يُلاحظ كل متابع للوثائقيات المنتجة حديثًا حول الأقليات غير العربية و«غير المسلمة» في العالم العربي أنها، بشكل صريح أو ضمني، تقدِّم نفسها كطرح بديل لما تعتقد أنه الطرح القومي العربي. فالأخير بنظرها قد همَّش دور هذه الأقليات، إن لم يكن قد اختصره تمامًا إلى صورة سلبية. ضمن ذلك يأتي فيلم «إحنا المصريين الأرمن»، سيناريو وإخراج وحيد صبحي وإيفا دادريان وحنان عزت، الذي عُرِض في الدورة الثامنة والثلاثين لمهرجان القاهرة السينمائي (تشرين الثاني/نوفمبر 2016) ثم في سينما زاوية والجامعة الأمريكية بالقاهرة (آذار/مارس 2017).


عصر ذهبي بين هجرتين

من خلال عشرات المقابلات مع أرمن مصريين من أجيال مختلفة، خصوصًا هؤلاء المخضرمين الذين عاصروا الحُكميْن الملكي والجمهوري، يؤكد صُنَّاع الفيلم أن عصر الملكية هو العصر الذهبي للأرمن، الذين قَدِموا إلى مصر عبر الأراضي السورية فارّين من الإبادة المنهجية التي قامت بها الحكومة العثمانية بداية من عام 1915. في العصر الملكي المصري، سيكون للأرمن، شأن أقليات أخرى غير عربية استوطنت مصر، نجوم سياسة ومجتمع وفن، مثل نوبار باشا ويعقوب آرتين وفان ليو، كما سيكون لهم حصتهم ضمن طبقة التجار وأصحاب الشركات، وضمن قطاعات كصناعة الصفيح وطباعة الكتب.

مع مجيء حركة «الضباط الأحرار»، في تموز/يوليو 1952، التي فضَّل أحد ضيوف الفيلم نعتها بـ «الانقلاب»، وإلغائها الحكم الملكي (الذي يرتبط على نحو مبهج بطفولة ضيف آخر، كان الملك فاروق قد لوّح له مرة من باب سيارته)، ثم سياسات التمصير والتأميم التي انتهجها جمال عبد الناصر في الستينيات، سينحسر الوجود الأرمني في المجتمع، على غرار الوجود اليوناني والإيطالي واليهودي و«الشامي».

مع ذلك، سيقرر قطاع لا بأس به إكمال حياته، بحلوها ومرّها، في مصر، مفضلًا شتاتها على أي شتات آخر. وهو القطاع الذي سيؤسس لاحقًا مدارس ومستشفيات وأندية أرمنية، مكرِّسًا كل الجهد من أجل الحفاظ على التراث والذاكرة الأرمنيين في مصر، وأيضًا من أجل التوعية بالمصير الوحشي الذي واجه أجداده.

على تنوع أعمار وخلفيات الضيوف في تلك المقابلات، لا نلمس سوى اختلافات طفيفة في تلك الرواية التي تدور حول عصر ذهبي بين هجرتين.


ترحيب ليبرالي

تلقّف الجمهور الليبرالي المصري – وهو معروف بمعاداته للرواية القومية – الفيلم بكل حبور وانفعال. تقول نيفين مسعد: «كان ممتعًا أن نعيش طيلة مدة العرض مع مصر التى نحبها، مصر الأرمن واليونانيين والمسلمين والمسيحيين واليهود، مصر المذاهب المختلفة والطوائف المختلفة، مصر الطبيعية لا التفصيل» (الشروق، 16 آذار/مارس 2017). وافتتح محمود عبد الشكور مقالته بوَصْلة مديح مماثلة قائلًا: «يستحق هذا الفيلم أن يُعرض فى الفضائيات وفى قنوات التليفزيون المصرى، على وجه التحديد، ذلك أنه فيلم عن التسامح، وعن قبول الآخر، وعن مصر التي احتضنت أعراقًا وأديانًا مختلفة، وعن الوطن الذي لا يُنسى» (الشروق، 15 كانون الأول/ديسمبر 2016). وعلى الرغم من إشارتها إلى التنميطات الثقافية التي روَّج لها صُنَّاع الفيلم كما إلى عيوبه الفنية، أشادت لارا الجبالي، شأن مسعد وعبد الشكور، بالمعطى التاريخي في العمل (مدى مصر، 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2016).

يؤكد الخطاب الليبرالي، في كل تفاصيله، أن مصر لم تشهد ظواهر من قبيل الشوفينية والطائفية إلا بشكل متأخر، في أعقاب تولي جمال عبد الناصر السلطة، وبعد ذلك، مع «الصحوة الإسلامية»، وهو لا يني يشير إلى الطبيعة الكوزموبوليتانية للمجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين. بالتالي، الاحتفاء بـ «إحنا المصريين الأرمن»، ومن قبله «عن يهود مصر» (2013) و«تلك الأسكندرية» (2015)، وكلها أعمال تتغنى بقيم الكوزموبوليتانية والتنوع والالتقاء بين الشرق والغرب، ينبع من هذه الرؤية لتاريخ مصر الحديث والمعاصر.


