اعتدل البائع في وقفته، وحك رأسه، وقال بثقة وسخرية: «مصر دولة كبيرة، ولا تكفيها تجربة تعليم واحدة مثل بقية الدول، إنما تحتاج إلى كوكتيل تجارب». وعندما عاد السيد المسئول إلى مكتبه بالوزارة خرج علينا ليعلن أن الوزارة بدأت في تطبيق التجربة اليابانية في التعليم، والتي نقلت اليابان لمصاف الدول المتقدمة، ولم يكتف بذلك بل أعلن -متأثرًا ببائع الكوكتيل- عن مراجعة لكل المناهج التعليمية، ومقارنتها بالمناهج فى دول فنلندا وسنغافورة وكندا وإنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية!.


«الفخفخينا» أفسدت التعليم المصري

لا يوجد دولة فى العالم حريصة على الاهتمام بتطوير التعليم تسمح بعشرة أنواع مختلفة من تجارب التعليم دون وعي سوى مصر. فهناك التعليم العام الحكومي والتجريبي والمعاهد القومية والتعليم الخاص والفني والأزهري والدولي (الفرنسي والألماني والإنجليزي)، وحديثًا التعليم المتميز الدولي الحكومي، ومع كل ذلك لا يحدث أي تقدم حقيقي لمصر.

وفي حين تخصص وزارة التربية والتعليم مبلغ مليار جنيه للإنفاق على التطوير التكنولوجي، إلى جانب أموال المنح الدولية والمجتمع المدني الداعم لهذا الجانب، إلا أن التعليم والتكنولوجيا في مصر يظلان «قطبين متنافرين». ويكمن السر في عدم إدخال التكنولوجيا إلى المدارس في أن من يشغلون مواقع المسئولية التعليمية ليس لديهم الدراية الكافية بالنظم التعليمية التكنولوجية، فمثلًا مدير إحدى الإدارات التعليمية يعمل محققًا قانونيًا، وهي وظيفة نوعية لا تتلاءم مع العملية التعليمية، وهناك وكيل أول وزارة للتعليم الثانوي يعمل أخصائيًا اجتماعيًا، ولم يدخل فصلًا دراسيًا فى حياته، وبقية القائمة لاتختلف كثيرًا.

ومن الفخفخينا المصرية نسوق لك أربع تجارب فقط، نجحت في دول وارتقت بها، لكنها فشلت في مصر.


«البكالوريا»: محاولة لضياع الهوية

التجربة: مدارس البكالوريا الدولية تجربة فريدة من نوعها، كانت ستضع مصر على قمة الهرم في المنظومة التعليمية العالمية، حيث سيطبق فيها التعليم الدولي لأول مرة في بيئة محلية مصرية وبجودة عالمية.

تهدف مدارس البكالوريا إلى إعداد فرد يفكر بعقلية دولية منفتحة ويتمكن من التأثير في الفكر الإنساني.

وتهدف مدارس البكالوريا إلى إعداد فرد يفكر بعقلية دولية منفتحة، ويتمكن من التأثير في الفكر الإنساني، واكتساب المهارات، والاعتماد على النفس، وإجادة مهارات التفكير الناقد والمبدع، والتعامل مع المواقف بشجاعة وتدبر وبشخصية مستقلة، وإدراك التوازن الفكري والجسدي؛ لتحقيق الخير والسعادة.

وتعتمد التجربة على توفير سبورات ذكية، وأجهزة عرض ومعامل، وحجرات للوسائل متعددة الأغراض، ومكتبة مزودة بالحاسب الآلي، والالتزام بالكثافة المحددة وهي 25 طالبًا بالفصل، والاعتماد على طرق تربوية مبتكرة.

الفشل: فُرض هذا النوع من التعليم دون طرحه للمناقشة بين الخبراء لفحص مستواه وأهدافه، والذين أجازوه ليسوا متخصصين، بل إن بعضهم من خارج ميدان التعليم، كذلك اقتصرت التجربة على مدرستي «البكالوريا» الدولية بالشيخ زايد والمعراج بالمعادي، بعد أن كان مخططًا إنشاء مدرسة في كل إدارة تعليمية، بإجمالي 278 مدرسة.

