الحكاية الأولى: «لا يُظلَمُ عندهُ أحد»

متدثرين بسواد الليل الحالك، يمتطي بضعة رجال ونساء سفينتين بدائيتين، مقابل نصف دينار عن كل مسافر، سائلين الله أن يمكّنهم من المغادرة قبل أن يلحق بهم القوم الغاضبون وإلا فهي نهايتهم جميعًا بلا شك. الزمان: هو القرن السابع بعد الميلاد، والهدف: هو أرض الحبشة فيما وراء البحار، والقوم: هم ثلة المسلمين الأوائل الذين أمرهم النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بالخروج من جزيرة العرب إلى أراضي «الملك الذي لا يُظلم عنده أحد».عُرفت تلك الهجرة في التاريخ الإسلامي بـهجرة الحبشة الأولى، لحقتها ثانية من ثلاثة وثمانين شخصًا، كانت الحبشة تطلق على المنطقة المعروفة حاليًا بالقرن الأفريقي وشرق أفريقيا، هكذا في العموم، والتي تضم إريتريا وجيبوتي والصومال ومناطق من السودان وإثيوبيا. ومن بين عدة آراء دينية وتاريخية، يذهب البعض إلى أن الساحل الإريتري كان أول ما وطئت أقدام أولئك المهاجرين، وأن المملكة المقصودة هي مملكة «أكسوم» التي حكمت أراضي إريتريا وشمال إثيوبيا لأكثر من ثمانية قرون، وفي كل الأحوال، فإن الدين الجديد لم يتأخر في الوصول لتلك المناطق -وهي التي تمتعت قبل ذلك بعلاقات مميزة مع قبائل اليمن والحجاز-، كما تقتضي حتميات الجغرافيا والتاريخ.
موقع إريتريا على الخريطة باللون الأحمر
موقع إريتريا على الخريطة باللون الأحمر

تعود الأصول الإثنية للشعب الإريتري إلي العرقين السامي والحامي المهاجرين من جزيرة العرب، وتمثل العربية اليوم اللغة الثانية بعد اللغة التغرينية -وهي لغة سامية شمالية كانت تستخدم قديمًا في جزيرة العرب قبل أن تنقرض منها -، ويمثل المسلمون اليوم حوالي نصف السكان، فيما يعتنق الباقون المسيحية – أغلبهم أرثوذكس -، وقلة منهم يدينون بالديانات الأفريقية المحلية.

يبلغ عدد سكان إريتريا اليوم ما يزيد على 6 ملايين نسمة، نصفهم تقريبا مسلمون والنصف الآخر مسيحيون على المذهب الأرثوذكسي.

يتكون الشعب الإريتري من أعراق عدة، أكبرها يحمل اسمين متقاربين وهما التغرين 50 % والتغري 28 %. يدين أكثر التغرينيين بالأرثوذوكسية ويتحدثون اللغة التغرينية، وهم امتداد لتغرين إثيوبيا، وينتمي إليهم الرئيس الحالي – والوحيد منذ الاستقلال- أسياس أفورقي. أما التغري فهم من أصل سامٍ عربي يمني قديم، يدين أغلبهم بالإسلام ويتحدثون التغرية، التي تمثل مع نظيرتها التغرينية امتدادًا للغات الحضارات العربية القديمة «سبأ وحمير»، وتمثل المفردات العربية 60-70% منهما.يبلغ عدد السكان اليوم نحو 6.300.000 نسمة، يتوزعون على مساحة 117.600كم2، ويعملون بالزراعة أو التجارة أو الرعي فضلًا عن الوظائف الحكومية، وأهم المدن هي العاصمة أسمرا، والميناءين الرئيسيين على البحر الأحمر: عصب ومصوع، فضلًا عن العديد من الجزر التابعة لها، وأهمها أرخبيل دهلك. تشكل تلك الجزر نقطة تحكم إستراتيجية بإمكانها التأثير على موازين القوى الإقليمية والدولية في البحر الأحمر، كما أن موقع إريتريا على البحر الأحمر، وقربها من منابع النفط في الخليج وشرق أفريقيا، ومن مسارات عبور الطاقة والتجارة في مضيق باب المندب، يضاعفان من الأهمية الإستراتيجية للدولة الصغيرة.