الجالية ضد الأمَّة

إذا كان الخطاب القومي/الوطني يعمل عادة على تهميش دور العمال والفلاحين والأقليات في تشكُّل مصر وصياغة صورتها، ويحصر الأمر في البرجوازية الكبيرة والصغيرة من المواطنين، فإن «إحنا المصريين الأرمن»، بطرحه قراءة «طائفية» ينزلق إلى نفس جوهر الخطاب – وهو جوهر إقصائي – الذي يزعم مناوءته.

حين تدَّعي أقلية أن العصر الذهبي لبلد ما يقع حصرًا في الفترة التي تمكَّنت فيها هذه الأقلية اقتصاديًا واجتماعيًا، فإن ذلك يتأسس على منظور نرجسي للمسألة برمتها. فالأرمني الذي يرى أن أزهى أيام مصر كانت تحت الاستعمار والملك، أو لا يزال يتفاخر بشخصية من نمط نوبار باشا، الذي عُرِف بممالأته (وهذا تعبير مخفَّف) للاستعمار البريطاني ولعب دورًا حاسمًا في تأسيس المحاكم المختلطة في مصر عام 1875، وهي المحاكم التي كانت تفصل في النزاعات المدنية بين المصريين والأجانب وبين الأجانب وبعضهم البعض، واشتهر عنها تمكينها للأجانب وانتزاعها الأراضي من فقراء الفلاحين المصريين، أو الذي يُشيد بيعقوب أرتين الخادم المطيع للملك والعدو الحاقد للحركة الوطنية المصرية… إن الأرمني الذي يفعل ذلك يصرّ أن يكون أرمنيًا فقط وليس أرمنيًا مصريًا، يصرّ أن يضع الجالية ضد الأمة.

في هذا السياق، ينبغي أن يُشير المرء إلى الشيوعيَّيْن اليهوديَّيْن يوسف درويش وشحاته هارون، وكلاهما، بين آخرين، من أهم الذين تصدوا للحركة الصهيوينة، التي كانت ترتع في مصر تحت حماية السلطات حتى أواخر الأربعينيات، وأشاروا إلى الدور الكبير الذي لعبته البرجوازية اليهودية في مصر في تمويل الحركة الصهونية واستقطاب الشباب اليهودي إليها.

أيضًا، النظر إلى التاريخ المصري بوصفه كامل القتامة بعد سياسات التمصير والتأميم الناصرية يُعبر عن انعزالية برجوازية وطائفية مُخيفة، ويتعامى، عن وعي أو عن غير وعي، عن وضع عموم المصريين، الاقتصادي والتعليمي والصحي، قبل هذه السياسات، الذين لم تكن ثمة مساعدات مالية ضخمة تُنشيء لهم مدارس خاصّة حتى «يتنفسوا بعدة لغات».


ازدواجية الخطاب الليبرالي

الاحتفاء الملحوظ الذي حظي به الفيلم يؤكد على مستويين من الازدواجية في الخطاب الليبرالي حول الأقليات غير العربية و«غير المسلمة»:

أولًا، لا يعرِّف الليبراليون الكوزموبوليتانيةَ في مصر كشيء يمكن أن يتضمن سوريين وفلسطينيين وسودانيين وعراقيين، مثلًا، وهؤلاء أضافوا للصحافة والسينما والثقافة المصرية الكثير، لأن تعريفهم يتأسس على أن البيض أو الغربيين أو حاملي الثقافة الغربية فقط هم من يستطيعون «الإضافة» للمجتمع، بينما كل ما عدا هؤلاء هم مجرد عِبء وأعداد زائدة عن الحاجة.

ثانيًا، بينما لا يكف الخطاب الليبرالي عن حض الأقليات العربية والمسلمة المقيمة في الغرب على «الاندماج»، يحتفي الخطاب نفسه بالأقليات غير العربية و«غير المسلمة» في العالم العربي ويحضها على إبراز تراثها والإعلاء من شأنه ويتكلم، بمناسبة أو غير مناسبة، عن القمع الذي تتعرض له. ولا يقتصر الأمر عند ذلك، فالجيل الأكثر شبابًا من الأرمنيين المصريين، كما ظهر في الفيلم، لا يجيد الحديث بالعربية، بل إنه يتحدث بعامية مصرية متكسرة، وهو أمر، لا شك، لم ولن يستدعي استهجان أي ليبرالي.

بينما أراد «إحنا المصريين الأرمن» وضع الرواية القومية/الوطنية أمام حرج شديد، انتهى إلى رواية مضادة تنضح استعلاءً وانعزالا، استُقبلت بدورها بكل الحفاوة من قِبل ليبراليين صار التنظير مزدوج المعايير من ملامحهم الأكيدة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.