لعقود طويلة كِيل لليهود الذين سكنوا مصر عشرات الاتهامات، ونسجت حولهم الأساطير؛ ليسوا مصريين، كانوا يسعون لخراب مصر، سيطروا على الاقتصاد، تحالفوا مع الصهيونية العالمية، تركوا مصر من أجل إسرائيل، والقائمة تطول. فما الحقيقي في تلك الاتهامات، وما الخيال؟


الانتماء والهوية

http://gty.im/463985093

هل كان اليهود الموجودون في مصر يهودًا مصريين، أم يهودا يسكنون مصر، أي أن مصر كانت بالنسبة لهم محطة من محطات (الشتات) لحين إقامة دولة يهودية؟

تعد الإجابة على هذا السؤال أساسًا مهمًا للحديث عن طبيعة الوجود اليهودي في مصر في العصر الحديث.

تقوم الصهيونية على أساس محاولة لم شمل اليهود المشتتين في الأرض وإعادتهم إلى إسرائيل، ووفق هذا المفهوم فإن أي وجود يهودي خارج أرض إسرائيل هو وجود شاذ وغير أصيل، وبالتالي يكون اليهود الذين تواجدوا في مصر ليسوا يهودًا مصريين وإنما يهود يسكنون مصر مؤقتًا.

تعد هذه النظرة الصهيونية لليهود هي نفس النظرة التي يرى بها قسم معتبر من المصريين المعاصرين اليهود الذين سكنوا مصر؛ إذ يُنظر إليهم على أنهم كانوا «جالية أجنبية» سكنت مصر لحين قيام دولتهم المنتظرة ورحلت بعدها. غذى هذه النظرة، جنبًا إلى جنب مع الآلة الإعلامية الصهيونية، حالة العداء القومي لإسرائيل، وتميز يهود مصر بكونهم طائفة متعددة العناصر ذات خليط عالمي.

الإجابة على سؤال انتماء وهوية يهود مصر، يستدعي الإجابة على سؤل آخر أكثر بساطة، هو: أين ذهب اليهود الذين تركوا مصر؟

يقول المؤرخ جوئل بنين، في كتابه «شتات اليهود المصريين»، إنه بين عام 1949 و1951 هاجر من مصر حوالي 22 ألف يهودي. بعدها استمر نزيف الهجرة مستمر لكن بوتيرة أقل بكثير، وحين وقعت حرب 1956 (العدوان الثلاثي)، كان عدد اليهود المقيمين في مصر يتراوح بين 50 – 55 ألف شخص، كما أوردت الباحثة الألمانية جودرون كرامر في كتابها «اليهود في مصر الحديثة».

هاجر يهود مصر إلى إسرائيل على مدى عقدين، وهو ما يشكك في أن دافع أغلبيتهم هو إيمانهم بإسرائيل، بل إنهم ربما لم يستطيعوا الصمود أمام القوى التي كانت تشكل المجتمع المصري آنذاك.

العدوان الثلاثي كان إشارة اليهود المصريين للرحيل، فخرج منهم -وفقًا للباحث ميشيل لاسكير- حوالي 22 ألف شخص خلال تسعة أشهر فقط، ومع مطلع الستينيات لم يكن في مصر سوى 7 آلاف يهودي، واستمر العدد في التناقص حتى لم يبق في مصر عند نهاية العام 1970 سوى 300 يهودي فقط، لكن هل ذهبوا جميعًا إلى إسرائيل؟

يقدر جوئل بنين عدد اليهود المصريين الذين استقروا في إسرائيل بحوالي 45% من جملة اليهود الذين خرجوا من مصر على مدى 20 عامًا، في حين أعاد البقية تأسيس طوائفهم في أوروبا والأمريكيتين.

نحن هنا أمام ثلاث حقائق:

1- وفق وجهة النظر التي تروجها الصهيونية وبعض القوميين والمذكورة أعلاه، فإنه كان من المفترض أن يهاجر اليهود الموجودون في مصر إلى إسرائيل عقب الإعلان عن قيامها، أي في عام 1948، لكن عدد اليهود الكبير (50 – 55 ألف) الذين استمروا في مصر حتى العام 1956، رغم الإعلان عن قيام دولة إسرائيل ورغم قيام ثورة/ انقلاب 23 يوليو 1952 وحالة العداء بين مصر وإسرائيل، يشير إلى أن يهود مصر في الواقع لم يكونوا في انتظار قيام دولة إسرائيل.

2- نسبة الـ55% من اليهود المصريين الذين رفضوا السفر إلى إسرائيل وفضلوا عليها الشتات في أوروبا والأمريكيتين، تدل على أنهم لم يروا في إسرائيل وطنهم وأرضهم الموعودة كما تروج الدعاية الصهيونية، وأن مصر كانت أقرب إليهم من إسرائيل، وهو ما يظهر بوضوح في كتابات وشهادات عدد معتبر من اليهود المصريين الذين يعيشون في مختلف بقاع العالم، كما أوردها كل من جوئل بنين في كتابه «شتات اليهود المصريين»، ومحمد أبو الغار في كتابه «يهود مصر من الازدهار إلى الشتات».

