على أي أساس بنيت اعتقادك هذا؟

سؤال نسمعه كثيرًا في النقاشات اليومية، وهو في الحقيقة من أوائل الأسئلة التي حاولت فلسفة المعرفة أن تجد إجابة له. ففي محاورة «ثيتتوس – Theaetetus» لأفلاطون، يسأل سقراط الشاب ثيتتوس: «ما هو الفرق بين المعرفة والاعتقاد الصحيح؟» ويصلان معًا بعد حوار لنتيجة تقول إن «المعرفة هي اعتقاد صحيح له مبرر».

فعندما يعتقد شخص في قضيةٍ ما ولتكن (أ)، فمن المتوقع أن يرد على الانتقادات الموجهة لهذا الاعتقاد بأن يذكر المبررات وراءه والتي تجعله اعتقادًا صحيحًا ولنسميها (ب). ولكن هذه المبررات هي اعتقادات أيضًا، وبالتالي يجوز انتقادها والطعن عليها أيضًا كسابقتها. فلابد وأن يذكر المبررات – ولنسميها (ج) – وراء تلك المبررات (ب) ثم لابد وأن يذكر الأسس والمبررات (د) وراء تلك المبررات (ج) ويستمر هكذا في سلسلة لانهائية. فإذا كانت السلسلة لانهائية أي ليس لها بداية، فكيف يمكننا أن نُكوّن أي معرفة على الإطلاق؟.

تلك المعضلة المعرفية تعرف بمعضلة «أغريبا» أو «حجة الارتداد – Regress Argument»، والتي نقلها لنا الشكاك أغريبا في عمله «خمسة أسباب للشك» عن الشكاك الشهير «سيكستوس إمپيريكوس». وبتحليل السؤال، نجد أن الإجابة هي واحدة من ثلاث:

1. يجب أن تنتهي هذه السلسلة بمجموعة من الأسس التي لا تحتاج إلى تبرير، أي أنه لابد من وجود حلقة أولية ليس قبلها شيء في السلسلة المعرفية، وهو ما يعرف بـ«الأسسية – Foundationalism».

2. يجب أن تنتهي السلسلة لكن بشكل دائري، أي أننا في لحظة ما سنكرر نفس مجموعة المبررات، وهو ما يعرف بـ«الترابطية – Coherentism».

3. لا يمكننا تبرير أي معرفة لدينا، وهو ما يعرف بـ«مذهب الشك – Skepticism».


الأسسية

يجب أن تنتهي هذه السلسلة بمجموعة من الأسس التي لا تحتاج إلى تبرير، أي أنه لابد من وجود حلقة أولية ليس قبلها شيء في السلسلة المعرفية. وهذه الأسس إما إنها بديهية، أو لا يوجد احتمال أن تكون خاطئة، أو أن خطأها هو تناقض كالمسلمات الرياضية والهندسية.

ويمكن تمثيل البناء المعرفي هنا بصورة هرم، قاعدته هي الأسس التي تعطي التبرير لكل المستويات التي فوقها. فعلى سبيل المثال، اعتقاداتنا الاقتصادية تعتمد على ملاحظتنا للطبيعة البشرية وللنشاط البشري. وتلك الملاحظات التي تعتمد على حواسنا وعقولنا وتُكوّن ثقتنا في صحة الحواس والعقل هي الأسس المعرفية.

وقد تعددت فروع تلك المدرسة تاريخيًا بسبب الاختلاف على مجموعة الأسس وبسبب الاختلاف على طرق الاستنتاج من المسلمات. فالعقليون، أمثال ديكارت وسبينوزا، رأوا أن الأسس هي مسلمات عقلية بديهية وأننا نصل للمعرفة عن طريق الاستنباط وقواعد المنطق. أما التجريبيون، كلوك وهيوم، فكان رأيهم أن التجربة والمعطيات الحسية هي المسلمات التي يمكن بناء المعرفة عليها عن طريق الاستقراء.

فلم تسلم تلك المدرسة من الانتقادات الموجهة لفكرة الأسس التي لا تحتاج إلى تبرير؛ لأن تقسيم الاعتقادات لأسس ولاعتقادات ناتجة سيحتاج لمبرر والمبرر سيحتاج إلى مبرر وهكذا وبالتالي فالأسس وحدها لا تكفي. يفسر الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي صعوبة الوصول لمعيار موضوعي لهذا التقسيم بأن الإنسان لديه وسيلة أساسية لكي يدرك بها العالم ويفكر فيه كاللغة والعقل.

