي لا يترك هامشًا للحركة، فكان الانسحاب خلف واجهة ثقافية نقدية، بحيث يُحتفظ بالإسلام كممارسة شخصية في غالب الأحيان، دون أن يُقصي المرجعات الأخرى غير الإسلامية. وكان هذا حال شخصيات مثل روجيه عساف وسعود المولى.

الثاني: نموذج الالتزام السياسي المستمر، والذي رأى أن الفضاء السياسي أصبح فضاءً إسلاميًا بامتياز، وأصبح الإسلام انعكاسًا للوطنية، فالإيمان الديني موجود وحاضر بقوة، ولكن زيادة عليه لابد من مواصلة الكفاح مهما كانت الإخفاقات أو النجاحات التي تسجلها النماذج الإسلامية. فالإسلام كقوة أيديولوجية ورمزية تعبوية تسمح باستمرار الفعل السياسي. ومن أبرز نماذج هذا الاتجاه: أنيس النقاش ومنير شفيق.

الثالث: وهو الأكثر ندرة ودراماتيكية، نموذج الاختفاء نهائيًا أو نموذج الشهيد، ويُعتبر خليل عكاوي هو المثال الصارخ على هذا النموذج. فالشهيد هو النهاية المنطقية للاستحالة، للحلم المُجهَض.