شهدت العلاقات المصرية الليبية تذبذبا كبيرا بين الصعود والهبوط خلال أربعة أعوام من عمر الثورتين المصرية والليبية، ولا شك أن النظم الحاكمة في الدولتين وخاصة قيادتيهما السياسية كانت العامل المهم الأكبر في صعود وهبوط تلك العلاقات من فترة لأخري، ليس هذا وليد الثورات بل ناتج قراءة تاريخية للعلاقات بين البلدين ففي الستينات من القرن الماضي كانت السمة الغالبة لتلك العلاقات هي الانسجام والتناغم بينما بدأت العلاقات تتوتر في عهد السادات حتى وصلت إلى حد الصدام في الثمانينات، ثم كانت فترة التسعينات التي شهدت تطورا ملحوظا في العلاقات وخصوصا بعد حادث لوكيربي وما فرض على الشعب الليبي من حصار بحيث أنه وعند احتدام الأزمة الاقتصادية الداخلية لليبيا وجراء نقص السلع الأساسية قام النظام بفتح الحدود والمنافذ الليبية على دول الجوار ومن ثم ازدهرت التجارة بين ليبيا ومصر وتدفقت العمالة المصرية لليبيا مثلما لم تتدفق من قبل.

وبينما تغير رأس النظام في مصر مرتين على ثبات نظام القذافي فإن مياه كثيرة جرت في مياه العلاقات بين البلدين كان من أهم أسباب التذبذب في هذه العلاقات تغير التوجهات والمزاج السياسي للقادة في البلدين من حين لآخر وبغض النظر عن المصالح الموضوعية للشعبين الشقيقين.

وفي مطلع الألفية الجديدة ومع موجات الضغط على النظم السلطوية من أجل التحول الديموقراطي ومراعاة حقوق الإنسان ومع ظهور جيل جديد من الشباب الأكثر تعليما وانفتاحا وتوقا إلى التحرر من نير الاستبداد والجهل والتخلف الذي آلت إليه أوضاع المنطقة وفي ظل نظامين هما الأطول عمرا في ليبيا حيث استمر حكم القذافي لــ42 عاما، وفي مصر حيث استمر حكم مبارك لـ30 عاما، ثورتين شعبيتين عظيمتين في الخامس والعشرين من يناير في مصر، وفى السابع عشر من فبراير من العام 2011 في ليبيا أطاحت الأولي برأس النظام في ثمانية عشر يوما بينما أطاحت به الثانية في قرابة الثمانية أشهر، وما بين هذا وذاك خلفت الثورتين أوضاعا جديدة ربما أدت إلى مزيد من الطموح في التحول في العلاقات بين البلدين لمستوي العلاقات الإستراتيجية، وعزز هذا التطلع ما آلت إليه الأوضاع في كلا البلدين.


المحطات الرئيسية للتأزم في العلاقات بعد الثورة

الأزمة بين المجلس العسكري والمؤتمر الوطني العام

ربما هذه الأزمة لم يتم توصيفها التوصيف الدقيق من قبل إذ كان المجلس العسكري المصري آخر المعترفين بالمؤتمر الوطني العام الليبي كممثل شرعي وحيد للشعب الليبي.

لأن الانحياز إلى طرف دون آخر أثناء الثورة الليبية كان يعني وضعا حرجا للعمالة المصرية بليبيا

والحقيقة أن ذلك يمكن تفسيره أو قبوله لأن الانحياز إلى طرف دون آخر أثناء الثورة الليبية كان يعني وضعا حرجا للعمالة المصرية بليبيا، والتي سارع نظام القذافي باتهام المصريين بتأجيج الثورة ضده والمشاركة مع كتائب الثورة في العمليات ضده رغم عدم قيام دليل مادي على ذلك، كما يمكن تفهم هذا أيضا بانشغال المجلس العسكري بترتيبات المرحلة الانتقالية الأولى، لكن إذا كان هذا الموقف مفهوما حتى مقتل القذافي فإنه لم يعد كذلك بعده، بل الأدهى أن استضافت مصر رموز نظام القذافي مثل أحمد قذاف الدم الذي كان الليبيون يتهمونه بالفساد، ورفضت حكومات ما بعد الثورة في مصر تسليم العناصر المنتمية لنظام معمر القذافي وهو ما أثر على العلاقات بين البلدين، خاصة أن أحمد قذاف الدم كان يثير الكثير من الإشكاليات وزاد من مشاعر الاستياء والغضب لدى أفراد من الشعب الليبي.