فلنفترض أنها (أ)، فلكي يستطيع الإنسان أن ينقد وسيلته للإدراك (أ) ليحدد الأسس وصحتها لابد وأن يخرج عنها، أي يخرج عن نفسه كي يستطيع أن يحكم عليها بشكل موضوعي ولكن الخروج عنها هو من المستحيل، فهي أعمق مستوى وظيفي في الإدراك فلا يوجد أعمق منها. كما أنه لا يمكن أن نحكم على (أ) باستعمال (أ) لأنها مغالطة منطقية من نوع الاستدلال الدائري (أ صحيحة إذًا سأستعملها لأحكم على أ أنها صحيحة)، فالوسيلة لا يمكنها تبرير نفسها.

بالتالي فلابد وأن نخرج عن نظام الاعتقادات ككل حتى نستطيع الحكم عليه وعلى كل ما فيه بطريقة موضوعية صحيحة، وهو وضع يسميه الفيلسوف الأمريكي هيلاري بوتنام «منظورعين الإله». ولكنه من المستحيل أن نخرج عن نظام الاعتقادات، كما يقول الفيلسوف الأمريكي كيث ليرير:


الترابطية

يجب أن تنتهي السلسلة لكن بشكل دائري، أي أننا في لحظة ما سنكرر نفس مجموعة المبررات.

فعلى سبيل المثال، عند تبرير مجموعة المبررات (د)، سأعيد استعمال (أ) مرة أخرى. أي أن (أ) تعتمد على (ب) التي تعتمد على (ج) التي تعتمد على (د) التي تعتمد على (أ) مرة أخرى. وبالتالي فكل الاعتقادات هي على نفس المستوى والقيمة، ولا يوجد أسس للبناء المعرفي، بل إن البناء المعرفي هنا هو في صورة شبكة حيث كل الاعتقادات تترابط وتؤيد وتبرر بعضها البعض بدون نقطة انطلاق أو أسس.

يوضح ألفريد كواين، الفيلسوف الأمريكي، هذا الموقف المعرفي مستعملًا تشبيه الفيلسوف أوتو نويرا للعلم وجهود العقل والحس خلال المنهج العلمي كالمركب الذي يطفو في البحر ولكنه بمرور الوقت يتعرض لكسور وأعطال، لكنه لا يغرق لأن الأشخاص الموجودين على متنه يستعملون الأدوات لإصلاحه دائمًا بل ولتكبيره أيضًا، فهو كنظام مكتفٍ ذاتيًا. لكن تلك المدرسة قد تعرضت للعديد من الانتقادات:

1. لا يوجد أي نوع من الإجماع على مفهوم «الترابط» بين الاعتقادات في الشبكة المعرفية والذي يعطي القدرة التبريرية الموضوعية لكل حلقات السلسلة الدائرية. فما هو مقياس هذا «الترابط»؟، هل هو الاتساق المنطقي وحده؟ لا، لأن أي قصة خيالية قد تكون منطقية. فما هو إذًا؟

2. لو افترضنا وجود مفهوم للترابط ووجود مقياس له، فما هو المبرر لاستعمال هذا المفهوم وهذا المقياس؟ فكما ذكرنا أنه لا يوجد شيء خارج عن الشبكة المعرفية وبالتالي فلا يوجد مبرر خارجي، لأنه لو كان خارجيًا فسيُكوّن أساسًا تعتمد عليه الشبكة المعرفية مما يسقط الفكرة الترابطية الدائرية، وبالتالي فلابد وأن يكون داخليًا، أي أن المبرر للترابط هو جزء من الشبكة المعرفية.

بالتالي فإن صحة مبرر الترابط تبرر ترابط الشبكة المعرفية ولكن الشبكة المعرفية هي التي تبرر مبرر الترابط لأنه بداخلها، وهذه مغالطة منطقية من نوع الاستدلال الدائري (أ تبرر ب التي تبرر أ).

ولنعطي مثالًا من البرجماتية وهي نظرية للحقيقة تقول: «إن كل ما هو مفيد، هو صحيح». فإذا سألت وما هو مبرر صحة هذا المبدأ البراجماتي؟ ستجيب: «لأن المبدأ البراجماتي مفيد لنا وبالتالي فهو صحيح». والجملة الأخيرة هي تطبيق للمبدأ البراجماتي على نفسه (استدلال دائري على صورة أ لأن أ). فالبراجماتي، كما يصفه رورتي، «غير قادر على تقديم حجج غير دائرية».

وتنطبق نفس المغالطة على أي شيء يبرره المبدأ البراجماتي، فمثلًا: العلم صحيح لأنه مفيد، وكل ما هو مفيد صحيح، وهو مفيد لأننا نرى إنجازاته، والرؤية صحيحة لأن الرؤية مفيدة وٍكل ما هو مفيد صحيح. (استدلال دائري على صورة أ لأن ب لأن ج لأن ب). فمبررات صحة العلم هي مبررات صحة تقييم نتائجه.

