منذ وفاة الإماميين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده لم تطلق فتاوى بمثل قوة فتاوى وآراء الشيخ حسن الترابي، فأغلب الأراء الفكرية والفقهية التي تلت وفاة الإماميين كانت إما شطحات لعلمانيين يريدون أسلمة علمانيتهم، وإما كانت نقل آراء فقهاء قديمة بعد إلباسها ثوبا جديدا، وكان يغيب عن هذه الآراء المنهجية العلمية، فكانت آراءً انتقائية تلفيقية لا تنطلق من قواعد واضحة للاستنباط، وهذا عكس آراء واجتهادات الدكتور حسن الترابي والتي تتميز (رغم اختلافي الشديد معها) بأنها أفكار مرتبة منطلقة من قواعد ثابتة لفهم النص القرآني. وسأقوم بعرض ما تيسر من هذه الفتاوى ولكن قبل هذا فإنني سأوضّح بعض القواعد التي استند عليها الشيخ رحمه الله في إطلاق فتاويه.


قواعد الاجتهاد عند الترابي

(1) لا تفهم أي آية قرآنية إلا في ضوء سياقها وأسباب النزول وإلا لكنّا اتخذنا القرآن عضين ( أي متفرقا ) قال تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ . الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ . فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

والشاهد هو الذين جعلوا القرآن عضين أي فرقوه تفريقا ولذلك فإن الترابي لا يفهم أي آية إلا في ضوء سياقها لأن ترتيب آيات القرآن توقيفي.

(2) السنة عند الترابي هي أدنى من القرآن ومع ذلك فهي تخصصه وتقيده وتبينه ولكن السنة لا تنسخ القرآن الكريم أبدًا ويختلف هنا الترابي مع الإمام الشافعي في موضع مكان السنة من القرآن ولكنه يتفق مع جملة ما دونه في الرسالة[1].

(3) السنة عند الشيخ الترابي لا تستقل بالتشريع مطلقا، وهذا مذهب الأحناف في الأصول، ومعهم الإمام الشاطبي، مخالفا بذلك مذهب الجمهور[2].

(4) أخبار الآحاد تفيد الظن والمتواتر يفيد العلم اليقيني، وهذا هو رأي جمهور العلماء، واختلف معهم من القدماء ابن حزم، ومن المعاصرين محمد ناصر الدين الألباني، وأغلب السلفية والوهابية اليوم على مذهب الألباني[3].

(4) أخبار الآحاد عند الشيخ الترابي لا تثبت بها العقائد مطلقا لأن العقائد لا تبنى إلا على العلم اليقيني.

(5) الشيخ رحمه الله يرفض الناسخ والمنسوخ في القرآن ويعتقد أن ما يظنه الناس ناسخا ومنسوخا ما هو إلا وجه من وجوه التخصيص والتقييد وأما في السنة فيجوز فيها النسخ لاعتبارات التدرج التشريعي ولأن القرآن يمكن أن ينسخ السنة كتحويل القبلة[4].

وبعد أن كتبت القواعد العامة لفتاوى الترابي فسوف أكتب فتاويه الفقهية والتي هي ليست سوى تطبيق لهذه القواعد الست.


(1) فتوى إمامة المرأة

يقول الشيخ رحمه الله في حوار مع البي بي سي[5]:

ليس ثمة في الدين ما يمنع إمامة المرأة. وهناك ما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمح لإحدى النساء بأن تتخذ مؤذنا يرفع الأذان ليس في بيتها وإنما في الدار حولها ويأتي الناس ويصلون وتصلي بهم إمامة

والشيخ يقصد حديث سنن أبي داود:

عن عبد الرحمن بن خلاد عن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها في بيتها وجعل لها مؤذنا يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها. قال: فأنا رأيت مؤذنها شيخا كبيرا

ومن هذا الحديث جوّز الشيخ الترابي إمامة المرأة، فكانت أم ورقة تؤم أهل دارها وفيهم غلامها وجاريتها، وهذا القول ليس شاذا بل كان مذهبا في القديم لأبي ثور والطبري. فقد أورد الإمام ابن رشد في كتاب «بداية المجتهد ونهاية المقتصد»[6]:

