مثل هذا المقال الرصين يُبين لنا أن مثقفينا كانوا على علم ودراية بواقع الأمم الناهضة في عصرهم، فقبل مائة عام كان النموذج الأمريكي الصاعد بقوة في سماء القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين نموذجًا مثيرًا للإعجاب؛ ففيه يرى الإنسان كيف تغلبت أمة من الأمم على صعابها الثقافية والفكرية والمادية، وكيف انطلقت من التخلف إلى الصعود في سماء الأمم، والسياسة الدولية، والحضارة العالمية.


إلى العالم الجديد

إذا كنا نجد في تاريخ أوروبا في عصر إصلاحها الديني آثار العوامل التي أحدثتها المسيحية الكاثوليكية لرقي المدنية وتقدمها، فإن في تاريخ أمريكا إذا نحن خبرناه اليوم آثارًا كثيرة من آثار العلم.

في مُدن القرن السابع عشر أقبلَ شتيتٌ من الفرنجة وشراذم من أهل الغرب يستوطنون الساحل الغربي للمحيط الأطلانطي، فأما الفرنسيون ففتنتهم أسماط نيوفوندلاند وحيتانها فاتخذوا لهم مستعمرة صغيرة شمال نهر سانت لورانس، وأما إخوانهم الإنجليز والهولانديون والسويديون فاحتلوا ساحل القسم المعروف بإنجلترا الجديدة وفي الولايات الوسطى، وأقام قوم من الهوجينوت في ولايات الكارولينا وأهطع جمع من الإسبان إلى شبه جزيرة فلوريدا إثر إشاعة مفادها أن هناك عينًا تكسب الشارب منها الشباب المقيم.

وكان وراء تخوم تلك القرى التي بناها أولئكم الجوّابون أرض واسعة مجهولة يسكنها قوم من الهنود شأنهم التجواب والتجوال، ولم يكن يزيد عددهم من خليج المكسيك إلى نهر سانت لروانس عن مائة وثمانين ألفًا، ومنهم علم أولئك الأوروبيون أن في تلك الأقاليم النائية بحيرات ذات ماء عذب، ونهرًا عظيمًا يسمونه الميسيسيبي، ومنهم من قال إنه يجري في إقليم فرجينيا إلى المحيط الأطلنطي، وقال آخرون إنه يشق شبه جزيرة فلوريدا، وقال غيرهم إنه يدفع إلى المحيط الهادي، واعتقد البعض أنه يدفع إلى خليج المكسيك.

وكأنما هؤلاء المستعمرة إذ خرجوا من بلادهم، وفصلهم المحيط العاصف المزبد، وقطعوا في اختراقه أشهرًا عدة، فقد فقدهم العالم، وأضاعتهم معارف الأرض.


قرنٌ من الجهد

على أنه لم يكد ينتهي أجل القرن التاسع عشر حتى أصبح نسل أولئكم المستعمرة الضعفاء قوة من أعظم قوى الأرض. أسسوا جمهورية جمع سلطانها بين المحيطين، وهزموا مهاجمًا من عصرهم، ومحاربًا من أهليهم، بجيش يبلغ عديده أكثر من نصف مليون رجل، لا على الورق، بل ساحة الحرب، وميدان القتال، وأجروا في البحر ما يقرب من سبعمائة من جوَّاري الحرب تحمل خمسة آلاف مدفع منها ما هو أثقل مدافع الأرض وزنًا، وتبلغ حمولتها نصف مليون طن. ولقد صرفوا في سبيل الذود عن حياتهم القومية في أقل من خمسة أعوام ما يربو على أربعة ملايين من الريالات، وقد ظهر من تعدادهم أنهم يزيدون بمقدار الضعف في كل خمسة وعشرين سنة فلا جرم إذا توقعنا أن يصبح عدادهم في نهاية هذا القرن نحو من مائة مليون.