تراكمت العديد من العوامل في الواقع الليبي والتي زادت الموقف تعقيدا وارتباكا وساعد على تعقيدها أن لا دولة حقيقية يمكن البناء على موروثها من النظام السابق، كما رتبت انهماك المجلس الوطني الانتقالي في إعداد مجموعة من القوانين والصياغات الدستورية بعضها متعلق بقانون العزل، وبعضها الآخر متعلق بإدارة شؤون الحياة اليومية للبلاد دون خريطة واضحة، وهو ما أعطى خصوم الثورة فرصا أكبر لاستغلال إخفاقات المجلس في التنكيل به والتجييش ضده، ومع انتشار السلاح وتوسع دائرة المواجهة بين النظام الجديد وبعض الكتائب المعترضة على سياساته كانت التطورات نحو الانقسام الحاد أسرع من المتوقع.

وطال هذا الانقسام جسد المجلس الوطني الانتقالي نفسه حيث بدأت موجة من الاحتجاجات ضد تباطؤه ما أدى لاستقالات بدأت بنائب رئيس المجلس عبد الحفيظ غوقة في يناير 2012، وصولا إلى رئيس المجلس مصطفي عبد الجليل في أغسطس من العام ذاته، ومن ثم ارتباك المجلس والحكومة سواء في إدارة عملية تشكيل المسار السياسي أو حتى الحياة اليومية لليبيين، وهو ما أفضى لحالة من فقدان الثقة في المجلس من بعض الشرائح الليبية، وكان كل خصم من رصيد الثورة وشرعية المؤسسات المنبثقة عنها يعد مكسبا بالنسبة للثورة المضادة وشرعية اليأس من الثورة، ومع انقضاء الفترة التي حددها المؤتمر الوطني العام الليبي لنفسه لإنجاز مهامه الدستورية، أصبحنا أمام أزمة شرعية حقيقية في ليبيا.

ومع إعلان حكومة الدكتور على زيدان إغلاق المنافذ البرية مع كل من تونس ومصر أثناء الاحتفالات بالذكري الثانية للثورة الليبية من الرابع عشر وحتي الثامن عشر من شهر فبراير، ومع استمرار هذا الإغلاق لأكثر من أسبوعين بعد هذه الأيام الخمسة، تكدست السلع والبضائع على منفذ السلوم وتسبب هذا في حالة احتقان كبيرة بين البلدين للدرجة التي جعلت أحد المفكرين والكتاب المصريين يدعو لما وصفه لتطبيع العلاقات بين البلدين ، وخاصة بعد فرض التأشيرة على جميع المصريين بما فيهم أهالي محافظة مطروح الذين كانوا يعاملون معاملة المواطن الليبي من قبل.

كان الانحياز المصري لشرعية خليفة حفتر وبرلمان طبرق الذي انبثق عن الانتخابات التي دعا إليها حفتر سببا مباشرا في توتير العلاقات المصرية الليبية

وكان من تبعات هذه الأزمة أن شهد الواقع الليبي المزيد من الاضطرابات وأعمال العنف وبخاصة بعد صراع الشرعيات بين المجلس الوطني الليبي المنتهية مدته والبرلمان الليبي في طبرق الذي انتخب دون توافقات ما بين الداعين لانتخابه وأنصار المجلس الوطني الليبي، وهو الأمر الذي تحول لصراع مسلح بين العديد من الأطراف المنطوية تحت مسميين كبيرين هما عملية الكرامة بقيادة اللواء متقاعد خليفة حفتر، وأنصار عملية فجر ليبيا من كتائب الثوار المناطقية والقبلية وأنصار المجلس من القوى السياسية.

كان الانحياز المصري لشرعية خليفة حفتر وبرلمان طبرق الذي انبثق عن الانتخابات التي دعا إليها حفتر سببا مباشرا في توتير العلاقات المصرية الليبية وبالذات مع أنصار المؤتمر الوطني العام ولا حقا أنصار فجر ليبيا بمختلف انتماءاتهم.

وفي أكتوبر من عام 2014 اتهمت واشنطن طائرات مصرية وإماراتية بالإغارة على مدن ليبية تسيطر عليها قوات فجر ليبيا، كما كان سعي مصر لتمديد العملية الدولية ضد داعش لتشمل مناطق وجماعات خارج سوريا والعراق خصوصا في إطار تصنيف النظام المصري لجماعة الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية بعد ترتيبات الثالث من يوليو 2013 بأشهر قليلة، أثر عظيم في توتير علاقة النظام في مصر بالعديد من الدول التي بها تمثيل كبير لجماعة الإخوان المسلمين ومنها ليبيا التي حصد فيها حزب العدالة والبناء ثاني كتلة برلمانية، لم يكن الحال كذلك مع ليبيا فقط بل مع معظم الدول العربية التي رفضت تصنيف الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية إذ هم جزء من السلطة في كلا من المغرب والكويت والأردن وتونس والجزائر، وبينما صنفتهم السعودية والإمارات كجماعة إرهابية في عهد الملك السابق تراجعت السعودية عن هذا القرار ويبدوا أن الإمارات بصدد التراجع إذ دعت الكثيرين ممن ممثليهم لحضور اجتماعات مناهضة للتطرف والإرهاب.