اختلفوا في إمامة المرأة، فالجمهور على أنه لا يجوز أن تؤم الرجال، واختلفوا في إمامتها النساء، فأجاز ذلك الشافعي ومنع ذلك مالك. وشذ أبو ثور والطبري ، فأجازا إمامتها على الإطلاق … ومن أجاز إمامتها فإنما ذهب إلى ما رواه أبو داود من حديث أم ورقة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يزورها في بيتها وجعل لها مؤذنا يؤذن لها، وأمرها أن تؤم أهل دارها

وممن يجوز إمامة المرأة بإطلاق أيضا الإمام الأكبر والكبريت الأحمر محي الدين بن عربي الحاتمي في فتوحاته المكية حيث يقول[7]:

فصل، بل وصل، في إمامة المرأة: فمن الناس من أجازها على الإطلاق بالرجال والنساء، وبه أقول. ومنهم من منع إمامتها على الإطلاق، ومنهم من أجاز إمامتها بالنساء دون الرجال

وعندما التقيت الشيخ رحمه الله في داره ناقشته في هذه المسألة وكنت تتبعت حديث أم ورقة فوجدت في سنن الدارقطني حديثا ينص على أن أم ورقة إنما كانت تؤم بنساء أهل دارها، ولا أخفي أن فرحت جدا بهذا الحديث، وذكرته للشيخ رحمه الله فابتسم دون أن يجيبني، ودار علي الزمن فعرفت أن حديث سنن أبي داوود أصح من حديث سنن الدارقطني.


(2) إنكار الترابي لحد الردة

يقول الشيخ في حوار مع إحدى الصحف[8]:

في إطار الدولة الواحدة والعهد الواحد يجوز للمسلم كما يجوز للمسيحي أن يبدل دينه، أما الردة الفكرية البحتة التي لا تستصحب ثورة على الجماعة ولا انضماما إلى الصف الذي يقاتل الجماعة كما كان يحدث عندما ورد الحديث المشهور عن الرسول: «من بدل دينه فاقتلوه»، فليس بذلك بأس يذكر، ولقد كان الناس يؤمنون ويكفرون، ثم يؤمنون ويكفرون، ولم يطبق عليهم الرسول حد الردة

و الشيخ يقصد بكلامه عدة أمور، أولها أن الردة السلمية مقبولة في الدولة الإسلامية كما في الدولة الحديثة، وأن الردة المرفوضة والتي يطبقها في حد الردة هي الردة المسلحة أو الانضمام إلى صفوف الأعداء. وبذلك يكون الترابي غير منكر لحديث: «من بدل دينه فاقتلوه»؛ وإنما اعتبر أن الحديث خاص بالردة المسلحة كتلك الردة التي واجهها سيدنا أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) وحاربها في عام الإسلام الأول بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام. ويقصد الشيخ بالانضمام للصف الذي يقاتل الجماعة المسلمة ما فعله عبدالله بن أبي السرح الذي انضم لقريش بعد أن أسلم، وكان معهم حتى فَتْح مكة، وكان الرسول عازماً على قتله لولا أن الصحابة لم يتفطنوا لمقصده عندما أخر قبول توبته وإسلامه.

ومن الأمور المهمة التي يجب الإنتباه إليها أن الأحناف يرون عدم قتل المرأة المرتدة مخالفين بذلك رأي الجمهور. وسبب قولهم أن المرأة المرتدة لا يخشى منها أن تحمل السيف ضد الدولة، وهم بذلك رغم أنهم يجيزون قتل المرتد الرجل المسالم، فإنهم يقتربون من تصور الترابي للمرتد[9]، وهذه المسألة من الفروع التي يجوز الاختلاف فيها وليس ينبني عليها تكفير كما فعل الشيخ جعفر شيخ إدريس وبعض علماء السلفية في السودان ممن يُكِنُّون العداوة للترابي.