3. ومشكلة الاستدلال الدائري أنه في حالة وجود شبكتين معرفيتين متعارضتين، لن نستطيع أن نحكم على أي من الشبكتين هي الشبكة الصحيحة لأن بدون وجود مبرر خارجي للتفريق فكل الشبكات المعرفية صحيحة ما دامت مترابطة داخليًا. ستتساوى قيمة وصحة فكرةٍ ما عند شخص مع قيمة وصحة نقيضها عند شخص ٍآخر ما دام كل فكرة مترابطة مع بقية الأفكار في شبكتها المعرفية عند كل شخص.

فعلى سبيل المثال، نحن لا نستطيع أن نقول إن شخصًا ما من 600 عام كان يعتقد بأن الشمس تدور حول الأرض هو شخص مخطئ؛ لأن اعتقاده هذا كان مترابطًا مع بقية اعتقاداته في شبكته المعرفية في وقتها. ولنعطي مثالًا آخر من البرجماتية أيضًا، فالعلم مثلًا هو صحيح لأنه مفيد لنا في صنع حياة أفضل.

لكن إذا سألنا من الذي سيحدد معنى ومعيار «الإفادة»؟ وأيهما أصح: رؤية هتلر لما ارتكبه على إنها ضرورة تفيد البشرية، أم رؤية الحلفاء على أنه مجرم أضر بالبشرية؟ وفقًا للترابطية، فكلاهما صحيح وهو تناقض.


الشك

هذه السلسلة لا تنتهي أبدًا وبالتالي لا يمكننا تبرير أي معرفة لدينا فيتبقى أمامنا ثلاثة احتمالات:

1. أنه لا يمكننا معرفة أي شيء معرفة يقينية وهو ما يعرف بالشك الأكاديمي أو الجذري. ولكنه موقف متناقض لأن يقين الشكاك في المبدأ المعرفي «لا يمكننا معرفة أي شيء معرفة يقينية» هو تناقض منطقي.

2. أن نعلق الحكم على قضية تبرير المعرفة بسبب استحالة الإجابات الثلاث مع وجود المعرفة الإنسانية كشيء واقع وهو ما يعرف بالشك الأغريبي، نسبة إلى صاحب المعضلة التي نناقشها، والذي هو فرع من مدرسة الشك البيرونية نسبة إلى مؤسس مذهب الشك اليوناني بيرون. ولكنه يترك السؤال معلقًا بدون حل فعلي: إن كان لا يمكننا تبرير أي معرفة، فعلى أي أساس تتكون معرفتنا؟.

3. أن ندرك أننا لا يمكننا تبرير أي معرفة بصورة يقينية، ولكن يكفينا أن نبررها بصورة احتمالية ترجيحية تقريبية لأننا دائمًا أمام الاحتمال أن نكون مخطئين في اعتقاداتنا عند تقديم أي دليل جديد ضدها. فالمعرفة قد تكون صحيحة إلا أنه يظل هناك باب مفتوح دائمًا للشك في الأسس التي تبرر المعرفة، وهو ما يعرف بـ«التخطيئية – Fallibism».

يعتمد المنهج العلمي على هذا الموقف المعرفي كحل جزئي لمشكلة الاستقراء، سواء بمرر براجماتي؛ حيث أنه مفيد وناجح (مما يعيدنا للترابطية ومشاكلها وخصوصًا مغالطة الاستدلال الدائري) أو بمبرر مبدأ التكذيب البوبري، فلا يوجد عدد كافٍ من التجارب لإثبات صحة نظرية ما لأنها قد تفشل في التنبؤ القادم، لكن لو تنبأت النظرية بشيء وثبت عكسه في تجربة واحدة، فالاستنباط المنطقي من النتيجة هو أن النظرية خاطئة، وبالتالي فنحن لا نعتبر أن نظرية ما صحيحة لأنه لا يوجد مبرر لذلك، ونكتفي بأنه لم يثبت خطؤها إلى الأن.

ولكن لم تسلم تلك المدرسة أيضًا من الانتقادات مثل أن التخطيئية تقوم على مسلمة أساسية وهي أننا لا يمكننا تبرير أي معرفة بصورة يقينية. لكن تلك المسلمة الأساسية هي معرفة يقينية لا يخالطها شك، فهي تُناقض ذاتها. كما تظهر بعض المشاكل السابق ذكرها، فعلى أي أساس نسلم بصحة الأدلة التجريبية الحسية وبصحة العقل في الاستنتاجات التي يصل لها بناءً على تلك الأدلة مثل تكذيب نظريةٍ ما؟

وإذا كنا نستطيع تبرير مبدأ التكذيب منطقيًا، فإننا لا نستطيع أن نبرر جذور مبدأ التكذيب (كالعقل والحس والمنطق)، فلماذا نعتبره أساسًا للاعتقادات؟، ما هو المبرر لاستعمال ما لا يمكن تبريره؟، حتى أن كارل بوبر في كتابه الشهير «منطق الكشف العلمي» يقول إن تلك القضايا الأساسية «مقبولة بقرار حر».


