الدكاترة خلصوها … والله خلصوها

رجل أربعيني من نافذته المطلة على ميدان التحرير في فبراير 2011

10 فبراير/شباط 2011.. شارع القصر العيني – وسط القاهرة

يرتجّ أهم شوارع وسط القاهرة بهتافات آلاف الأطباء الشباب الذين عكست معاطفهم البيضاء ضوء الشمس، فكأنهم بدور تمام تمشي على الأرض. ينادون بسقوط النظام، وفتح النوافذ الموصدة في وجه الصباح. يتنفسون الأمل العريض، وينهلون رحيق الحلم المتجسد.

تلتحم القافلة البيضاء بعشرات آلاف الثوار في ميدان التحرير في مشهد لا ينساه من شاهده أبداً. يسمع الجميع صراخاً من إحدى البلكونات المطلة على المشهد الاستثنائي، رجل أربعيني يحمل علماً كبيراً لمصر ويهتف في حرقة بادية «الدكاترة خلصوها … والله خلصوها».

في اليوم التالي يرحل مبارك… أو هكذا ظنوا.

في آخر هذه السنة كان أحد المشافي الميدانية الذي أقامه شباب أطباء التحرير لعلاج مصابي اشتباكات محمد محمود يُقتَحم من الغرابيب السود، ويُعتدى على أطبائه وطبيباته ومرضاه، ويتم تكسير محتوياته.

ولم يمر العام إلا وقد أسالت رصاصات الغدر في أحداث مجلس الوزراء دماء الطبيب الشهيد علاء عبد الهادي على أسفلت نفس الشارع الذي شهد أحد تجليات عنفوان ثورة جيله.

وفي أقل من خمسة أعوام، كانت ريما قد عادت إلى أسوأ عاداتها، وأضافت إليها أضعافها سوءًا.


فاقد الشيء لا يعطيه

تزداد الصورة قتامة، ويزداد البؤس تسلُّطاً على رقاب الجميع. قمع واستبداد غير مسبوقيْن، وفقر وغلاء يطحنان أكثرية الناس. أزمة شديدة في العملة الأجنبية في بلد يستورد معظم شرايين حياته من الوقود والغذاء والدواء. لا نظام، لا أمل… لا وطن. وأصحاب المعاطف البيضاء هم لحمٌ ودمٌ، وليسوا ملائكة أو شياطين، كغيرهم من بني البشر فيهم من هذا وذاك، والفيصل هو نسبة هذا وذاك. ولذا فهم في القلب من كل ما يدور حولهم في هذه الأيام الكبيسة، خاصة الشباب الذين تتعثر خطاهم الغضَّة في أول طريق حياتهم العملية، وتنسحق براعم طموحاتهم وآمالهم تحت وطأة الألم العام.

وكيف يُنقذُ الأرواح من فقد الروح والمعنى؟

كيف تكون ملاكاً في رحلة الجحيم؟

يريدون منك كشاب واعد حصلت على ما يقارب 100% من درجات الثانوية العامة، أن تدرس بعدها بجد لسبع سنوات، وتتخطى سباقاً محموماً على الدرجات، وامتحانات لا حصر لها، ثم تُلقَى شهوراً في إحدى الوحدات الصحية الريفية تمارس اللاشيء الطبي في أكثر الأحيان.

ثم تتحمل أن يضيع من عمرك سنة أو اثنتين أو ثلاث في خدمة إجبارية لشبه وطنك. ثم تكون لسنواتٍ أقلها ثلاثة، طبيباً مقيماً جيدًا وملاكًا للرحمة في أحد المستشفيات الجامعية أو مستشفيات وزارة الصحة. وعليك أن تتقن مهنتك علمًا وعملاً وأخلاقًا. كل هذا مع راتبٍ ضامرٍ يتراوح الآن بين 100 – 150 دولاراً أمريكياً شهرياً!

ويستثنى من هذا سنة الامتياز وسنة الجيش الأولى حيث المرتب الشهري من 18 – 20 دولاراً !. وستجد نفسك بطيبة نفس أو اضطرار تدفع جزءاً ليس بالقليل من هذا الدخل الهزيل كتبرعات لشراء أدوية جوهرية ناقصة لإنقاذ حياة مرضاك، أو قفازات طبية تحميك من العدوى، أو لإصلاح أجهزة مهمة معطلة دونها قد يموت بعض المرضى، وسيلتهم الجهل ونقص الخبرة والتدريب سنوات عمرك الأغلى.

الآن – بعد أكثر من 13 عاماً من اختيارك دراسة هذا المجال – قد أنهيت تدريبك الأساسي، وأصبح لك تخصُّص محدد، والآن إلى سوق العمل الفعلي أو للدقة ساقية العمل. قد تكون أقل بؤساً وتحصل على فرصة للعمل بالخارج خاصة الخليج، فتدور في ساقية من ذهب، بمقابل مادي أوفر، ولكن بثمن الغربة الباهظ.

