للبيع، حذاء طفل لم يستعمل قط.

تصنف تلك الجملة كأقصر قصة قصيرة في العالم، هكذا بكل تلك البساطة لخص «إرنست هيمنجواي» حياة كاملة من الإحباطات والمحاولات والاستسلام في بضع كلمات، لم تكن عبقرية هيمنجواي فقط في قدرته الفذة على الكتابة، إنما كانت عبقريته الحقيقية في أنه استطاع أن يعيش سنواته الإحدى والستين بمنتهى الصخب، رغم أنها لم تكن حياة مثالية.

ورغم كل الأحزان التي حملها على عاتقيه إلا أنه أصر أن يعيش كما يجب أن يعيش الأقوياء، ويموت كما يجب أن يموتوا، فانتحر بمنتهى الشياكة عندما عرف أن مرضه سوف يعيقه عن أن يموت قويًا كما عاش، فأنهى حياته منتحرًا بنفس الصخب الذي عاشها به.


واحد وستون عامًا من الجنون

لم يكن إرنست همنجواي رجلًا عاديًا أبدًا، ليس لأنه حصل على جائزة نوبل في الأدب عن رواية «العجوز والبحر» في الخامسة والخمسين من عمره، ولا لحصوله على جائزة بوليترز قبلها بعام واحد، بل وتيرة حياته نفسها دون الحصول على أية جوائز تستحق جائزة في حد ذاتها، فإرنست الذي ولد في يوليو/تموز 1899 وتوفي في يوليو/تموز 1961 عاش حياة حافلة جدًا.

فقد شارك في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وعمل مراسلًا صحفيًا وأجرى حوارات مع أشهر الشخصيات في عصره، وأبدى رأيه في موسوليني شخصيًا، وكتب روايات وقصص تُرجمت إلى معظم اللغات الحية وتحول بعضها إلى مسرحيات وأفلام، وتزوج أربعة نساء، وأنجب خمسة أبناء، ونجا من حادثي طائرتين إحداهما تحطمت والأخرى انفجرت.

كانت حياة سريعة، لاهثة، ومجنونة، تلك التي عاشها همنجواي، تليق فعلًا بروائي عظيم لا يمكن أن يذكر الأدب الأمريكي دون أن يكون اسمه حاضرًا في ذهن من يتحدث.


العجوز والبحر

كانت رواية «العجوز والبحر» هي الرواية التي فاز عنها إرنست همنجواي بجائزة نوبل، الرواية التي تجسد صراع الإنسان مع الحياة في قصة سانتياجو الصياد العجوز الذي لم يظفر بصيد طوال خمسة وثمانين يومًا، والذي كان سيء الحظ جدًا للدرجة التي جعلت مساعده الصغير يتخلف عن الخروج معه للصيد بأمر والديه، ثم يخرج للبحر ويصطاد سمكة كبيرة جدًا بصعوبة بالغة وبعد حرب شعواء مع البحر ومع قاربه، وعندما يتمكن من ربطها فوق القارب تتقاسمها أسماك القرش ويعود هو للشاطئ صفر اليدين إلا من رأس السمكة وهيكلها العظمي، ولكنه يجد مساعده الصغير ينتظره على الشاطيء ويصمم أن يخرج مع الصياد في اليوم التالي حتى وإن كان سيء الحظ لإيمانه أنه سيتعلم منه وسيجلب له الحظ.

كانت رواية «العجوز والبحر» لا تناقش فقط صراع الإنسان مع الحياة، إنما كانت أيضًا تناقش أفكار همنجواي نفسه عن ذاته، فعندما تقرأ السيرة الذاتية للرجل يمكنك ببساطة أن تتخيل أنه هو نفسه العجوز سيء الحظ، فرغم كل هذا النجاح والحياة الثرية تظل قصة حبه الأولى غير المكتملة راسخة في قلبه بكل ثقلها الذي يظهر في روايته «وداعًا أيها السلاح» ثم فشله في ثلاث زيجات من أصل أربعة.

هو العجوز سيء الحظ الذي حارب مع قارب حياته وربح الكثير من التقدير ثم لم يتبق منه ما يعينه على الحياة، الذي رغم فشله مع عقله فإن الآخرين يرونه عظيمًا كيفما رأى الصغير أن الصياد العجوز سيعلمه الكثير، كانت «العجوز والبحر» سيرة ذاتية لهمنجواي نفسه ولكل البشر الذين فشلوا في أن يروا أنفسهم عظماء كما رآهم الآخرين، سيرة للذين كسبهم الناس وخسروا أنفسهم بأغلى ما ملكوا في حيواتهم.


العجوز والبندقية

لم يكن انتحار همنجواي شيئًا مستغربًا في عائلة احترفت إنهاء حياتها بالطريقة نفسها، فوالده مات منتحرًا وأختيه غير الشقيقتين، ومن بعده حفيدته، يبدو الانتحار في تلك العائلة طبيعيًا أكثر من اللازم، ربما لذلك كان قرار همنجواي منطقيًا عندما عرف أنه مصاب بمرض مزمن سوف يجعله يفقد اتزان عقله بالتدريج فآثر أن ينهي حياته الثرية «بشياكة» دون الكثير من المعاناة و الإذلال، فكان انتحاره ببندقية صيده التي رافقته سني عمره منذ كان في العاشرة.

عاش همنجواي بصخب شديد وذاق من كل متع الحياة تقريبًا ولم يدّخر جهدًا في أن يستمتع، ثم أنهى حياته عندما فرغ من الاستمتاع بكل شيء، ربما لم يكن همنجواي شخصًا كئيبًا بطبعه رغم أن الانتحار ينبئ عن ميول اكتئابية في شخصية الذين يقدمون عليه، ربما كان الرجل يعشق الحياة للحد الذي جعله لا يطيق أن يعيشها دون أن يمارس هذا العشق المجنون فتركها بإرادته دون حزن كبير، وربما كان يعاني من اضطراب نفسي كما وصفه بعض المحللين، وربما لم يكن أيًا من الاثنين وكان فقط عجوزًا سيء الحظ يراه الآخرين عظيمًا ويرى نفسه وحيدًا في قارب تكسر مجدافاه ولم يقوَ على الوصول للشاطئ فمات.

لا يجب أن نغفل أن شهر يوليو كان ميلادًا وموتًا للرجل الذي عاش بصخب ومات بنفس الصخب للدرجة التي جعلته يظل حيًا حتى بعد اختراق رصاصة البندقية للجمجمة التي فازت بنوبل ولم تفز بالسعادة.