في مكان ما من العالم هناك نظام قمعي يعاني الناس بكل الطرق معه، اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، في مكان آخر، الأمور مختلفة تمامًا وهناك رخاء ورفاهية لا توصف، لكن بلا دفء إنساني. والمشهد الثالث هو لعالم مليء بالأضواء والمسابقات والدعاية المبهرة بلا محتوى حقيقي، والجماهير تهتف بجنون لبطلة تليفزيون واقع – كارداشيان أو من شابهها – أو مباراة لإحدى الرياضات. الآن، لقطة أخرى لجمهور يتابع خطبة لسياسي ما يحمسّهم بأنه سيمزق المخالفين له تمزيقًا، فيهتفون بحياته وحياة الحزب وينتخبونه بأغلبية ساحقة رغم الأصوات العاقلة التي تندد بما يحدث.

لا يبدو تصوّر هذا صعبًا؛ صحيح؟ لكنني في الحقيقة لم أكن أتكلم عن حاضرنا المشتعل، بل كنت أصف مشاهد من عدة روايات تندرج تحت نوع أدبي يعرف بـ «الدستوبيا»، كُتبت منذ قرن أو أقل، لكنها كانت أشبه بالنبوءات. وللأسف، فإن نجاح الروايات في التنبؤ بهذه الدقة يعني شيئين، أولًا، أن العالم يصير إلى الأسوأ، وأن الأدباء كانوا محقين في تشاؤمهم، وثانيًا، أن كُتَّاب الخيال العلمي هم متنبئو العصر الحديث.

لطالما تكلم البشر عن المدينة الفاضلة/اليوتوبيا، منذ بدء التاريخ الفكري تقريبًا. مدينة أفلاطون الفاضلة كانت أول تصور للمدينة المثالية، ثم صاغ توماس مور المصطلح في القرن السادس عشر، اليوتوبيا، أو الطوبيا، وتوالت التصورات الأدبية والفلسفية التي تصف اليوتوبيا التي يعيش فيها البشر بسلام ويتمتعون بالسعادة والرخاء. لكن هناك نوعًا آخر من القصص وجد طريقه إلى الأدب في وقت متأخر نوعًا ما، وهو قصص الديستوبيا.

وقصص «الديستوبيا Dystopia» – أي نقيض اليوتوبيا – تتحدث عن المستقبل، لكن على عكس اليوتوبيا، تقدم الديستوبيا تصورًا مظلمًا جدًا سيفقد البشر فيه الكثير، حريتهم، مشاعرهم، مواردهم، أو ربما على العكس، يسود الرخاء الظاهري – يوتوبيا – لكن هناك انحطاطًا كارثيًا في جانب من جوانب الحياة. وتحكمهم في الغالب حكومة شمولية أو طبقة مسيطرة تحرص على أن يكون هناك خواء تام ومحو للفردانية والتعاطف وأي مشاعر بشرية أخرى. الدستوبيا تهدف لاستشراف المستقبل، لتحذيرنا من ظواهر قائمة بالفعل قد يؤدي عدم اتخاذ موقف أخلاقي وعملي حيالها إلى تحولها لتلتهم عالمنا بكامله والأسوأ أننا لن نشعر بهذا.

وهي من أكثر الأنواع رواجًا بين أنواع الخيال العلمي، فهي تثير الحماسة والرعب أحيانًا، بالإضافة إلى أنها غالبًا تجمع بين نوعين أو أكثر من الأدب، الخيال السياسي والخيال العلمي. وتوظّف للنظريات العلمية مع نظرة نقدية للأخلاقيات التي تصاحب التقدم وما يفرضه من مستجدات.

ويجب أن نفرق بين الديستوبيا وبين نوع آخر من أدب الخيال العلمي السوداوي، ألا وهو أدب «نهاية العالم Apocalypse» الذي يختص بكارثة هائلة، مثل الكوارث الطبيعية والبيولوجية أو الحروب النووية. الديستوبيا لا تصف نهاية العالم، إنما نهاية الإنسانية. العواطف البشرية، الحرية، الاختيار والتسامح، وهذا مرعب حقًا في زمننا الحالي لأننا لسنا في حاجة لروايات دستوبية لتخبرنا بهذا، فنحن نعيشه بالفعل.


موجة الديستوبيا الأولى: الثورة الصناعية

تعتبر أول رواية دستوبية يمكن الرجوع إليها هي رواية الأديب الإنجليزي جوزيف هول «العالم الآخر والعالم ذاته Mundus alter et idem» التي نُشرت عام 1607م، وهي تصف عالمًا مستقبليًا مقسمًا إلى مقاطعات تعبر كل منها عن رذيلة من رذائل البشر.

لكن موجة الكتابة الموسعة عن الديستوبيا بدأت مع الثورة الصناعية في أوروبا وظهور طبقة العمال الذين يعيشون ويعملون في أسوأ ظروف ممكنة، وتزداد الهوة اتساعًا بينهم وبين الطبقة الأرستقراطية المُرفهة، مما دفع بالكتاب إلى التخلي عن أحلامهم الوردية بمستقبل أفضل، أكثر رخاءً وسعادة بفضل التكنولوجيا، وتوقُّع العكس تمامًا.