أو ستتغرّب في وطنك، وتعمل على الأقل ستة أيام في الأسبوع، تنهي عملك الحكومي بالصباح،فتهرع إلى المستشفى الخاص الفلاني، ومنه إلى الترتاني، وفي اليوم التالي قد تحصل على «شيفت» يوم كامل في العاصمة بمقابل أعلى، وقد تصل اليوم بغده ببعد غده لتزيد الحصيلة. وهكذا دواليك. وقد تساعد هذا أو ذاك في عيادته أو مركزه الطبي أو مشفاه الخاص بأجر أقل من قيمة كشف حالة أو حالتين، فتصَبِّر نفسَكً بأنك في المقابل تتعلم، وتكون علاقات شخصية ستحتاجها دائماً.

وعلى هامش هذه الطاحونة،عليك أن تنهي رسالة الماجستير أو شهادة الزمالة المصرية، وستتحمل ابتزازات مشرفين أغلبهم – إلا قليلاً – يمصون عمرك وأعصابك وأموالك. وعليك بجانب كل هذا أن تقرأ أولاً بأول لتطالع الجديد في مجالك، والأدهى من كل ما سبق، أنك مطالَب بأن يكون لك حياة أسرية ناجحة، وعلاقات اجتماعية جوهرية، على هامش هذه الحرب المفتوحة مع نفسك ومع الواقع المسموم.

وبينما ينهمر على الأرض عرقك وعصارة شبابك في سباق قفز الحواجز المحموم هذا، عليك أن تعشق تراب هذا الوطن الذي يملأ حياتك المملة بكل هذه التحديات، ويقمع طموحاتك المتهورة في العيش والحرية والكرامة التي تمزق استقرار وطنك وسلامة أراضيه.


ممنوع الكرامة

منذ أكثر من عام كانت واقعة اعتداء سافر من أمناء للشرطة على أطباء بمستشفى المطرية. غضبت قطاعات واسعة من الأطباء من هذا العمل المشين. ورغم أن الاعتداء على الأطباء العاملين في المستشفيات يحدث يومياً في كافة أنحاء مصر، لكن أطباء المطرية الشجعان بدأوا اعتصاماً، وهددوا بالإضراب الكامل عن العمل لحين استعادة كرامة زملائهم وأخذ حقهم.

فتصاعدت القضية، وتصاعد الغضب، وتلقفتها بعض القيادات في نقابة الأطباء، ودعت الأطباء في أواخر فبراير/شباط 2016 لجمعية عمومية طارئة لتحريك القضية، ولتوحيد غضبهم واستثماره. وبالفعل كانت أكبر جمعية عمومية نقابية في تاريخ مصر، واحتشد ما يقارب العشرة آلاف طبيب في مبني النقابة ومحيطها يهتفون ضد الحكومة وضد إجرام الداخلية.

للأسف لم تصدرْ القرارات حينها على مستوى الحدث، ورغم أنه بعد أشهر حُكم على الأمناء المعتدين بالسجن ثلاثة أعوام، إلا أن مسلسل الاعتداء على الأطباء هنا وهناك لم يتوقف، واشتدّت حملات تجريح قيادات نقابة الأطباء الفاعلة واتهامها بالأخونة…الخ، ومحاولة جر بعضهم كالدكتورة. منى مينا للمحاكمة في قضية هزلية، فالنظام المفزوع من أية تجمعات حتى لو لجماهير الكرة، لن ينسى ثأره مع من جمعوا الآلاف في وسط القاهرة جهاراً نهاراً، ولو كان سقف مطالبهم واعتراضهم ليس عاليًا.

وأخيراً منذ أيام تذكر النظام ثأره مع أطباء المطرية الذين أججوا الشرارة باعتصامهم، صدر بيان من النيابة بأنه سيتمالتحقيق معهم بتهمة الإضراب وتعطيل العمل!


كله إلا السفر يا حكومة

لم يُرد عام 2016 أن يقص شريط خط النهاية إلا وقد مزج المأساة بالملهاة، فشاهدنا في الشهر الأخير منه نائبة في البرلمان المصري تسوِّق لمشروع قانون يمنع سفر الأطباء للعمل بالخارج إلا بشروط صعبة، وبعد عشر سنوات على الأقل من السُّخرة في المشافي الحكومية، وسيفرض على سعداء الحظ الذي سينجحون بعد كل هذا في السفر ضريبة باهظة قد تصل إلى خمس مرتبهم بالعملة الصعبة، كنوع من رد الجميل بالإكراه إلى الوطن الذي سحق شبابهم في الطاحونة التي كنا في مشهد بانورامي لها منذ قليل !

نعم حتى الآن – وضع خطوطاً كثر تحت حتى الآن – لم يصدر مثل هذا العبث القانوني فعلياً، لكنه دلالة على الذهنية الحاكمة التي بدلاً من أن تنشغل بإنقاذ المنظومة الصحية المنهارة، وتوفير الأدوية الحيوية الناقصة، والتي تضاعفت أسعارها أضعافاً مضاعفة …الخ، تنشغل بتكدير القوة البشرية المثخنة بالفعل، والتي تحاول أن تقدم أي درجة من الخدمة الطبية في وسط هذا المستنقع من القهر والفشل والغباء وعجز الموارد.