لقد استحالت تلكم الأرض الساكنة إلى أرض صناعية كثيرة الجلَبة والضوضاء، وأصبحت تدوي بأصوات الآلات وتضج بحركات العمال والرجال، وتبدلت الغاية الكثيفة بمئات المدن، وتحولت الأجمة الملتفة بعشرات البلدان، وكفلت للتجارة المقادير الوافرة من الأقوات والمحصولات مثل القطن والتبغ والمأكولات، وأخرجت الأرض أثقالها من الذهب والفحم والحديد، وجمعوا إلى هذه القوة المادية قوة أخلاقية فأُنشئت الكنائس، وأقيمت المعاهد، وفُتحت المدارس، ومُدّت السكك الحديدية، وفاقت في طوله أطول خطوط أوروبا جميعًا إذ بلغ في سنة 1873 مجموع طول سكك حديد أوروبا ثلاثة وستين ألفًا وثلاثمائة وستين ميلاً، على حين أن قد بلغت في أمريكا سبعين ألفًا وستمائة وخمسين من الأميال، ولقد وصلت سكة واحدة منها بين المحيط الأطلنطي والمحيط الهادي.

ولا ينبغي أن نقتصر على التنويه بهذه النتائج المادية، بل هناك نتائج أخلاقية تلفت الأبصار؛ فقد أطلقوا سراح أربعة ملايين من الزنوج، وأخرجوهم من أسار الرق والاستعباد. وإذا كانت القوانين الأمريكية تجنح إلى خدمة طبقة من الطبقات فهي طبقة الفقراء؛ إذ أرادت أن ترفعهم من فقرهم وتحسّن حالهم، ومِن ثمّ تمهَّدت للنبوغ كل سبيل وذل كل شيء أمام العلم والجهد. ولقد شغل أعظم الوظائف رجال نهضوا بأنفسهم من أحقر مراتب الحياة، وأسفل درك العيش، وإذا كانوا قد فَقدوا المساواة الاجتماعية، إذ لا تتفق المساواة الاجتماعية للجماعات الغنية، فقد اعتاضوا عنها بالمساواة المدنية.


إعجاب مصري بالأمريكان الأوائل

وقد يقول قائل: إن هذه السعادة نتجت من أحوال خاصة إذ لم يتوفر مثلها لشعب قبلهم. لقد كان هناك عالم فسيح ممهد للعمل، وقارة بأسرها ذلولٌ لمن يريد امتلاكها، لا تطلب إلا الكد والناس للتغلب على قوى الطبيعة والاستحواذ على ثمرات هذا التغلب.

ولكن أليس من اللازم أن يكون هؤلاء القوم على مبدأ عظيم وهم يحوّلون المجاهل الساكنة إلى مقام للمدنية، ويمشون في تلك المناكب لا تروعهم مظلمة الغابات ولا الأنهار ولا الصحارى ولا الجبال، ويدفعون على سبيل الفتح في مدى قرن واحد فيصلون بين الأوقيانوسين، ويمتلكون ما بينهما امتلاكًا؟.

دعنا نقارن هذه النتائج بنتائج فتح الإسبان بلاد المكسيك وبلاد بيرو فقد هدم الإسبانُ في هذين البلدين بناء مدينة عجيبة، كانت في كثير من الوجوه أعلى من مدنيتهم قدرًا وأسمى، مدينة اكتملت بغير الحديد، وتمت دون البارود، مدينة نهضت بالزراعة التي لا يعينها جهد الجواد ولا الثور ولا المحراث.

لقد دخل الإسبان هذين البلدين من غير حرب ولا قتال، ولم يعقهم دون الفتح عائق، ولكنهم هدموا كل ما شاد أهلوهما، وطاحوا بملايين منهم، وقذفوا في لجة الفوضى بأمتين عاشتا قديمًا في ظل الرضى والرخاء وتحت حكومة شهد تاريخهما بأنها ألزم لهم وأوفق حالاً، وروجوا بينهما الأوهام، ونشروا الخرافات، وانتقل ملكهم وأنعمهم وخيراتهم إلى حوزة الكنيسة الرومانية!

هذا مثال من أمثلة تأثير العلم أخذتُه من تاريخ أميركة، ولم أشأ أن أختار مثله من تاريخ أوروبا؛ لأن هذا المثال يصور لنا قيمة المبدأ العملي الحر الذي لا تخالجه حال لا ضرورة لها.


*نشر في مجلة البيان المصرية، العدد الخامس عشر، 31 مارس (آذار) 1914م.