ورغم الاختلاف الشديد بين مكونات عملية فجر ليبيا فإن الحكومة المصرية تعاملت مع الجميع باعتبارهم كيانا إرهابيا واحدا يجب مساندة أي كيان يعمل ضده على أمل القضاء عليه، وهو أمر لم يتحقق رغم ما أبدته مصر والسعودية والإمارات من مساعدة لقوات خليفة حفتر، إذ سرعان ما تراجعت قوته وسيطرته على المناطق الليبية، كما كان قرار المحكمة العليا الليبية بحل برلمان طبرق ونقض شرعية ترتيبات لجنة فبراير، ضربة قاصمة لشرعيته على المستوى المحلي والدولي، ومن ثم كان استمرار الدعم له من قبل مصر مثار لعمليات انتقام واسعة من المصريين، بل على العكس بدت مصر كمساندة لعودة نظام القذافي لدى المؤدلجين وغير المؤدلجين في السياق الليبي، وهو ما يستوجب إعادة النظر في التقديرات المصرية للموقف الليبي.

يلاحظ أن عمليات الخطف والقتل للمصريين قد تزايدت بشكل ملحوظ بعد ترتيبات الثالث من يوليو في مصر وتضاعفت وتيرتها بعد إطلاق عملية الكرامة، وهو ما كان يعني خطأ القرار المصري بالأساس ويستوجب مراجعته في ضوء المستجدات الليبية خصوصا مع انتشار المصريين عبر المدن الليبية وعدم قدرة القوات التابعة لحفتر على إحراز تقدم ومن ثم عدم قدرته على حماية تلك العمالة ناهيكم عن حماية قواته.

التدخل العسكري والخيارات الأخرى

لم تكن مصر وحدها التي تدعو لحل عسكري للأزمة الليبية، إذ كان وزيري دفاع فرنسا وإيطاليا كثيرا ما يلوحان بحل عسكري خصوصا بعد تصاعد الهجمات على مصافي وحقول النفط التي تديرها شركات الدولتين وكذلك تصاعد وتيرة الهجرة غير الشرعية من السواحل الليبية إلى الدولتين على نحو لم يسبق له مثيل، لكن ربما كانت مصر الأكثر دفعا بهذا الاتجاه ربما لإعطاء قبلة الحياة للواء خليفة حفتر، أو لتصدير أزمات داخلية شديدة، خاصة عقب إخفاقات متكررة في التصدي للعمليات الإرهابية إن في سيناء أو في ربوع مصر، إذ اتخذ النظام في مصر من شرعية الحرب على الإرهاب المحتمل في الثالث من يوليو 2013 – والذي أصبح مؤكدا طيلة عامين – أساسا قويا لوجوده وبقائه وتحالفاته في الداخل والخارج.

في مرحلة سابقة على التدخل العسكري المصري عقب إعلان داعش إعدام 21 مسيحيا مصريا، كان ثمة جهود مصرية في إطار مجموعة دول الجوار قد انطلقت لاحتواء الأزمة بيد أن عدم التوافق مع بعض دول الجوار كان سيد الموقف وهو ما بدا من إدراك الجزائر لقوة الحركات الإسلامية في الداخل الليبي وضعف موقف حفتر ومن ثم وجوب العمل على حل سياسي للأزمة، وهو ذات الموقف الذي اتبعته الأمم المتحدة بإطلاق جولات حوار جنيف التي تمت جولتين منها في يناير من عام 2015، وكذلك لجنة الاتصال الدولية حول ليبيا.

لكن استعجال مصر وقيامها بهذا العمل العسكري منفردة في السادس عشر من فبراير الجاري، كان مثار جدل في الداخل والخارج، إذ بينما رحب به أنصار عملية الكرامة، فإن بقية الأطياف الليبية استنكرته، بل وتوعد بعضها بالرد فيما رد الطرف الرسمي المتمثل في المؤتمر الوطني العام وحكومة عمر الحاسي، بأنه سوف يلجأ للقضاء الدولي ضد التحركات العسكرية المصرية التي اعتبرها تعد على السيادة الليبية، وبينما تعاطفت أطراف محلية وإقليمية مع التحرك المصري واتجهت أطراف أخرى لنقد لاذع له دون ترو فإن بعضا ممن يمكن أن نطلق عليهم وصف العقلانيين تساءلوا لماذا الضربات العسكرية الآن ولماذا لم تأت من قبل رغم وصول الأمر لاختطاف أعضاء من البعثة الدبلوماسية المصرية مقابل إطلاق سراح شعبان هدية المعروف باسم أبو عبيدة وهو زعيم متمرد سابق في ليبيا كان اعتقل في مصر أواخر يناير 2014.

