ذات مرة، قال الفيلسوف الفرنسي «ألبير كامو»: «الديمقراطية الحقيقية ترجع دائما إلى الجماهير، لأنها تفترض أنه لا توجد حقيقة مطلقة في نظامها، وأن الكثير من تجارب الشعب المتراكمة تمثل مقتربات من الحقيقة، وهي أكثر دقة من مذهب متماسك لكنه مزيف. فالديمقراطية لا تدافع عن فكرة مجردة ولا عن فلسفة متألقة، بل هي تدافع عن الناس الديمقراطيين، وتدعوهم لاستخدام وسائلهم الخاصة لدعم دفاعهم».

وبالنظر للانتخابات الفرنسية الحالية، والموجة الصاعدة في أوروبا نحو مزيد من الشعبوية وأحزاب اليمين المتطرف، يصعد نجم جديد هو إيمانويل ماكرون، نحو مزيد من تجاوز الاستقطابات الأيديولوجية وكسر المألوف في السياسة الفرنسية بين اليمين المحافظ واليمين المتطرف واليسار الراديكالي.

ماكرون كان وزير اقتصاد في حكومة فرانسوا أولاند (2014-2016) ثم استقال من منصبه قبل الانتخابات بـ 6 أشهر ليكوّن حملة رئاسية «فرنسا إلى الأمام» على غرار حملة أوباما قبل الانتخابات الأمريكية قبل الماضية «نعم نستطيع».

اتهامات لماكرون تتنوع بين اليمين المتطرف الذي يصفه بالعميل الذي يسعى لمزيد من الانفتاح على أوروبا، وبين اليسار الرديكالي الذي يعتبره بلا ألوان سياسية.

ويتصف ماكرون بمزيد من التحرر من الأيديولوجيات التقليدية لليمين المحافظ أو المتطرف، أو اليسار التقليدي ممثلًا في الحزب الاشتراكي.

كوّن حملة شابة (فرنسا إلى الأمام) تألفت من آلاف المتطوعين، وأخدت تجوب أزقة فرنسا لتعطي الناخب الفرنسي حلولًا غير تقليدية خارج إطار الساسة التقليديين الذين ملّ منهم الشارع الفرنسي، رغم ما مُني به الشأن العام الفرنسي من الهجمات الإرهابية في الأسابيع القليلة قبل الانتخابات الفرنسية، ما جعل اليمين الفرنسي يزيد في خطابه العدائي نحو الهجرة والمسلمين الموجودين في فرنسا.

يقول ماكرون بأن الاحتلال الفرنسي للجزائر كان جريمةً تستحق الاعتذار، نكأً في جراح فرنسا الجديدة

يقول ماكرون في خطاباته أمام تجمعاته المناصرة إن لديه مشروعًا متناغمًا يقوم على رؤية شمولية، ردًّا على منافسيه اللذين انتقدا افتقاره إلى اقتراحات محددة، ويعد بأن «لا يكون هناك منبوذون ومنسيون في فرنسا»، واعتبر أن «العالم اليوم أمام مرحلة تتسم بالهجرات الجماعية، وعلينا الاستعداد للمزيد من تلك الهجرات»، في إشارة إلى موجة الهجرات التي اجتاحت أوروبا خلال السنوات الخمس الأخيرة.

ويدعو ماكرون في هذا الإطار إلى فتح أبواب الهجرة أمام بلدان العالم الثالث، التي تشهد حروبًا وكوارث طبيعية، كما يشيد في خطاباته الانتخابية بسياسة اللجوء التي تنتهجها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، معتبرًا أن هذه السياسة التي نهجتها ألمانيا أنقذت «كرامة أوروبا»، ومنتقدًا السياسة الأوروبية الحالية بشأن اللاجئين، التي يصفها بأنها «فاشلة على نحو شامل».

ودعا ماكرون، في تصريح له، العلماء الأمريكيين الخائفين أو المختلفين مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي عُرف بسياسته الإقصائية نحو العرب والمهاجرين، للقدوم إلى فرنسا: «أريد من جميع من يجسدون الإبداع والتميز في أمريكا سماع ما أقوله، من الآن فصاعدًا سيكون لديكم وطن جديد في فرنسا».

وفي خطاب متجاوز للسياسة الفرنسية المنتهجة منذ قرون وصف ماكرون الاستعمار الفرنسي للجزائر بأنه جريمة تستحق الاعتذار، في مغازلة سياسية للعرب والمسلمين، وبالأخص الجالية الجزائرية في فرنسا، لمنح مزيد من الثقة لماكرون.

