نحن جيل الستينات صنع لشيء ما، لكنه عندما خرج للحياة -السبعينات- اكتشف أنها اختلفت عما تعلمه فعاش فيها غريبا.
داود عبد السيد

مع النكسة وبدء الفترة السبعينية اتجه مسار السينما المصرية للهبوط. مع هروب الإنتاج للشام في فترة الحرب، ظهرت لنا مجموعة بائسة من الأفلام العاطفية القائمة على المشاهد الحسية. لا يعنى هذا أنها كانت فترة ركود؛ على العكس شهدت السبعينات مجموعة من الأفلام العظيمة من فئة «العصفور» و «عودة الابن الضال» و «إسكندرية ليه» وكلهم لـيوسف شاهين، ويمكن اعتبارها فترة ذهبية لشاهين استطاع فيها التعبير عن نفسه في معظم أفلامه رغم العقبات السياسية التي واجهته في صناعة أفلام هذه الفترة.

يمكننا أن نلاحظ أن صعود السادات للحكم والتغييرات التي قام بها في الأساس الاجتماعي لمصر واجهتها ردة فعل من سينمائيي هذه الفترة. يتكلم «العصفور» عن فترة ما قبل النكسة لضابط يعمل في الصعيد يطارد مجرم ما يسرق آلات مصنع ما، وطوال مطاردة الجاني يعرض لنا شاهين استشراء الفساد في القطاع الحكومى لنكتشف في النهاية الجاني. أثناء ذلك يقابل بهية التي تحيي الحلم الناصري لتصطدم في النهاية بالنكسة و تسير مع الجموع في النهاية قائلة: هنحارب .. هنحارب.

وعلى نهجه يسير «عودة الابن الضال» الذي شهد ظهور هشام سليم في دور رئيسي وظهور أول لماجدة الرومي. يمكن تسمية الفيلم ملحمة غنائية عن مطاردة الماضي لنا والهروب والمواجهة في النهاية. يحمل الفيلم مرارة الهزيمة التي ظلت طويلا في أفلام شاهين. مع نهاية السبعينات يقدم شاهين أول ثلاثيته الذاتية إسكندرية ليه مع أول ظهور لـمحسن محيي الدين لتستمر الشراكة حتى فيلم اليوم السادس، ثم كانت قطيعة بلا عودة.

قدم شاهين في هذا الفيلم ملامح للإسكندرية ومصر أثناء الحرب العالمية الثانية عن شاب يطارد حلمه ليصبح سينمائيا ووطن يطارد حلمه للاستقلال. فاز الفليم بجائزة الدب الفضي في مهرجان برلين. من ملامح تلك الفترة أيضا ظهور مخرجين جدد خريجي المعهد العالي للسينما حملوا ملامح وهموم تلك الفترة واستمروا على هذه الطريق حتى الآن، منهم: داود عبد السيد وعلي بدرخان وعاطف الطيب.

فيلم ضربة شمس للمخرج «محمد خان».
فيلم ضربة شمس للمخرج «محمد خان».

بالنسبة لـداود فكانت بدايته مع الأفلام التسجيلية ثم اتجه للروائي بعد الصدام مع الرقابة. أما محمد خان فقدم «ضربة شمس» الذي يستعرض القاهرة و فساد الانفتاح بكاميرا محترف وروح هاو في إطار بوليسي. قدم علي بدرخان أهم أفلامه شفيقة ومتولي عن قصة تراثية تم تقديمها بشكل كلاسيكي مميز.

سنلاحظ أن هذه الجماعة من المخرجين في الثمانينات وحتى الآن تصنع لونا جديدا من السينما التي تحمل ملامح ذاتية لكنها معبرة عن الواقع الجديد. حملت أفلامهم ملامح القلق والحيرة وأحيانا الاغتراب. فنراهم دائما في صدام مع صعود نجم الانفتاح في منتصف السبعينات، كما في: «الغول و الحب»، «فوق هضبة الهرم» و «الحب في الزنزانة».

ربما يكون أكثر أفلام السبعينات تحقيقا للربح هو «الصعود للهاوية» لـكمال الشيخ الذي يدور عن سقوط عميلة استخباراتية في جو بوليسي. و يعزو البعض هذا الربح لتدخل المخابرات في تسويق الفيلم وشراء التذاكر بالجملة.

بشكل عام شهدت فترة السبعينات ظهور أفلام سياسية بلا محتوى سياسي حقيقي تمجد العهد الجديد المليء بالحرية وتلعن العهد البائد، منها: «الكرنك» لـعلي بدرخان. حاول النظام الساداتى الجديد ممارسة نشاطه في استخدام السينما لخدمة توجهات الدولة الجديدة لكنه فشل لحسن الحظ. المثير للملاحظة أننا لم نلاحظ تدخل الدولة في عصر عبد الناصر فيما يقدم على الرغم من سيطرتها على أدوات الإنتاج وهالة الدولة الشمولية المحيطة بذلك العهد، ولكننا لاحظناها في زمن الحريات السبعيني!

ومع انتشار اللهجة الصدامية مع السلطة، اتجهت الدولة للصدام مع هذه النوعية من الأفلام. ففي العصفور لـيوسف شاهين اضطر لإنتاجه بالشراكة وتصويره بالخارج؛ لأن الدولة رأت أنه يهاجم الثورة ويتهمها بحماية الفساد. ثم يتكرر الأمر مع «عاطف الطيب» في «البريء»، فنجده يغير نهاية كاملة لفيلم حتى تسمح به الرقابة؛ ولكن النهاية المحذوفة ظهرت عن قريب على مواقع التواصل.