الحكاية الثانية: «روما الجديدة»، الإمبراطورية تبدأ من شرق أفريقيا

بدأت طلائع المستعمرين الإيطاليين في التوافد على البلاد منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، وتركزت في البداية كتجمعات صغرى حول ميناء مصوع، وبحلول العام 1890 أُعلن عن تأسيس «إريتريا الإيطالية» كمستعمرة تابعة للتاج الإيطالي، واتّخذت مصوع عاصمة لها قبل أن تنتقل إلى أسمرة التي قسمها الإيطاليون إلى أربع مناطق، واحدة للإيطاليين وواحدة لليهود واليونانيين، وواحدة لأهل إريتريا الأصليين، فيما جعلت المنطقة الرابعة مركزًا صناعيًا. شرع المستعمرون في عمليات تحديث للبلاد، فأقاموا المصانع ومحطات الكهرباء والسكة الحديد، وزادوا من الاستثمار في القطاع الزراعي، وتم توظيف كثير من الإريتريين في الوظائف العامة أو الجيش، حيث خاضوا الحرب الإيطالية-التركية في ليبيا، كما اشتركوا فيما عرف بحرب الحبشة الأولى والثانية.

منح وصول موسيليني إلى السلطة في روما 1922 دفعة قوية للأحلام الإمبراطورية القديمة. أعلن الفاشي المتحمس ميلاد الإمبراطورية الإيطالية، مملكة «روما الجديدة» كما شاعت التسمية، وُحّدت «إريتريا الإيطالية» و«أرض الصومال الإيطالية» مع الأراضي الإثيوبية المحتلة حديثًا فيما عُرف بـ”شرق أفريقيا الإيطالية”، ومن بين تلك الأراضي الشاسعة اختارت الحكومة الإيطالية إريتريا لتكون المركز الصناعي للكيان الوليد.لم تصمد الإمبراطورية الجديدة طويلًا، خرجت روما من الحرب العالمية الثانية بهزيمة ثقيلة أفقدتها مستعمراتها المذكورة، وبقيت إريتريا تحت الإدارة البريطانية، وفيما كانت الأخيرة حائرة بخصوص مستقبل إريتريا، كان لدى الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي خطته الخاصة بخصوص الجار الصغير.


الحكاية الثالثة: لا صوتَ يعلو فوقَ صوتِ الاستقلال

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، زعم هيلا سيلاسي أن إريتريا كانت جزءًا من إثيوبيا، ونجح في تكوين اتحاد فيدرالي لم يلبث أن تطور إلى ضم أسمرة إلى التاج الإثيوبي عام 1962. خاض الإريتريون صراعًا مريرًا في طريق التحرير، دامت حرب الاستقلال هذه لثلاثة عقود قبل أن تتمكن قوات «جبهة التحرير الشعبية الإريترية» بزعامة أسياس أفورقي من طرد القوات الإثيوبية من البلاد، وقد تزامن ذلك مع وصول حلفاء الجبهة بقيادة ميليس زيناوي إلى السلطة في أديس أبابا بعد الإطاحة بالحكم الشيوعي.

في عام 1993 صوّت الشعب الإريتري بشبه إجماع على استفتاء قضى بانفصال البلاد عن إثيوبيا، كان الاستفتاء مدعومًا من الحكام الجدد في أديس أبابا وبرعاية إقليمية ودولية. لم يعمر شهر العسل الإريتري- الإثيوبي هذا طويلًا، فلم تمنع العلاقات الشخصية بين زعيمي البلدين اللذين حاربا كحلفاء سابقًا ورتبا معًا مسائل الاستقلال وما تلاها، من تطور الخلاف حول القضايا الحدودية إلى حرب شاملةـ اندلعت في عام 1998. نجحت إثيوبيا بفضل تفوقها الجوي في اختراق الدفاعات الإريترية، كان قتالًا عظيمًا تلقى فيه الطرفان خسائر فادحة، واستغرق الأمر عشرات آلاف القتلى وملايين الدولارات قبل أن تنجح الجهود الدبلوماسية في تسوية الأزمة في عام 2000، وإن بقيت جذورها قائمة، وبقي التهديد المتبادل بالحرب بين البلدين مستمرًا حتى يومنا هذا.

