في السابع من يناير/كانون الثاني 1935م، وقع رئيس الوزراء الإيطالي «موسليني»، و«بيير لافال» وزير الخارجية الفرنسي معاهدة لإعادة ترسيم المستعمرات ما بين فرنسا وإيطاليا، أعطت فرنسا إيطاليا منطقتي مثلث «أوزو» (ما بين ليبيا وتشاد) وجزيرة «دميرة» على البحر الأحمر، والتل الذي يطل عليها (رأس دميرة)، لتصبح تابعة لمستعمرة إريتريا الإيطالية، وكان الهدف من هذه التنازلات الفرنسية إقناع الطليان بعدم الانضمام إلى هتلر إذا ما أعلن الحرب على فرنسا، ورغم أن البرلمان الفرنسي صدق على هذه المعاهدة إلا أن البرلمان الإيطالي لم يصدق عليها.

استقلت إريتريا عن إثيوبيا في 1993م بعد استفتاء شعبي صوت فيه الإريتريون للاستقلال والانفصال، وكانت جيبوتي من أوائل الدول المرحبة بهذا الاستقلال لدرجة مشاركة رئيسها «حسن جوليد» في احتفالات الإريتريين بالاستقلال.

لم تستمر هذه العلاقات القوية بين الدولتين، خصوصًا بعد سقوط نظام «منجستو» في إثيوبيا والعداء الذي ظهر بين حكومة «ميليس زيناوي» والنظام الإريتري، وانحازت جيبوتي بدافع المصالح إلى صالح إثيوبيا، مما عرضها لغضب النظام الإريتري الذي قام بإيواء المعارضة الجيبوتية المسلحة (التي تهدد النظام الجيبوتي وجوديًا)، وهذا الأمر دفع الجيبوتيين إلى إعلان احتلال إريتريا لأراض جيبوتية، وتبادلت الدولتان سحب السفراء مما دشن مرحلة قطيعة دبلوماسية.

بعد الغزو الإثيوبي للصومال عادت الاتهامات الجيبوتية لإريتريا برعاية ودعم العناصر المسلحة التي تهدد أمنها

وقعت جيبوتي بروتكولًا عسكريًا مع إثيوبيا واعتبرت أسمرا أن هذه الخطوة موجهة إليها، وأن هذا البرتكول يسمح لإثيوبيا باستيراد أعتى الأسلحة لاستهداف إريتريا. تدخل الرئيس اليمني «علي عبدالله صالح» للصلح بين الدولتين والزعيم الليبي «معمر القذافي»، ونجحت الوساطة الليبية في تذويب الثلج وتبادل الرئيس الإريتري والجيبوتي زيارة البلدين وشُكلت لجان من أجل حل كل المشاكل سواء كانت الحدودية و الأمنية.

انفجرت الأوضاع الأمنية في الصومال بعد الغزو الإثيوبي لها، اختلفت رؤى الدولتين وتقيمهما للأزمة الصومالية، توقف عمل اللجان المشتركة بين الدولتين وعادت الاتهامات الجيبوتية لإريتريا برعاية ودعم العناصر المسلحة التي تهدد أمنها.

وفي يونيو/حزيران 2008م انفجرت الأوضاع على الحدود بين الدولتين وحصل اشتباكات بين القوات الإريترية والجيبوتية، وأسفرت هذه الاشتباكات عن مقتل وإصابة عشرات الجنود من الطرفين، وكذلك وجود أسرى عند الجيبوتيين وعند الإريتريين، إلا أن الوضع عاد للهدوء بعد يومين، وذلك بعد بيانٍ من مجلس الأمن طالب الدولتين بوقف القتال، وحث الأطراف على حل مشاكلهما بالطرق الدبلوماسية. ويضاف إلى ذلك أنْ انعقدت قمة للاتحاد الأفريقي في شرم الشيخ المصرية وأدانت قرارات القمة السلوك الإريتري وطالبت إريتريا بالانسحاب من الأراضي الجيبوتية.

تعرضت الحكومة الإريترية لضغط دولي مكثف، وذلك بسبب كراهية المجتمع الدولي للنظام الإريتري، بسبب سجله الأسود في مجال حقوق الإنسان ودعم الإرهاب، ونتيجة لانحياز العالم كله ضد إريتريا بما فيه جامعة الدولة العربية والاتحاد الأفريقي، وافقت الحكومة الإريترية على المبادرة الأكثر جدية لحل الأزمة مع جيبوتي وهي المبادرة القطرية.