مع دخول الثمانينات، تخلت الدولة عن دورها في دعم السينما كما تخلت عن دورها في غيرها من المجالات، فسقطت السينما في فخ الإسفاف مقدمة أفلام تجار المخدرات والسلاح، وما تقبل عليه الجماهير هروبا من الواقع المحبط. ولكن ذلك لم يمنع ظهور أفلام جيدة، فقدم لنا عاطف الطيب سواق الأتوبيس و البريء و الهروب و ضد الحكومة و كشف المستور، في شراكة جميلة مع أحمد زكي. حملت أفلام عاطف ملامح سياسية دائما مع التركيز على أبعاد الشخصيات وتعاطيها مع الواقع. ربما وافته المنية مبكرا ولكن أثره ما زال مستمرا. قدم شاهين إسكندرية كمان وكمان و حدوتة مصرية و اليوم السادس وكلها أفلام جيدة المستوى، وإن طغت عليها الذاتية التي أزعجت الجماهير وجعلت من شاهين مخرج مهرجانات لا تفهم أفلامه.

المراقب لتطور الأسلوب التقني في هذه الفترة سيلاحظ تأثير جيل الأكاديمية على أسلوب التصوير؛ فتخلى عن كلاسيكيته. ساهم في هذا إطلاع المخرجين الجدد على الأفلام العالمية في هذه الفترة وما صاحبها من تطور ثوري.

وتخلى التمثيل عن مسرحيته ليفسح المجال للواقعية الأكثر مناسبة لطبيعة أفلام تلك المرحلة.

بشكل عام كانت فترة الثمانينات والتسعينات فترة تألق لـعادل إمام استطاع فيها تحقيق نجاح جماهيري بأفلام متوسطة المستوى؛ ولكنه قدم أيضا أفلاما جيدة عبرت فى بعض أحيانها عن واقع معاش. فنراه في شراكة مع «سمير سيف» في «الغول» و «النمر والأنثى» و «شمس الزناتي»، ثم شراكة لطيفة مع «وحيد حامد» في «الإرهاب والكباب» و «النوم في العسل» و «المنسي»، فكانت فترته الذهبية.

لم تنتج لنا هذه الفترة مخرجين مميزين فقط، ولكن قدمت كاتبي سيناريو على مستوى عال نذكر منهم: بشير الديك في ضد الحكومة و ناجي العلي و النمر الأسود، و وحيد حامد في الإرهاب والكباب و المنسي و طيور الظلام.

كون محمد خان مع بشير الديك و عاطف الطيب و خيري بشارة و داود عبد السيد جماعة سينمائية أطلق عليها (جماعة أفلام الصحبة)، جمعتها رابطة الصداقة ومجمل القضايا والهموم الفنية والثقافية بشكل عام.

يستمر خان في صناعة أفلام عالية المستوى؛ فنشاهده بعدها في أحلام هند وكاميليا و الحريف و خرج ولم يعد و زوجة رجل مهم. أكثر ما يميز أفلام خان هو محاولة شخصياتها التأقلم مع الواقع تاركا الأمل دائما في نهاية كل فيلم.

نجلاء فتحي وعايدة رياض في مشهد من فيلم «أحلام هند وكاميليا» للمخرج «محمد خان».
مشهد من فيلم «أحلام هند وكاميليا» للمخرج «محمد خان».

في حين قدم داود البحث عن سيد مرزوق و سارق الفرح عن قصة «خيري شلبي» و «الكيت كات» عن قصة إبراهيم أصلان. حملت أفلام داود ملامح ذاتية دائما وإن كانت غير منفصلة عن الواقع، كما حملت رمزية تواصلت في أفلامه حتى الآن.

استمرت التسعينات على نفس النهج مع إضافة مخرج جديد هو شريف عرفة، فكانت بدايته قوية مع الثنائي وحيد حامد و عادل إمام مقدما اللعب مع الكبار و الإرهاب والكباب و النوم في العسل و المنسي. يمكننا اعتبار عرفة ابن جيله، يمثل روحه؛ فلن تجد فيه ملامح الاغتراب التي تراها في الجيل السابق، بل تجد قبولا بشكل الوضع السياسي والاجتماعي الحالي، فالاعتراض بحساب يصلح ولا يثور، يعرض ولا يقدم حلولا؛ الجيل الذي تكون عقله على اتفاقية السلام فكانت النتيجة طبيعية.

كما شهدت هذه الفترة ظهور أول أفلام يسري نصر الله الطويلة بعد فترة طويلة من العمل مع شاهين فنراه في مرسيدس و المدينة ثم رائعته باب الشمس. ربما أثرت فترة عمله مع شاهين على أسلوبه الإخراجي لكن أفلامه بالتأكيد حملت أفكاره.

للأسف فترة التسعينات بالنسبة لـشاهين كانت فاقدة للبريق. قدم المهاجر و الآخر و المصير. وعلى الرغم من نيل المصير للجائزة الكبرى في مهرجان كان؛ لكنها كانت أفلام ضعيفة السيناريو، غريبة الحوار، وإن حملت في بعض مشاهدها جماليات سينما شاهين التي عرفناها عنه. بشكل عام يظل أهم مخرج مصري.

يمكننا أن نقول أن السينما نمت كما ينمو كل شيء، من الغنائية والدراما للواقعية والرمزية حتى وصلنا للألفينيات وما حملته لنا السينما الجديدة من مخرجين جدد وأسلوب جديد؛ ولكن لهذا حديث أخر.


الجزء الأول: حدوتة مصرية: السينما من النشأة إلى النضج.