وقد كنت من الحانقين على هذا الرأي، وعندما قابلت الشيخ وذكرت له الأدلة على وجوب قتل المرتد، أجابني بأن الردة حد سياسي وتطبيقاته خطيرة جدا وستتيح للحاكم في الدولة الإسلامية قتل معارضيه بحجة الردة عن دين الله. وأعتقد أن الشيخ من خبرته كان ينظر إلى المستقبل، فهذا تنظيم داعش أذاق أهل العراق والشام وليبيا الويلات وقتل المئات من البشر بحجة الرد،ة وكان في من قتلهم أبو خالد السوري أحد أقدم المحاربين الجهاديين، والذي يفوق أبا بكر البغدادي نفسه علما بالتصور الجهادي للدولة الإسلامية. وصرتُ اليوم أتقبل هذا القول بعدم قتل المرتد سدًا للذريعة المفضية للدكتاتورية وغلقا للباب أمام أمثال البغدادي، ودرءًا لمفسدة إزهاق أرواح الأبرياء بحجة تطبيق حد الردة كما فعل الفاروق عندما أوقف حد السرقة في عام الرمادة.


(3) الأديان التوحيدية أو الإبراهيمية

يقول الشيخ رحمه الله[10]:

إن البعد عن عصبية الدين، والتحرر من التعصب المذهبي، هو الباب المفضي إلى حوار حقيقي بين الأديان، فإذا ترك أهل الأديان التعصب كل لمذهبه وملته، وأقبل على دراسة الأديان بعقل متفتح، كان أحرى أن ينكشف له الأصل الواحد لهذه الأديان، واشتراكها في القيم الأساسية التي تدعو لها. وهذه هي دعوتنا اليوم: أن تقوم جبهة أهل الكتاب، والكتاب عندنا يطلق في القرآن ويقصد به كل كتاب جاء من عند الله

وهذا التصور للشيخ هو من أغرب التصورات في الفكر الإسلامي الحديث، وإن كان يتبدى لي أن الترابي استقى فكرته من الإمام الأكبر محي الدين ابن عربي صاحب فكرة دين الحب؛ إلا أن الإمام الأكبر ابن عربي لم يقله بصراحة. فقد قال ابن عربي في «ترجمان الأشواق»:

وقد صار قلبي قابلا كل صورة … فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف … وألواح توراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحب أنى توجهت … ركائبه فالحب ديني وإيماني

و عنما هاج العلماء على الإمام ابن عربي، قام بكتابة شرح لهذه الأبيات في كتاب سمّاه «ذخائر الأعلاق» فقال فيه ما سأنقل معناه لأنه معقد قليلا:

القلب سُمّي قلبا لأنه يتقلب في أحواله بتنوع ما يرده من أفكار ورؤى وتجليات إلهية، أما تسميته مرعى الغزلان فكناية عن الحب والعشق، لأن هذا التشبيه منتشر بين العشاق، وأما تسميته دير الرهبان فيقصد به مكان التعبد للعبادات القلبية، وأما بيت الأوثان فالإمام يشبه القلب ببيت الأصنام لأنه يحتوي على صور للحقائق التي يتعبد من أجلها البشر، وأما كعبة الطائف فشبه القلب القلب بالكعبة فإليه تحج الأرواح العلوية من الملائكة تدعو للخير والأرواح الشريرة من الشياطين تدعو للشر، وأما ألواح التوراة فيقصد بها الإمام تشبيه اعتناء القلب بالتفاصيل كما في التوراة، وأما مصحف القرآن فيقصد بها تمكن القلب من مجاميع اللغة كما في نصوص القرآن

وهذا الكلام الذي قاله ابن عربي في شرح قصيدته بعيد كل البعد عن المعاني التي يتفطن لها ذهن السامع عندما يسمع القصيدة أول مرة، ويبدو أن الإمام ما كتب هذا إلا تقية وخوفا من السلطان.