وتنص المبادرة القطرية على انسحاب القوات الإريترية والجيبوتية من المنطقة المتنازع عليها لتعسكر فيها قوات محايدة وهي القوات المسلحة القطرية، وتكون مهمة هذه القوات رصد الحدود لمنع تسلل أي عناصر بين الدولتين، وتبادل الأسرى بين الحكومتين بشكل دوري مع إعطاء كل دولة لقطر كشفًا بأسماء الأسرى عند كل طرف، وتقوم قطر بتشكيل لجنة مهمتها ترسيم الحدود بين الدولتين طبقًا للوثائق الذي تسلمها كل دولة، وستكون النتيجة التي تخرج بها اللجنة ملزمة لكل الأطراف وللمجتمع الدولي.

وقام الرئيسان الجيبوتي والإريتري بالتوقيع على بنود المبادرة في العاصمة القطرية الدوحة في يونيو/حزيران 2010م وسط وعود قطرية باستثمارات في الدولتين لتنشيط االسياحة فيهما.


الأزمة الخليجية مع قطر تطيح بالاتفاق

خريطة جيبوتي
خريطة جيبوتي

برز في الفترة الأخيرة في السعودية، وخصوصا بعد وصول الملك «سلمان بن عبدالعزيز»، توجه سياسي جديد لا يعتمد على القوة العظمى ويسعى لإنشاء تحالفات جديدة لمواجهة التحديات االتي تهدد المنطقة وعلى رأسها النفوذ الإيراني والإرهاب، ونتيجة لهذا الشيء بدأت المملكة العربية السعودية بمد اليد إلى الدول الأفريقية التي طالما تجاهلتها عقودًا، تاركة إياها نهبًا للنفوذ والهيمنة الإقليمية الإيرانية والإسرائيلية والتركية، التي حلت محل النفوذ المصري زمن «عبدالناصر» و«السادات».

وكان من نتائج هذا التوجه إفلات الجزء الأكبر من منطقة القرن الأفريقي من القبضة الإيرانية، التي كانت متحكمة به، وطرد إيران من السودان والصومال وجزر القمر وجيبوتي وتحجيمها في إريتريا، وضم هذه الدول إلى عاصفة الحزم عبر استخدام أجوائها ومطاراتها لقصف اليمن أو عبر إنشاء قواعد عسكرية دائمة كما هو الحال في القاعدة السعودية في جيبوتي التي يتوقع إنشاؤها في الفترة المقبلة.

وكذلك الحال دولة الإمارات التي أنشأت قاعدة عسكرية في إريتريا تستخدمها لقصف الحوثيين في اليمن في منطقة عصب الإريترية وسط وعود قدمت لإريتريا برفع اسمها من قائمة الدول الداعمة للإرهاب وتقريب وجهات النظر بينها وبين الحكومة الأمريكية بوساطة إماراتية. كذلك قامت السعودية والإمارات باستعادة العلاقات القوية مع السودان والتي انهارت في السنوات الماضية بسبب الخلاف مع الخرطوم بشأن العلاقات السودانية الإيرانية.

كان كل هذا الأمر على حساب الدوحة؛ فمنطقة القرن الإفريقي إلى وقت قريب كانت منطقة تتحرك فيها الدوحة بسهولة وبمفردها وسط انشغال أشقائها الخليجيين بكسب ود مصر وبلاد الشام وتجاهلهم لمنطقة القرن الأفريقي.

عندما اندلعت الأزمة الخليجية الأخيرة انحازت جيبوتي إلى جانب السعودية فورًا، فهي موعودة بمنح مالية كبيرة واستثمارات لقاء القاعدة العسكرية السعودية وتبعها في ذلك حكومة جزر القمر واختار السودان والصومال وإثيوبيا الحياد، بينما كان الموقف الإريتري موقفًا عجيبًا، فقد خرج بيانان متعارضان من الحكومة الإريترية، الأول هو بيان وزراة الخارجية والذي كان أقرب للحياد والثاني كان بيان وزارة الإعلام الذي أشاد بجهود الإمارات والسعودية في مكافحة الإرهاب دون تسمية قطر.

الانحياز الجيبوتي للسعودية كان معيبًا إذ تضمن الطلب من السفير القطري مغادرة البلاد وهذا ما أغضب الدوحة جدًا، وهي التي قدمت المبادرة بالأساس لمساعدة جيبوتي (الطرف الأضعف) في تخطي أزمتها مع إريتريا، وانتهى الأمر بوزارة الدفاع القطرية لسحب جنودها من المنطقة المتنازع عليها ليعود الصراع كما هو.