يمكن القول إن السياسة الخارجية الإريترية مثيرة للجدل على كل الأصعدة تقريبًا، فقد قرر مجلس الأمن عقوبات على أسمرة بزعم دعمها لحركة الشباب المجاهدين المسلحة في الصومال، ومن ثم فهي تصنف كدولة مارقة، ومع ذلك فهي تتمتع بعلاقات جيدة مع إسرائيل تعود إلى ما قبل الاستقلال حين قررت الأخيرة أن عليها الوقوف بجانب الثورة الشعبية الإريترية – أو على الأقل عدم الوقوف ضدها – لكي لا تخسر المزايا الإستراتيجية التي تتمتع بها تلك الدولة الصغيرة، كما كانت من الدول القليلة التي تمتعت بـ علاقات جيدة مع إيران، حتى قيل أن معكسرات تدريب إيرانية – للحوثيين تحديدًا – أقيمت على الأراضي الإريترية، وإن كانت الفترة الأخيرة قد شهدت تقاربًا إريتريًا – خليجيًا شهدت عليه زيارات المسؤولين المتبادلة بين البلدين، مع تقارير صحفية تتحدث عن امتيازات اقتصادية وإستراتجية قد توفرها أسمرة لدولة الإمارات العربية المتحدة، من بينها ميناء جديد بالقرب من ميناء عصب الدولي. لم تندمج إريتريا في الأسرة العربية بشكل تام، ورغم أنها عينت في العام 2003 سفيرًا لها في الجامعة العربية بصفتها «عضوًا مراقبًا»، فإنها مع ذلك لم تحصل على عضوية كاملة، وربما يفسر ذلك ما قاله سفير إريتري لجريدة اليوم السابع المصرية بأن «المنظمة الإقليمية لا تقدم شيئًا للمنطقة».


الحكاية الرابعة: انجُ سعد فقدْ هلكَ سعيد

خاض الإريتريون حرب استقلال طويلة عن إثيوبيا انتهت بالانفصال إثر استفتاء 1993، إلا أن الحرب الحدودية ما لبثت أن اشتعلت مرة أخرى بين الدولتين.

http://gty.im/1444624

في مشهد شبيه بالمشهد الأول -مع اختلافات جوهرية-، مئات الإريتريين يتسللون أثناء الليل هربًا، متخذين سبيل البر أو البحر، إلى أين يتجهون؟، لا يهم، كل مكان يصلح لأن يكون مستقرًا لهم طالما هو خارج حدود البلاد، بإمكانهم الذهاب إلى إثيوبيا أو السودان، بإمكانهم سلوك الطريق الوعرة للوصول إلى إسرائيل، بإمكانهم عبور البحر إلى اليمن والجزيرة، وسعيد الحظ منهم سيستقر به المقام في أرضٍ أوروبية بعد رحلة طويلة. بعد أربعة عشر قرنًا من رحلة الصحابة الأوائل، لم تعد البلاد مصدر جذب للغرباء، بل صارت طاردة لسكانها أنفسهم، كل يسعى إلى الهرب كي لا يلاقي المصير الشقيّ الذي لاقاه الرفاق.

نالت إريتريا استقلالها في مايو/أيار 1993 ولم تجرِ فيها منذ ذلك الوقت أية انتخابات عامة، ولم تعلن حكومتها خططًا لإجراء مثل هذه الانتخابات، في البلاد حزب واحد، يمتلك صحيفة واحدة، وقناة واحدة، لا تسمع البلد إلا صوتًا واحدًا، وصداه.