يضاف إلى ذلك عدم تحديد نوعية المناهج الدولية المفروضة، ومدى ملاءمتها لطبيعتنا وشرقيتنا وديانتنا؛ مما قد يغير المفاهيم، ويُنتج أجيالا معدومة الولاء لبلدها وأهلها، ويفتح الباب أمام هيمنة الخارج على فكرها وثقافتها، كما أن وضع المدرسة لمدة 14 عامًا تحت إشراف غير وطني هو قرار مريب.

كما أن تطبيق هذا النظام يعمق فكرة الطبقية؛ فهناك من يقدر على دفع مصروفات تتعدى 40 ألف جنيه، وآخرون لا يجدون رفاهية الالتحاق بأقل مدرسة حكومية، فتتولد بذور الكراهية في هذا التمييز بين أبناء الفقراء وأبناء الأغنياء.


التعليم الإلكتروني: إدمان مقنّع

التجربة: لأن التعليم الإلكتروني يخفف العبء عن كاهل الدولة، ويتيح التعليم لعدد من الطلاب، مع تقليل حجم الإنفاق عليهم_ تم إنشاء الجامعة المصرية للتعليم الإلكتروني كأول جامعة مصرية تتبنى مبدأ التعليم الإلكتروني في تقديم الخدمات التعليمية، وتعمل على إمداد سوق العمل بعناصر ذات مهارات عالية، ومتمكنة من التعامل مع التكنولوجيات الحديثة، وعلى دراية بأحدث ما وصل إليه العلم في مجالات التخصص؛ لتلبية الاحتياجات المستقبلية للمجتمع والصناعة.

يكسب الطالب في نظام التعليم الإلكتروني مهارات الاتصال والبحث عن المعلومة والمعرفة، بالإضافة إلى مهارات العرض.

ويكتسب الطالب في هذا النظام مهارات استخدام التكنولوجيا الحديثة، ومهارات الاتصال والبحث عن المعلومة والمعرفة، بالإضافة إلى مهارات العرض، وعلى هذا يصبح الطالب محور العملية التعليمية، بعكس النظم التقليدية للتعليم، التي تجعل المدرّس هو محور العملية التعليمية. كما أن هذا النظام يُكسب الطالب المعارف والمهارات التي تؤهله وتزيد من فرص التحاقه بسوق عمل تنافسي وعالمي.

وتعتمد التجربة على نظام تعليمي متكامل، تمتزج فيه عناصر التعليم الإلكتروني والتعليم عن بعد مع الدراسة وجهًا لوجه، عن طريق: محاضرات وفصول دراسية مباشرة، وفصول دراسية افتراضية باستخدام تكنولوجيا الاتصالات، ومؤتمرات الفيديو المرئية، والتعلم الذاتي من خلال شبكة “الإنترنت”.

الفشل: لم تُطبق هذه التجربة إلا في الجامعة المصرية الإلكترونية، واستفاد منها عدد قليل من الطلاب؛ بسبب الخلل في تطبيقها، وبعض التحفظات عليها، حيث تعليميًا: يواجه بعض المتعلمين صعوبة في التعبير عن آرائهم وأفكارهم كتابيًا، ويفضلون التعبير الشفوي الذي اعتادوه في دراستهم، كما أن عدم المواجهة البشرية في التعليم، وقراءة الأفكار وتعبيرات الوجه، أمور لها أثر سلبي في صقل الخبرة.

أما أخلاقيًا: فتلاشي التقدير والاحترام للمعلمين؛ لكونهم تحولوا إلى «لاعب ثانوي» في العملية التعليمية، كذلك يمكن من خلال الإنترنت بث كثير من المعلومات المشككة في العقائد الدينية، كما تتوافر على الشبكة مئات من المواقع الإباحية التي تدمر العديد من القيم الأخلاقية. واقتصاديا: ارتفاع تكلفة الإنتاج والصيانة، وضعف البنية التحتية من الأجهزة وشبكات الاتصالات الحديثة، فضلًا عن ارتفاع التكلفة بالنسبة للفرد، سواء من حيث شراء الأجهزة والبرمجيات أو من حيث الاتصال بشبكة الإنترنت.