3- بالتأكيد نسبة الـ45% من اليهود المصريين الذين استقروا في إسرائيل، هي نسبة كبيرة ومعتبرة، لكن من المهم الوضع في الاعتبار أن هؤلاء انتقلوا إلى إسرائيل على مدى ما يقرب من عقدين وليس عقب الإعلان عن قيامها، وهو ما يشكك في أن دافع أغلبيتهم للسفر إلى إسرائيل هو إيمانهم بها، وهو ما عبر عنه جوئل بنين بقوله إنهم «لم يستطيعوا الصمود أمام القوى التي كانت تعيد صياغة المجتمع السياسي المصري بطريقة تستبعد اليهود بشكل فعال».

كما رد محمد أبو الغار جزءا من أسباب ضخامة هذه النسبة إلى الظروف الاقتصادية الصعبة التي عاناها معظم اليهود خاصة من لم يتمتع منهم بجنسية أجنبية، وهذه نص شهادة من يهودي مصري فقير سافر إلى إسرائيل، حيث يقول في حوار له مع صحافية إسرائيلية:


يهود مصر والحركة الصهيونية

إن مصر بلدنا، وليس لنا بلد آخر، وآباؤنا كانوا هنا منذ زمن طويل، بالضبط مثل أي فرد من المسلمين.

بدأت الحركة الصهيونية في مصر في نهاية القرن التاسع عشر، وكان عدد المنتمين إليها قليلًا جدًا في ذلك الحين، وأغلبهم من اليهود الأشكيناز، وهم يهود غير أصليين قدموا إلى مصر في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وعمل أغلبهم في الحرف الصغيرة، وكانوا يتحدثون بلغة الييديش، إذ لم يكن جزء كبير منهم يتقن غيرها رغم طول مقامهم في مصر.

أسست أول جمعية صهيونية في مصر عام 1897، وسرعان ما تكونت 14 جمعية في القاهرة والإسكندرية، واتحدت جميعها عام 1917 في كيان أطلق عليه «الاتحاد الصهيوني»، وأصدر الاتحاد جريدة بالفرنسية أطلق عليها «إسرائيل».

أقام «الاتحاد الصهيوني» احتفالًا كبيرًا حضره 8 آلاف يهودي، بمناسبة صدور وعد بلفور، وانطلقت مسيرة في القاهرة من 3 آلاف يهودي، وأخرى في الإسكندرية مكونة من 8 آلاف يهودي تحية وامتنانًا لوعد بلفور، وتكرر الأمر مرة أخرى عند زيارة الوفد الصهيوني العالمي بقيادة حاييم وايزمان إلى الإسكندرية والقاهرة، حيث كان في استقبالهم الآلاف.

http://gty.im/478544330

في عام 1918 أنشأت جماعة من أغنياء اليهود «لجنة فلسطين»، لتقديم المساعدات الإنسانية إلى اليهود في فلسطين، وكانت هذه اللجنة على علاقة وطيدة بالمنظمات الصهيونية العالمية، وساهمت أموالها في توطين 12 ألف يهودي أوروبي في فلسطين.

تراجع نشاط المنظمات الصهيونية في منتصف عشرينيات القرن الماضي، وتوقفت المظاهرات والمسيرات المؤيدة للصهيونية بإيعاز من الملك فؤاد الذي كان يكره الصهيونية، لكن النشاط استمر وأخذ شكلًا ثقافيًا أكثر، وتواصلت عملية جمع التبرعات بصورة سرية رغم إعلان الحاخام الأكبر منع أي تبرعات لليهود في فلسطين بعد حوادث حائط المبكى في عام 1929، واستمر الحال على هذا الوضع المريح للمنظمات الصهيونية حتى اندلاع الثورة الفلسطينية عام 1936، حيث بدأ المصريون- ومن ضمنهم أغنياء اليهود خاصة- يدركون خطورة الحركة الصهيونية.

تواصلت زيارات زعماء الصهيونية العالمية إلى مصر، مثل وايزمان الذي زار مصر عام 1938 لطمأنة الحكومة، وقابل رئيس الوزراء ورئيس الديوان الملكي، وموسى شرتوك أول وزير خارجية لإسرائيل ورئيس جمهوريتها فيما بعد، وتزايد نشاط الحركة الصهيونية كثيرًا منذ عام 1942، بعد تنامي الشعور القومي اليهودي بسبب الاضطهاد الذي تعرضوا له في ألمانيا.

كل هذه الحقائق السابق ذكرها تُشير إلى أنه كان هناك نشاط ملحوظ للحركة الصهيونية في مصر، وهذا النشاط لقي مشاركة وتأييد واستحسان جزء معتبر من اليهود، لكن هل من الممكن وصم جميع اليهود المصريين واتهامهم بأنهم صهاينة؟

اليهود المصريون لم يكونوا مدركين لخطورة المشروع الصهيوني حتى وقت متأخر جدًا، وكانت مساعدة يهود مصر لليهود المهاجرين إلى فلسطين كانت من منطلق مساعدة إخوانهم المضطهدين

1- كانت كل تحركات وتجمعات التنظيمات الصهيونية قانونية تحت سمع وبصر الحكومة المصرية، ولم يتم تقييد هذه التحركات سوى في نوفمبر 1945، بعدما خرج اليهود في مظاهرات كبيرة تأييدًا لذكرى وعد بلفور، إذ أثارت هذه المظاهرة حفيظة الشعب والصحافة وخطباء المساجد، فخرجت مظاهرات مضادة ووقعت اشتباكات. واستمرت مكاتب ونوادي الحركة الصهيونية مفتوحة حتى إعلان مصر الحرب على إسرائيل في عام 1948.