النظريات الهجينة

إلا أن النزعة التخطيئية قد تسربت لمدارس التبرير المعرفي الأخرى كتأثير الفيلسوف كواين على الترابطية في اعتبار أن الشبكة المعرفية بها أخطاء تحتاج لتصحيح متواصل، وهو ما امتد بعده لاعتبار وجود بعض أجزاء الشبكة المعرفية ذات وزن معرفي أكبر من غيرها، كالتجريبية، والتي يتم استعمالها لتصحيح أخطاء الشبكة المعرفية السابقة، مثل الأدوات التي يستعملها البحارة في إصلاح السفينة في مثال كواين المذكور عن الترابطية، وفي حمل البحر للسفينة ذاتها، فنجد أن البناء المعرفي للترابطية يقترب من الأسسية.

وعلى الجانب الآخر، نجد تأثير الفيلسوف ويليام ألستون على الأسسية والذي قال إنه حتى اعتقاداتنا الأسسية قد تكون خاطئة ويتم تصحيحها من الاعتقادات الاستنتاجية والتي تكتسب قوتها من الترابط بينها وبين بقية الاعتقادات الاستنتاجية في صورة بناء معرفي أسسي ولكن يقترب من الترابطية.

فنجد أن الأسسية والترابطية قد يتحدان في نظرية تجمع نقاط قوتهما وتتجنب نقاط ضعفهما. وهو ما تمخض عن نظرية معرفية لسوزان هاك باسم (Foundherentism)، والتي يمكن إيجازها في مثال حل الكلمات المتقاطعة. فاللاعب يرى الأدلة بعينيه كخبرة حسية، ويستعمل عقله لإيجاد الكلمة المطلوبة وإلا لن يستطيع أن يلعب اللعبة من الأساس (الاعتقادات الحسية والعقلية أسسية)، ثم يتأكد من أن الكلمة المطلوبة تترابط مع بقية الكلمات وعدد الحروف المتاح في اللعبة وإلا ستكون خاطئة (الترابط داخل البناء المعرفي)؛ مما يجعل كلاً من الأسسية والترابطية مكونات ضرورية لتبرير المعرفة.


الخاتمة

في محاولتنا لتبرير اعتقاداتنا، فنحن لا نملك إلا الاعتقادات فلا يمكننا الخروج أبدًا من دائرة الاعتقادات.

بعد كل ما استعرضناه من مذاهب في قضية تبرير المعرفة، نجد أنه للخروج من دائرة الاعتقادات فلا يوجد حل إلا أن تكون الأسس غير مبررة، كما يقول فيتجنشتاين:

«في أساس كل اعتقاد مُبرَّر جيدًا، يوجد اعتقاد غير مُبرَّر» أي أن تكون نتاج عملية إيمانية، أي اعتقاد لا يمكن تبريره. ثم يضيف: «وإذا كان ما يمكن تبريره هو الصحيح، فإن الأسس التي لا يمكن تبريرها ليست صحيحة ولا خاطئة».

فإذا كانت تلك الأسس ليست صحيحة ولا خاطئة، فهي المسلمات التي نؤمن بصحتها لوجود سبب كافٍ لنا داخليًا، ولكن هذا سيكون على حساب أنها لا تقدم أي قوة تبريرية موضوعية خارجية، فهي ليست ملزمة للآخرين بشيء، ولهذا فالإيمان هو قرار داخلي نابع من تجربة ذاتية خالصة.

فسواء كنت مؤمنًا بصحة عقلك رغم عدم وجود تبرير لذلك (الأسسية العقلانية)، أو صحة حواسك رغم عدم وجود تبرير لها (الأسسية التجريبية)، أو مؤمن بالبراجماتية أو بأي شبكة معرفية أخرى رغم أنها تعتمد في تبرير ذاتها على الاستدلال الدائري (الترابطية)، أو حتى مؤمنًا بأنه لا يمكننا معرفة أي شيء معرفة يقينية رغم تناقض ذلك (الشك الأكاديمي الجذري)، أو مؤمنًا باستحالة تبرير المعرفة وبضرورة الترجيح العقلي وفقًا للأدلة الحسية من خلال مبدأ التكذيب المنطقي (التكذيبية)، أو مؤمنًا بضرورة تعليق الحكم في قضية تبرير المعرفة رغم الوجود الحقيقي للمعرفة (الشك الأغريبي)، فالإيمان كاعتقاد غير مبرر هو نقطة انطلاق المعرفة، فكلنا مؤمنون بشكلٍ أو بآخر، نتفق على الإيمان ونختلف على ما نؤمن به.