ولم أجد شخصا يقول بمثل قول الترابي في الفكر الإسلامي ولا في الفكر الغربي إلا إيمانويل كانط، حيث يقوم الدكتور فتحي المسيكني مترجم كتاب «الدين في حدود مجرد العقل» أن ما استنتجه من الكتاب يقول أن «كانط كان يرى أن كلمة الدين ينبغي أن نتحاشى استعمالها؛ فهي كلمة خطيرة جدا. فليس هناك أديان بل هناك دين واحد، والدين الحق واحد، وهذه كلمة إسلامية. بقية الأديان ما هي إلا طوائف داخل دين واحد. فأن تكون مسلما عند كانط فهذه طائفة وأن تكون مسيحياً فهذه طائفة»[11].

وإن كان هذا تصور كانط، فهذا التصور إسلامي أصيل. يقول الله تعالى: «مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ». وقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: «أنا أولى الناسِ بِعِيسَى ابنِ مريمَ في الدنيا والآخرةِ، ليس بَيْنِي وبينَهُ نَبِيٌّ و الأنْبياءُ أوْلادُ علَّاتٍ؛ أُمَّهاتُهُمْ شَتَّى، ودِينُهُمْ واحِدٌ». وشرح هذا الحديث واضح؛ فأبو الأنبياء هو إبراهيم، وأمهاتهم شتى: أي قبائلهم، وأما دينهم واحد فهو الإسلام الذي جاء به إبراهيم، غير أنه حُرف على يد علماء السوء والأحبار ممن يدعون اتباعهم دين موسى وعيسى وجاء به محمد (صلى الله عليه وسلم) دينا نقيا.

ويبدو أن حسن الترابي تأثر بالتصور الكانطي للدين، ولكن من عادة الشيخ رحمه الله أن لا يكتب مصادره. وحتى عندما التقيته وحاولت أن أسأله عن المصادر نصحني عن وجوب أن أخرج من دائرة القراءة الإسلامية، وقال لي : اقرأ الفكر الغربي والمسرح الغربي واسمع الفنون وشاهد السينما، ولا تنعزل عن العالم في عالم الكتب الأصولية والجدالات العقائدية ومناظرات المتكلمين الإسلامية. وقال لي تعلم اللغات وخصوصا الفرنسية إلى جانب الإنجليزية، وحاول أن تسافر وتختلط بالشعوب، وكأنه يقول لي أنه أخذ هذا التصور من الفكر الغربي دون أن يسمي لي مصدرا كما هي عادة أساتذة الجامعات (والترابي أستاذ جامعي) الذين يطالبون طلابهم باستمرار بأن يقرأوا المراجع لا الملخصات والملازم.

(يتبع)


[1] كتاب الرسالة للإمام الشافعي صفحة 106 تحقيق أحمد شاكر مطبعة مصطفى الحلبي [2] السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي صفحة 415 طبعة دار الوراق [3] خبر الاحاد لايفيد العلم ولا يُأخذ به في الاعتقاد، محمد الشويكي. و: السيف الحاد في الرد على من أخذ بحديث الآحاد في مسائل الاعتقاد، سعيد بن مبروك القنوبي.[4] وهذا هو مذهب أبي مسلم الأصفهاني يرجى مراجعة الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس وتعليقات محقق الكتاب سليمان اللاحم صفحة رقم 400 طبعة مؤسسة الرسالة.[5]حوار الترابي مع BBC.[6] يرجى مراجعة: عون المعبود في شرح سنن أبو داوود، لفهم الحديث جيدا، والحديث هو رقم 591. وكذلك: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، للقاضي أبي الوليد ابن رشد، 1/ 354، مكتبة ابن تيمية بالقاهرة، فصل إمامة المرأة.[7] الفتوحات المكية، المجلد الثاني، فهرسة وهوامش أحمد شمس الدين، ط. دار الكتب العلمية – بيروت.[8] محاضرة تجديد الفكر الديني، جامعة الخرطوم 2006م. وهي متوفرة على اليوتيوب.[9] بداية المجتهد ونهاية المقتصد،4/ 426.[10] مؤتمر حوار الأديان الذي عقد بالخرطوم بتاريخ 8/ 10/ 1994، وكان ذلك بمحاضرة بعنوان: الحوار بين الأديان التحديات والآفاق.[11] محاضرة بعنوان كانط والإسلام لمؤسسة مؤمنون بلا حدود.