بينما اجتماعيًا: يفتقد الطالب كثيرًا من مهارات التواصل الاجتماعي، والثقة بالنفس في المواجهة والتواصل مع الآخرين؛ فهو لم يمارسها ولم يتعلمها أثناء تعامله مع التطبيقات الإلكترونية، فضلًا عن حدوث ظاهرة الإدمان الإلكتروني التي تجعل الطالب منعزلًا عن بقية أفراد أسرته.


مشروع «تايلو»: التعليم عن بعد غير موجود بالخدمة

التجربة: مشروع «تايلو» (TILO)، الذي اقترحته الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID). يعد تطبيقًا عمليًا للاتجاه الرامي إلى استخدام الوسائط المتعددة؛ بهدف ترسيخ التكنولوجيا، مع توفير الحاسبات الآلية للمدارس، وإدخال شبكة الإنترنت؛ لتحقيق عملية التعليم عن بعد من خلال شاشة معينة، سواء كان ذلك من خلال دائرة «الفيديو كونفرانس»، أو من خلال شبكة الإنترنت، أو القنوات التلفزيونية التي تقدم برامج تعليمية.

ويكون التعليم عن بعد ضروريًا فى تعليم الطلاب في المناطق التي يصعب فيها حضور الطلاب وجهًا لوجه مع معلمهم، كما أنه يوفر كثيرًا من الوقت والجهد والمال الذي يُنفق في طباعة الكتب المدرسية، كما يجعل المعلم قادرًا على طرح الموضوع على جميع طلابه، ومشاركتهم فيه عبر الشاشة، ويشعر كل طالب أن الدرس موجه له هو فقط، فضلًا عن ارتباط هذا النوع من التعليم بالمناهج الإلكترونية، التي تساعد الطلاب في الاستذكار والمراجعة؛ لأن الطالب يستطيع استرجاع دروسه أكثر من مرة، من خلال جهازه الإلكتروني.

الفشل: نجحت هذه التجربة في كل الدول المتقدمة؛ لأن تلك البلاد تمتلك الوعي والثقافة، في حين أننا _في مصر_ نفتقد إلى هذا الوعي، كما أننا متأخرون جدًا فى عملية تطوير التعليم في المدارس والجامعات.

إلا أن السبب الرئيسي في عدم نجاح التجربة يتمثل في مشكلة كثافة الفصول؛ لأن هذه الأنماط التعليمية ترتبط بأعداد قليلة من المتعلمين؛ حتى يستطيع المعلم التفاعل معهم بشكل إيجابي. كما أن عدم توافر المعامل وتكنولوجيا التعليم والمعلمين المتدربين يعد عائقًا أكبر أمام نجاح تلك التجربة، فضلًا عن أن برامج التعليم عن بعد في مصر محدودة؛ لأن ثقافة التعليم عن بعد لم تأخذ بعد الحيز المطلوب، ولا زلنا معتادين على التعليم وجهًا لوجه، كما أنها تحتاج إلى إمكانيات ضخمة وإمكانيات تفاعلية بين المُحاضر والدارس، وتحتاج إلى تدريب للمعلم والمتعلم على حد سواء على استخدام تلك التقنيات، والعائق أمام تنفيذ تجربة كهذه هو غياب كفاءة المتدربين، ونقص الإمكانيات المادية التي تحتاجها؛ نتيجة لقلة مخصصات التعليم بالموازنة المصرية.


التابلت المدرسي: البيع أربح من الدراسة

التجربة: قامت وزارة التربية والتعليم بتوزيع تابلت مشتمل على المناهج الدراسية؛ لاستخدامه كبديل عن الكتاب المدرسي، فيتمكن الطالب من استقبال محتوى الكتب المدرسية على لوحه الإلكتروني، وحل واجباته المنزلية عليه، وأداء امتحاناته أيضًا، ويصححها المعلم عبر شبكة بينه وبين الطلاب، ويرسل تقريره بالنتيجة إلى ولي الأمر على هاتفه الذكي بعد لحظات.