قد ينظر البعض لماكرون بأنه ليس لديه خبرة أو حنكة سياسية، وأنه لا يتعدى كونه رجل تكنوقراط، فبالنظر يملك إيمانويل ماكرون، البالغ من العمر 39 سنة، سجلًا حافلًا بالتكوينات الأكاديمية، بدأه بمعهد «هنري 4»، ثم التحق بمدرسة العلوم السياسية بباريس ذائعة الصيت سنة 2001، وأتبعها بتكوينه في المدرسة العليا للإدارة بمدينة ستراسبورغ (2002-2004)، بالإضافة إلى مروره بمؤسسات تربوية عريقة أخرى.

وبالتوازي مع ذلك تقلد ماكرون عدة وظائف عليا، فعمل مفتشًا عامًا للمالية لمدة ثلاث سنوات، ثم انتقل بعد ذلك ليعمل في لجنة مهمتها إيجاد سياسة مالية تدعم الاقتصاد الفرنسي تحت رئاسة جاك أتالي، مستشار الرئيس الاشتراكي الراحل فرانسوا ميتران، ليغادر وظائف إدارات الدولة سنة 2008، ويلتحق بمصرف «روتشيلد»، حيث سيكتشف خبايا المال والعمال، ويراكم خبرة في تسيير البنوك، وبعدها يعود في 2012 للعمل مع الرئيس أولاند مستشارًا اقتصاديًّا، ليعينه الأخير وزيرًا للاقتصاد سنة 2014.

ماكرون اعترف في إحدى المقابلات التلفزيونية بأنه لا يعيبه كونه خبيرًا سياسيًا أو ينتمي لأحد الأحزاب، لأنه يتطلع لكسر اللعبة السياسية القديمة وخلق مزيد من التحرر نحو سياسة فرنسية شابة نحو الأمام. يعول ماكرون كثيرًا على حملته الشابة وسط طلاب الجامعات الفرنسية المعروفة وخطابه الشبابي المتحرر من المألوف ويظهر ماكرون أيضًا بغير المألوف في حياته الشخصية. خلال مشواره الدراسي، وقع ماكرون قبل أن يتجاوز الـ 16 سنة في غرام مدرسته للغة الفرنسية، وتدعى برجيت ترونيو، والتي كانت تكبره سنًا بعشرين سنة، وتزوجها فيما بعد، ويعيشان اليوم سويًا.

لعبت برجيت ترونيو دورًا أساسيًا في تألق نجم ماكرون، سواء كان على الصعيد المهني أو السياسي، فمنحته الثقة الكافية لمواجهة التحديات التي يفرضها عالم السياسة على كل مرشح يريد أن يصل إلى المنصب الأعلى للسلطة.

تصدر ماكرون المشهد كرجل غير مألوف، في السياسة كما في حياته الشخصية، فكوّن جماعة متزايدة من الداعمين الشباب الطامحين للتغيير

ماكرون عندما سُئل عن برنامجه الانتخابي من الناحية الاقتصادية أكد ضرورة تحسين القدرة الشرائية للمواطنين في حال انتخابه رئيسًا للبلاد، والدفاع عن مشروع متناغم يقوم على رؤية شاملة. كما تعهد بخفض كلفة العمل للمؤسسات العمومية وإبقاء نظام العمل 35 ساعة في الأسبوع، وتحسين القدرة الشرائية للموظفين.

ومع أن الرجل صرح في أكثر من مناسبة بأنه لا يملك أيديولوجيا محددة، وأنه رفض في السابق أن ينزل الانتخابات الرئيسية تحت شعار الحزب الاشتركي، وأنه رجل حر يعنيه الشارع الفرنسي أكثر مما تعنيه الأسماء البراقة والشعارات الزائفة، فهل يكون إيمانويل ماكرون تحديًا جديدًا في أوروبا لتجاوز الشعبوية الصاعدة نحو جذور اليمين المتطرف، وتكون أوروبا على موعد مع سياسات شبابية متجاوزة للاستقطاب الأيديولوجي؟

بدأ ماكرون المعركة الانتخابية بإمكانات أقل من منافسيه، بلا حزب عريق يدعمه على غرار مارين لوبان، حزب الجبهة الوطنية، وبإمكانات مادية قليلة، ولكن نجحت حملته في استقطاب مزيد من الشباب وتكوين سمعة طيبة داخل الشارع الفرنسي، ويعتمد في خطاباته على كلمات عادية يستخدمها العام والخاص، ويتصرف بكل عفوية، على عكس السياسيين التقليديين الذين تعودوا على لغة خشبية غريبة عن الشعب.

ويدخل ماكرون انتخابات الإعادة أمام لوبان أحد أبرز وجوه اليمين المتطرف بعدما حصل على 23% من الأصوات في الجولة الأولى، وبمزيد من الدعم من داخل الأحزاب اليسارية أو اليمينية المعتدلة يمكنه التغلب على لوبان.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.