على مدار أكثر من عقدين، نجح الرئيس أسياس أفورقي في تخطي عقبات عدة، تمرد عسكري في العام 1993، ومحاولات إصلاحية من بعض رجال الحكم عام 2001 فشلت في تحقيق أي نتيجة، وكان آخرها حديث عن تمرد عسكري محدود في العام 2013 لم تتكشف تفاصيله تمامًا إلى اليوم، لكن المؤكد أنه لم ينجح في زعزعة تماسك الحكم في البلاد.

بعد ربع قرن من الحكم المستبد القائم على القمع وانتهاك حقوق الإنسان، أصبحت إريتريا واحدة من أكبر مصادر اللاجئين في العالم، هربا من جحيم نظام أسياس أفورقي.

تشير التقارير إلى أن نحو 5000 إريتري يهجرون بلدهم كل شهر، أغلبهم يهرب من الخدمة العامة في الجيش. لدى الإريتريين نظام تجنيد فريد للغاية، ففي حين ينص القانون على أن الأفراد بين 18 -40 عامًا يجنّدون لفترة ثمانية عشر شهرًا، إلا أن الواقع يخالف الورق، بعضهم يقضي في الخدمة العسكرية عشر سنوات أو يزيد، ليس هناك من سقف زمني لخدمة البلاد قسرًا وبلا مقابل، حتى إن الحكومة قد تجند أفرادًا تجاوز عمرهم الخمسين بل والسبعين أيضًا، بإمكانك العمل مجبرًا لدى الحكومة إلى الأبد. في ظل ظروف إنسانية شديدة الصعوبة ومعدلات فقر عالية للغاية، يصير الهرب من البلاد حلمًا لدى الجميع، وخاصة من هم في سن الشباب، والكثير منهم ينجح في مسعاه بالفعل، إذ تسجل إريتريا أحد أكبر معدلات الهجرة في العالم. في 2014 وحدها 10% من الإريتريين إما هاجروا بالفعل طلبًا للجوء، أو تقدموا بطلبات لجوء لسفارات الدول الغربية والأمم المتحدة. الدول المتقدمة ليست فقط بغية اللجوء الإريتري، فأي مكان بعيد عن جحيم أفورقي هو جنة الخلد. في أكتوبر الماضي كان فريق كرة القدم الإريتري الوطني يجري مباراة في بتسوانا، عشرة من لاعبي الفريق هربوا من معسكر التدريب وطلبوا اللجوء في بتسوانا!. العام المنصرم وصفت لجنة التقصي التي أرسلتها الأمم المتحدة الوضع في إريتريا قائلة: «ليس القانون هو الذي يحكم الإريتريين، بل الخوف». الاعتقال العشوائي يمارس على المشاع. ليس بإمكانك أن تعرف لماذا اعتقلت، ما التهم الموجة إليك؟، متى يفرج عنك؟، أين أنت معتقل؟، ولماذا أنت؟، حتى كبار رجال الدين – المسلمين والمسيحيين على السواء، فلا تفرقة في القمع هنا – عرضة للبقاء في أسر أفورقي لعقود طويلة، حتى يأذن لهم ملك الموت بالخلاص.نجح الإريتريون في الحصول على الاستقلال قبل ربع قرن، انتصروا على أمة تفوقهم قوة وعددًا بعشرات المرات، لكنهم ما زالوا منذ ذلك الحين يتلمّسون طريقهم وسط دروب الخوف والعنف الجنوني إلى الحياة، أي حياة. انتهت سنوات الحرب؟، نعم، لكن أيام السلام لم تبدأ بعد.

المراجع
  1. عبد السلام البغدادي، البعد الإيجابي في العلاقات العربية الإفريقية والتعددية الإثنية كرابط ثقافي، كتاب صادر عن المركز العربي، ص179-181
  2. أحمد تهامي عبد الحي، الاستراتيجية الإسرائيلية في منابع النيل والبحر الأحمر،دراسة صادرة عن معهد البحوث والدراسات العربية، مارس 2003