2- كان ليون كاسترو نائبًا لرئيس الاتحاد الصهيوني، وفي الوقت نفسه ناشطًا في ثورة 1919 ضد الإنجليز وأحد مساعدي سعد زغلول، وحين كان حاييم وايزمان على رأس البعثة الصهيونية في القاهرة، في عام 1918، قابل شيخ الأزهر وقدم له تبرعًا باسم المنظمة الصهيونية العالمية قدره 100 جنيه، وكثيرًا ما حضر وزراء ومحافظون احتفالات الحركة الصهيونية، وكثيرًا ما استقبل زعماء الصهيونية العالمية في مكاتب أكبر المسئولين المصريين.

من أجل 1 و2 يعتقد محمد أبو الغار أن الحكومة المصرية والشعب المصري وحتى اليهود المصريين لم يكونوا مدركين لخطورة المشروع الصهيوني ولا لطبيعة تحركاته حتى وقت متأخر جدًا، وأن مساعدة يهود مصر لليهود المهاجرين من أوروبا إلى فلسطين كانت من منطلق مساعدة إخوانهم المضطهدين وليس لتنفيذ أهداف الصهيونية العالمية، وأن بعض اليهود المصريين لم يروا في تأييدهم للصهيونية تعارضًا مع مصريتهم، على الأقل في بادئ الأمر.

كتب حاييم وايزمان تقريرًا بعد زيارته لمصر عام 1918، كان مما جاء فيه: إن زعماء اليهود المصريين كانوا معادين للصهيونية من الناحية النظرية، لكن نجح في إقناع موصيري بتكوين قسم الإغاثة الصهيوني في القاهرة، وأن أغنياء اليهود غير مهتمين بفلسطين، لكنهم قد يهتمون بها إذا أصبحت امتدادًا لمصر ليجددوا نفوذهم الاقتصادي بالانتشار فيها. وقال في زيارة أخرى عام 1922: إن الأمل في نشاط الصهيونية يكون بالاعتماد على اليهود الروس المقيمين في مصر، لأن اليهود المصريين غير مهتمين ولا أمل فيهم.

يجمع كل من جوئل بنين ومحمد أبو الغار وجاك حاسون على أن الحركة الصهيونية ولدت وتنامت وسط اليهود الأشكيناز، وهؤلاء لم يكونوا يمثلوا سوى 8% من اليهود الموجودين في مصر، ولم يستجب للحركة من اليهود السفاراديم- الذين أقاموا في مصر لقرون طويلة- سوى بعض الشباب من الأوساط الفقيرة، لكن أغلب السفاراديم الذين ينتمون إلى الطبقات الأكثر ثراء ناصبوا الصهيونية العداء.

يدعم هذا الكلام الكاتبان أحمد غنيم وأحمد أبو كف في كتابهما «اليهود وحركة الصهيونية في مصر 1897 – 1948»، الصادر في عام 1969 أي وقت أن كانت حالة العداء لإسرائيل في أوجها، إذ يقول الكاتبان إن يهود مصر لم يشاركوا جميعًا في النشاطات الصهيونية رغم الضغوط التي تعرضوا لها، وأن شباب اليهود المثقفين رفعوا راية المعارضة وكونوا الجماعة المناهضة للصهيونية، وكان من أعضائها يوسف درويش وشحاتة هارون وريمون دويك وهانز بن كسفلت وغيرهم.

بلغ عدد المنتمين إلى الحركة الصهيونية في مصر، في عام 1947، أي بعد نصف قرن من نشأة الحركة وإبان قيام «دولة إسرائيل»، حوالي 1500 شاب فقط، بحسب أبو الغار، وهو ما يتماشى مع وصف بنين لهم بأنهم «قلة قليلة من اليهود»، ويتماشى أيضًا مع ما ذكره روبير داسا، أحد المشاركين في شبكة سوزانا التي كانت تتجسس على مصر لصالح إسرائيل وألقي القبض على أعضائها في العام 1954، إذ يقول داسا في مذكراته إن «الحركة الصهيونية كانت شيئًا استثنائيًا تمامًا بالنسبة لطائفة اليهود المصريين»، ويقر بأنه لم يكن هناك أعضاء آخرين في أسرته صهاينة.

المراجع
  1. يهود مصر من الازدهار إلى الشتات – محمد أبو الغار – دار الهلال
  2. شتات اليهود المصريين – جوئل بنين – دار الشروق
  3. تاريخ يهود النيل – جاك حاسون – دار الشروق