الفشل: التجربة تحتاج إلى ميزانية تضاهي نصف ميزانية التعليم في مصر، كما أن تجربة التابلت المدرسي أثبتت فشلها؛ لعدم تدريب المعلمين على استخدامه بالشكل الأمثل، إلا مع بداية تطبيق التجربة فقط، دون أن تنظم الوزارة تدريبات أخرى للمعلمين، كما أن العديد من الطلاب داخل المدارس أقدموا على بيع الأجهزة، والاستفادة من ثمنها، خاصة أن الوزارة قررت تسليمهم كتبًا مطبوعة، إضافة إلى أن بعضهم يستخدمه للتسلية، وتحميل مقاطع الأغاني، وتصفح المواقع الإباحية!.

يضاف إلى ذلك أن أجهزة التابلت التي تم توزيعها تتعطل باستمرار، فضلًا عن السقوط المتكرر للمناهج من الأجهزة، كما أن الطلاب يعانون من عدم وجود وصلات إنترنت، ووصلات كهرباء لشحن البطارية.


تكاليف الفشل

يوفر التعليم عن بعد كثيرًا من الوقت والجهد والمال، ويُشعر كل طالب أن الدرس موجه له هو فقط مما يربطه بالتعليم أكثر.

بعد كل هذه التجارب التي فشلت أو بمعنى أدق أُفشلت، يتبقى أن نحسب ثمن «المشاريب». وتفصيلها بالنسبة لمدارس «البكالوريا»، بلغ إجمالي التكلفة لمدرسة واحدة من المدرستين التي طُبقت بهما التجربة، وهي مدرسة المعراج بالمعادي، نحو 3,8 مليون جنيه مصري. أما التعليم الإلكتروني، فشل المشروع وكلف مصر ضياع 290 مليون جنيه مصري.

فشل تجارب التعليم المختلفة في مصر كلفها أكثر من 2 مليار جنيه مصري دون أية فائدة حقيقية.

ومشروع «تايلو»، رُصدت له ميزانية حوالي 5 مليون دولار من «الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية». أما التابلت المدرسي، أُهدر حوالي 84 مليون جنيه مصري، وهي تكلفة شراء التابلت، من إجمالي ميزانية رُصدت لهذا المشروع بلغت 400 مليون جنيه، بالإضافة إلى إهدار قرابة 1,3 مليار جنيه للطباعة، تم صرف 900 مليون جنيه منها على الكتب الدراسية، التي طبعت عوضًا عن التابلت، في الوقت الذي كان من المفترض أن يوفر التابلت هذا المبلغ.

«لا يستخدم إلا تحت إشراف طبيب متخصص»، عبارة طبية تجدها مكتوبة على معظم الأدوية، كما أنها نصيحة طبية مهمة لكل الناس، سوى المصريين بالطبع.

ويؤكد الأطباء أنه كلما ازداد استخدام الشخص للمضادات الحيوية، ازداد احتمال أن تتمكن الجراثيم من مقاومتها، كذلك إذا اختلطت المضادات الحيوية فإن التفاعلات الدوائية لموادها تأتي -غالبًا- بتائج سلبية إلا عند المصريين بالطبع أيضًا. هذه المعلومات الطبية البسيطة كانت كفيلة بتوفير أكثر من 700 مليون جنيه مصري، أنفقتهم وزارة التعليم على 4 تجارب تعليمية فقط.

المراجع
  1. البكالوريا الدولية (مصر).
  2. الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) مصر.
  3. الأهرام: بعد تجربة تطبيقها في 3 مدارس "البكالوريا" تحت التقييم.
  4. فيتو: أشرف الشيحي: تجربة الجامعة الإلكترونية فشلت.
  5. اليوم السابع: معاون وزير التعليم الأسبق: نموذج مدارس البكالوريا الدولية يواكب التطورات العالمية.
  6. فيتو: خبراء: تجربة التعليم عن بعد في مصر فاشلة
  7. اليوم السابع: مصدر: الطلاب بدأوا فى بيع أجهزة "التابلت" بعد فشل التجربة.
  8. اليوم السابع: تطبيق منظومة التابلت فى 13محافظة بإجمالى 250 ألف جهاز بـ400 مليوم جنية
  9. أخبار البورصة: 400 مدرسة مصرية تشارك فى مشروع التكنولوجيا وتحسين الآداء التعليمي
  10. روز اليوسف: الآي باد والتابلت بدلاً من شنطة الكتب.