محتوى مترجم
المصدر
nautil.us
التاريخ
2017/10/04
الكاتب
براين بوتويل وجي. كي. بارنس

تسببت مقالة نُشرت في مجلة النيويوركر في احتلال موضوع تنظيم الجينات gene regulation التابع لباب أكبر يُدعى «الإيبيجينوم»، أو الوراثة فوق الجينية (Epigenetics)، لصدارة المناقشات العامة. وهذا الموضوع بالذات، على مدى بضع سنوات سابقة، كان محط اهتمام خاص للعلماء الاجتماعيين، الذين، مع غيرهم من غير المختصين بالجينات، صاروا يروّجون لطبيعةٍ خاصةٍ بهذا الفرع العلمي تتيح له حلّ ألغاز التطور البشريّ. قد يكون ذلك صحيحًا في بعض المجالات كالطب. لكن ما يثير حنق خبراء الجينات هو التكهنات العلنية لبعض المتحمسين بأن هذا العلم يستطيع تفسير مشاكل اجتماعية عويصة كالفقر والجريمة والسمنة.

تتركز حماسة العلماء الاجتماعيين على ما يمكننا تسميته بالإيبيجينوم العابر للأجيال، وهو ما سيمكّنهم –برأيهم-من إثبات همِّهم الأكبر، وهو مركزية دور البيئة في تكوين الإنسان. ولفهم سبب حماستهم، يجب إلقاء نظرة على أساسيات علم الوراثة.


ألف باء وراثة

مصطلح الجينوم يعني أن الجينات هي المسؤولة عن بناء وإدارة الجسم البشري، حيث تعمل الجينات سويًا لتصنيع المنتَجَات الضرورية لحياة الكائن. ومع أن كل خلايا الجسم تحتوي على الكود الجيني بالكامل (ما عدا خلايا الدم الحمراء)، إلّا أن الجينات ليست جميعًا «مُشغَّلة» في كافة أنحاء الجسم.

ويبدأ كل حدث في الجسم بالتصاق بروتينات تُدعى عوامل النسخ (Transcription factors) بتسلسلات من الحمض النووي تُسمى التسلسلات التنظيمية المقرونة (cis- regulatory sequences) وهي تسلسلات تسبق الجينات ومسؤوليتها تنشيط نسخها أو تثبيطه. وهذا يضمن نسخ كل جين بشكل صحيح، حيث يكون لكل جين بداية ونهاية، مما يساعد على تكوين بروتينات فاعلة بداخل الجسم. ونستخلص من هذا أن التسلسلات التنظيمية المقرونة هي المسؤولة عن التعبير الجيني (gene expression).

الوراثة فوق الجينية علمٌ يدرس العوامل الخارجية والبيئية، التي تنشط أو تثبط عمل الجينات وتؤثر على كيفية قراءة الخلية للجينات.

اقرأ أيضا: تعرف على علم «الوراثة فوق الجينية»


كيف تستفيد العلوم الاجتماعية من ذلك؟

سنفهم هذا من دراسة أجريت في 2004 على الفئران، وفيها حلل الباحثون الافتراض القائل بقدرة أساليب التنشئة المختلفة على التأثير في استجابات التوتر لدى الأبناء. وقد وجدت الدراسة أن أساليب الأمهات أثرت على تطور الأطفال بتغييرها التسلسلات في تنشيط التسلسلات الجينية، أيْ بتلاعبها المباشر بالتعبير الجيني. الأوقع من هذا، هو التلميح إلى أن تلك العلامات الوراثية فوق الجينية يمكن أن تنتقل للأجيال المستقبلية (عابرة للأجيال).

حمّست اكتشافات تلك الدراسة الكثير من العلماء الاجتماعيين، وجعلتهم ينظرون إليها كانتصار للتأثير «الاجتماعي» على التأثير «البيولوجي» في تطور الكائن الإنساني وتشكيله. إلّا أن عالم النفس بجامعة هارفارد، «ستيفن بينكر»، يحذرنا من الجري وراء تلك الادعاءات العريضة؛ فالعلامات فوق الجينية التي تلتصق بالحمض النووي نتيجةً للتأثيرات البيئية لا تغير الحمض النووي.

ورغم انتقالها من الأم لأطفالها، إلا أنها تُلغى بعد جيل أو جيلين، وهي نفسها خاضعة لتحكم الجينات، وربما لا تمثل سوى تكيف دارويني تتبعه الكائنات لإعداد أطفالها من أجل تحمل الظروف الضاغطة التي تستمر خلال جيلٍ ما. بل ربما حتى لا تكون سوى أحد أشكال التلف المؤقتة.

وفوق هذا، رأينا أغلب التأثيرات الإيبيجينية العابرة للأجيال في تجارب على الفئران، وهي تتكاثر كل بضعة شهور، مما يجعلها مثالية لدراسة عدة أجيال متتابعة، كما يمكن إجراء التجارب عليها بسهولة. أما التجارب على البشر، الأطول أعمارًا، ففي أغلبها حدسية أو تعتمد على عينات صغيرة لا يمكن استخلاص نتائج عامة منها، ولن تسمح المؤسسات البحثية أبدًا بإخضاع الأطفال البشريين لظروف البحث نفسها كما الفئران.


مفهوم البيئة

أشار بيكر أيضًا إلى قضية رئيسية، وهي أن فهم العلماء الاجتماعيين لكلمة «البيئة» يختلف عن فهم البيولوجيين لها. فلدى البيولوجي، تعني البيئة كل ما ليس حمضًا نوويًا (أيْ، البيئة الخلوية للحمض النووي). أما بالنسبة للعالم الاجتماعي فهي كل شيء بدءًا من تنشئة الأبوين إلى المناخ السياسي العالمي.

قد تكون للبيئة الخلوية علاقتها بفهم التنظيم البيئي للتعبير الجيني، لكن لا يعني هذا بالضرورة أن للبيئة الاجتماعية التأثير ذاته. وما زلنا في حاجة للمزيد من الوقت والبحث لفضّ احتمالات التأثير الكامل لتلك البيئة الاجتماعية.

ورغم ظنِ العلماءِ الاجتماعيين أنهم وجدوا في الوراثة فوق الجينية الأداة التي ستجعل التأثير «البيئي» ينتصر على «البيولوجي»، علينا ألّا ننسى أنه حتى الإيبيجينوم لا يستطيع فرض التجاهل على المكتشفات الغنية لعلم الجينات الكمّي والبحث الوراثي، التي أثبتت أن التأثيرات الجينية على البشر شاملة. ولا شيء قد نعرفه مستقبلاً عن الإيبيجينوم العابر للأجيال بمقدوره تغيير هذا.