لو سألت أي طبيب شاب عما يُصبّره على بلاء ممارسة الطب في مصر، لقال لك:

ونحن الآن كأطباء شباب نشهد حلم السفر يتبدد أمام أعيننا .. وتتداعى الأسباب على هذا الحلم المسكين.

1. فرص السفر تتناقص، والمنافسة تزداد شراسة، والعالم يتجه إلى الانغلاق بتصاعد موجات اليمين المتطرف الرافضة للأجانب.2. الخليج والذي كان ولا يزال في صدارة المتاح من فرص السفر، تأثر بشدة بأزمة انهيار سعرالنفط، وبحرب اليمن، وبالأزمات الدبلوماسية بين مصر والسعودية ..الخ.3. لم يعد بكالوريوس الطب المصري يساوي قلامة ظفر في أي مكان في العالم، وحتى الماجستير تضاءلت قيمته كثيراً، وأصبح مجرد مؤشر على الأقدمية تعترف به بعض الأماكن في الخليج. وبالتالي لكي تعترف بك الدنيا طبيباً، لم يعد مفر من الشهادات الأجنبية كالمعادلة الأمريكية والزمالة البريطانية ….الخ وهنا ذهبت هذه الأحلام أدراج رياح الدولار الذي سقط الجنيه المصري إلى ثلث قيمته أمامه في ثلاثة أعوام. وهذا يعني ارتفاع أسعار هذه الشهادات ثلاثة أمثال.سنأخذ المعادلة الأمريكية USMLE كمثال: كان سعر كل من الخطوة الأولى step 1، والخطوة الثانية الجزء النظري step 2 CK منذ ثلاثة سنوات حوالي 7500 جنيه (1030 دولاراً أمريكياً) ، الآن ستكلف كل منهما 20 ألف جنيه على الأقل !، والأدهى من ذلك الجزء العملي step 3 CS والذي سيكلف امتحانه فقط 30 ألفاً على الأقل (1550 دولاراً)، سوى تكلفة تذاكر الطيران والإقامة، وكذلك الاشتراك في مواقع بنوك الأسئلة التي لا غنى عنها للحصول على تقديرات تنافسية scores والتي ستتضاعف هي الأخرى.أي أنك كطبيب شاب لتحصل على معادلة بكالوريوس الطب الخاص بك بنظيره الأمريكي ستحتاج إلى ما يقارب الـ100 ألف جنيه مصري! (هذا بأسعار اليوم 18 يناير/كانون الثاني 2017، وضع ألفي خط تحت كلمة اليوم)، وما امتحانات اللغة من هذا ببعيد، فمثلاً رخصة التويفل الأمريكية تجاوزت الثلاثة آلاف جنيه (165 دولاراً)، والآيلتس البريطاني تجاوز الـ 2100 جنيه، وهي شهادات صلاحيتها عامين فقط.4. تناقصت فرص المنح المدعومة حكومياً للماجستير والدكتوراه بالخارج، كما تم تقليل الراتب الممنوح للمبتعثين، فأصبح يكفي بالكاد التكاليف الأساسية مع قدر من التقشف.


ما الحل؟

أعللُ النفسَ بالأسفارِ أرقُبُها ـــــــ ما أضيقَ الطبَّ لولا فسحة السفر !

يبدو أنه لا مؤشرات على حل على المستوى القريب أو حتى المتوسط للكارثة القائمة في قطاع الصحة في مصر.

ولذا فأفضل المتاح ما يلي:

1. من يرد السفر والهجرة، فعليه بإسراع الخطى، لأنه مع تصاعد الأزمات التي تم ذكرها، ستزداد المهمة صعوبة، ويتبدد الحلم أسرع. فإذا كان في مقدورك السفر هذا الشهر، فلا تتراخى إلى الذي يليه، وإذا كان في مقدورك السفر هذا العام، فلا تؤجله إلى التالي، وإلا قد تؤجله للأبد. وحدد أقرب هدف يناسبك، فرفاهية التشتت لن تكون متاحة، مثلا تريد ألمانيا، ركز وقتك ومالك على تعلم اللغة والترقي في مستوياتها، واحصل على التأشيرة وارحل.

أو تريد أمريكا، فأسرع في النفاذ من امتحانات المعادلة ولا تكثر التأجيل إلا لضرورة. وليس أفضل من سنوات الدراسة الأخيرة وسنة الامتياز والتكليف لتجد الوقت والجهد لتقوم بهذا. لأن سنوات الجيش والنيابة غير مأمونة بتاتا.

2. من لا مفر لهم إلا البقاء، فعليهم بالتدرب على الصبر وطول البال، والبحث عن نوايا نبيلة تخفف من وطأة ما يرون من مآسٍ يومية. وعليهم إحياء العمل النقابي، والتجمع تحت مظلته على أهداف وحراك ترفع من مستوى الأطباء مادياً ومعنوياً، وتحاول أن تخفف ولو جزءاً بالمائة من عفن المنظومة البالية.

وعسى أن يكون بعد المحنة منحة.