ماذا سيحدث بعد انسحاب الجيش القطري؟

أسفر التوجه السعودي إلي إفريقيا عن إفلات القرن الإفريقي من القبضة الإيرانية وطرد إيران من السودان والصومال وجيبوتي وتحجيمها في إريتريا

كانت المبادرة القطرية وصفة ناجحة لحل الأزمة بين إريتريا وجيبوتي بشكل نهائي، لكن جشع الحكومة الجيبوتية هو من وضعها الآن في هذا المأزق، إريتريا الآن لا توجد عليها ضغوط بفضل اللوبيات الإماراتية التي عملت في الفترة الماضية على غسيل سمعة النظام الإريتري من تهم انتهاك حقوق الإنسان ودعم الإرهاب. وبمجرد انسحاب القوات القطرية اتجه الجيبوتيون للمجتمع الدولي ليصرخوا بأن الإريتريين يحتلون، وقوبل صراخهم هذه المرة بتجاهل تام من قبل المجتمع الدولي مما يشير إلى أن المجتمع الدولي سيقف على الحياد هذه المرة إذا ما نشب الصراع بين الدولتين.

تظل إريتريا محسوبة علي قطر وإيران في حين أن جيبوتي التي تعتبر منطقة نفوذ أمريكي فرنسي تعتبر أقرب إلي الإمارات والسعودية

القواعد العسكرية الأمريكية والفرنسية ربما تشكل حماية للدولة الجيبوتية ولكن هاتين الدولتين العظميين لن تتدخلا في أي صراع حدودي عسكري. الطرف الجاهز للتدخل لصالح جيبوتي هو الدولة الإثيوبية والتي تعتبر ميناء جيبوتي رئتها التي تتنفس بها بعد خسارتها لإطلالتها البحرية بفقدان السواحل عند استقلال إريتريا وهي الدولة الوحيدة الجاهزة للتدخل إلى جانب جيبوتي.

وكذلك فإن إريتريا لن تكون وحدها، فمصر الراغبة في الانتقام جاهزة للتدخل لصالح صديقتها الوحيدة في القرن الإفريقي (إريتريا)، وهي موعودة بقاعدة عسكرية في جزيرة «دهلك».

ربما يتحول الأمر إلى حرب بالوكالة بين الخليجيين أنفسهم، فإريتريا مهما طورت علاقاتها مع الإمارات سوف تظل محسوبة على قطر وإيران، وما زالت متهمة بتمرير السلاح الإيراني إلى حماس والحوثيين وهي تهربت من قطع علاقاتها التاريخية مع قطر الممتدة من أيام الثورة الإريترية، التي كانت تُدعم من قبل الدولة القطرية، وجيبوتي منطقة النفوذ الأمريكي الفرنسي ستكون أقرب إلى الإمارات والسعودية، خصوصًا أن السياسة الجيبوتية ظهرت بوضوح أنها دائرة في الفلك السعودي وغير مستقلة بالمرة، وضحت بالعلاقات مع قطر في لحظة واحدة دون النظر لعواقب الأمور!

مما يعيق هذا التصور أمرٌ واحد؛ هو التقارير التي تتحدث عن رغبة سعودية لنشر قوات في المنطقة التي كان يتمركز فيها الجيش القطري وتتحول مبادرة الصلح من مبادرة قطرية إلى مبادرة سعودية، وهذا الأمر لو تم فسوف يعني انتصارًا كبيرًا للدبلوماسية السعودية بتقديم صورة مشرقة عن المملكة كعامل استقرار في المنطقة.

الكثيرون يشككون في دقة التقارير التي تتحدث عن رغبة سعودية في نشر قوات في هذه المنطقة، وأعتقد أن الإمارات قادرة على فعل هذا الشيء بشكل أفضل من السعودية.

السعودية متورطة فعليًا في ثلاث حروب؛ الأولى، حرب اليمن، والثانية، حرب ضد الإرهاب الداخلي وهو إرهاب داعش، والثالثة، الحرب في سوريا والعراق، والجيش السعودي منتشر بكثافة على كل حدود المملكة، وفي كل يوم تخرج إعلانات تدعو لتجنيد مجموعة من الجنود.

فالمملكة لن تكون مستعدة لتوزيع جنودها على هذا الصراع الذي يبدو لها غير مهم، وأيضًا إن نشر الجيش السعودي (بالتحديد) في هذه المنطقة القريبة من حركة الشباب المجاهدين الصومالية الموالية للقاعدة ستجعل الجيش السعودي صيدًا سهلًا للتنظيم المتطرف سواء بالقتل أو الأسر من قبل عناصر القاعدة، وطلب أموال لقاء هذا الأمر وللجهاديين بمختلف أنواعهم أحقاد تاريخية على المملكة.

ربما تكون الإمارات هي الجهة الأكثر نجاحًا لو قررت نشر جنودها في هذا المكان، ولكن هل منطقة القرن الأفريقي أولوية عند الإمارات؟