كذلك فإن هؤلاء يتساءلون حول فعالية التدخل العسكري من دون خطة واضحة لإجلاء المصريين من ليبيا، وضمان حقوقهم المالية، ومحاولة إدماجهم في سوق العمل المصرية التي تعاني كسادا وبطالة عاليتين في ضوء توقف معونات وقروض ومنح دول الخليج بعيد وفاة الملك عبد الله ومع بوادر تقارب تركي سعودي قطري تعبر عنه كتابات سعودية صريحة وزيارات متكررة لمسئولين من الدول الثلاث وتوافق حول الملف السوري مع الولايات المتحدة وبالذات في مسألة تسليح المعارضة السورية المعتدلة نزولا على الشرط التركي للمشاركة في الحرب على داعش، يضاف إلى ذلك تخوفات موضوعية من احتمالية توتر العلاقات بين البلدين على الأمد البعيد خصوصا في ظل تزايد احتمالية سقوط مدنيين ليبيين في مثل تلك الغارات الجوية وهو ما أكدته منظمة العفو الدولية في تقارير موثقة الأمر الذي قد يقود لتحقيقات دولية، وفي هذا الإطار فإن ثمة سيناريوهات للعلاقات بين البلدين يمكن تلخيصها في :

السيناريو الأول

في إطار فشل حصول مصر على دعم دولي لعملية عسكرية جماعية في ليبيا يتوقع أن تستمر مصر بتوجيه ضربات جوية ضد أهداف ليبية بدعم عربي سيما من الإمارات وبدعم أوروبي لوجيستي ومعنوي، هذا السيناريو سوف يؤدي إلى مزيد من عمليات الانتقام الجماعية من العمالة المصرية بليبيا ومن ثم مزيد من الدفع باتجاه تدخل بري أيضا لعدم جدوى التدخل جوا على المدى الطويل تشهد بذلك خبرة الحرب الدولية ضد داعش في سوريا والعراق وبالذات عملية تحرير مدينة عين العرب كوباني، كما سوف يؤدي لمزيد من التعقيد للمشهد الداخلي الليبي خاصة وأن عمليات القصف بالطيران داخل المدن الليبية تصيب المزيد من المدنيين، وهو ما يزيد من دوافع الانتقام لدى الليبيين في مناطق القصف وتحميلهم نتائج العمليات العسكرية المصرية.

السيناريو الثاني

نجاح مصر في تشكيل قوة تدخل عربية لمكافحة الإرهاب، يعزز هذا خطاب الرئيس المصري الذي أشار فيه لأهمية وجود مثل هذه القوة المشتركة خصوصا مع تزايد التهديدات، وإشارته لعرض ملوك وبعض رؤساء الدول العربية المساعدة في الضربات العسكرية ضد الجماعات المسلحة الليبية، وإشارة البعض لإمكانية ربط تدخل مصر ضد داعش سوريا والعراق بعملية موسعة لتحالف إقليمي تشمل المسألة الليبية وربما تمديد هذا التحالف ليشمل الإخوان المسلمين أو المساومة بين القيام بمصالحة معهم نظير تحالف إقليمي ضد الإرهاب يشمل ليبيا واليمن والعراق وحلا ما للأزمة السورية، يدعم هذا التقارب السعودي التركي القطري علي حساب التحالفات السابقة ما بين السعودية ومصر والإمارات.

السيناريو الثالث

استعجال مصر وقيامها بهذا العمل العسكري منفردة في السادس عشر من فبراير الجاري، كان مثار جدل في الداخل والخارج

تصادم الجهود المصرية المبذولة مع جهود أممية وإفريقية تعمل على اعتماد الحوار والحل السلمي للأزمة الليبية، وهو ما يقود إلى ضغوط دولية على مصر لوقف ضرباتها، وضغوط على الأطراف الليبية للقبول بالمشاركة في الحوار والتوصل لحكومة وحدة وطنية أو حكومة إنقاذ وطني والإعداد لترتيبات مرحلة انتقالية جديدة تجب الحكومتين والبرلمانين الحاليين بترتيبات أكثر توافقا، يعزز هذا تصريحات مجموعة الخمسة (الولايات المتحدة، وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والمملكة المتحدة) حول الأزمة الليبية سواء قبل أو عقبت جلسات مجلس الأمن حول الأزمة الليبية وفي اجتماع واشنطن لمكافحة التطرف، والتي تدور حول حل سلمي للأزمة الليبية، يعزز هذا تزامن الأزمتين اليمنية والأوكرانية وتشابههما مع الأزمة الليبية وضعف إمكانية تدخل عسكري جماعي في الأزمات الثلاث على التوازي.