كانت البداية مع رائعة ويلز «آلة الزمن». من الأعمال الأخرى الشهيرة لهذه الفترة، رواية «باريس في القرن العشرين» لرائد الخيال العلمي الفرنسي جول فيرن، و«جمهورية المستقبل» لآنا باومان، و«العقب الحديدي» لجاك لندن.


الموجة الثانية: دستوبيا ما بعد الحرب

أدت الحرب العالمية الأولى، وتلتها الثانية، إلى فقدان الكُتاَّب الأمل في مستقبل البشرية، وصاحب هذا يأس مماثل في الفن والأدب والفلسفة فظهرت النزعات الوجودية والعدمية، وكانت هذه المرحلة هي مرحلة ازدهار الكتابات الديستوبية. وتميز كتاب هذا الجيل بالتشاؤم الشديد بشأن المستقبل. من هؤلاء: راي بردابوري، آرثر كلارك، وروبرت هاينلاين.

ولا تنفك الكتابة تزدهر في ظل هذه الحال من الفوضى التي يتخبط فيها العالم بحيث تبدو أي محاولة للكتابة عن مستقبل مشرق محطًا للسخرية. لدينا حاليًا مارغرت آتوود، أنتوني بيرغس، ويليام غيبسون، سكوت ويستفيلد، وفيرونيكا روث وسوزان كولِنز – صاحبتا «الجامحة Divergent» و«ألعاب الجوع The hunger game» اللتان تحولتا لفيلمين شهيرين كمعظم روايات هذا النوع؛ هذا غير الانتشار الواسع في ألعاب الفيديو والقصص المصورة وغيرها.

عادة لا تنجح قوائم التوصية في الإلمام بكل الأعمال الهامة، لكن فيما يلي ثمانٍ من أشهر وأهم القصص التي تناولت مستقبل البشر الديستوبي، وهناك بعضها في قوائم أعظم الأعمال الأدبية في القرن العشرين.


1. آلة الزمن (1895) The Time Machine

لا يمكننا تغطية كل جوانب هذه الرواية التي كتبها البريطاني العظيم هـ. جـ. ويلز، فهي من أوائل الروايات التي تناولت فكرة المستقبل المظلم نتيجة للتقدم الصناعي واتساع الهوة بين الطبقات، إضافة إلى حبكة السفر عبر الزمن التي تعتبر سبقًا في القرن التاسع عشر.

فكرة الرواية بسيطة. يسافر البطل للمستقبل عن طريق آلة زمن، ليجد عالمًا شديد القسوة، تحولت فيه الطبقات الأفقر إلى جنس متوحش «المورلوك» الذي يقوم باصطياد الجنس المرفه الخامل «الإيلوي» الذي كان يمثل الطبقة الغنية. جاءت الرواية لتحذر من الفارق الطبقي ومن ظروف العمل القاسية التي تواجه العمال في مصانع لندن القذرة المكتظة.

كان تأثير نظرية ماركس واضحًا؛ ففي ظروف لندن في القرن التاسع عشر، طور ماركس نظريته عن الاشتراكية والثورة. كما أنها جاءت متأثرة بنظرية داروين التي كانت حديث الساعة. من نافلة القول أن هذه الرواية قد أثرت في معظم روايات الدستوبيا التي تلتها. إنها بحق دستور الدستوبيا أو الرواية الأصلية الـ prototype.


2. العقب الحديدي (1908) Iron Heel

للأديب الأمريكي جاك لندن، وهي تتميز بجمعها بين الخيال العلمي والأدب السياسي. فجاك لندن كان اشتراكيًا مخلصًا، شديد التأثر بأفكار ماركس. تتحدث الرواية عن عالم مستقبلي، يثور فيه المضطهدون والعمّال ضد طبقة طاغية–أوليغاركية تتحكم بالسلطة وأساليب هذه السلطة الوحشية في مواجهة الثورة.

والرواية تعتبر أدبًا سياسيًا فهي لا تناقش التطور التكنولوجي أو أي اختراعات مستقبلية، بل تركز على الآثار السياسية والاجتماعية. ويحمل لها المثقفون ذوي الميول الاشتراكية تقديرًا كبيرًا، فهي أول رواية تصور حتمية انتصار الاشتراكية وانهيار الرأسمالية. وهي، وإن نراها حالمة ورومانسية في وقتنا، كانت تثير الحماس الشديد وقتها.

الجديد في الرواية غير حبكتها المبتكرة هو أن الشخصية الرئيسية امرأة، ولم يكن هذا مألوفًا في نهاية القرن التاسع عشر، أن تكون هناك بطلة لكاتب رجل. بطلة الرواية هي زوجة لرجل يناضل ضد السلطة الرأسمالية. وقد نتج أخيرًا عن الصراع انتصار العمال ووصولهم للحكم ثم سحق المعارضين – يمكننا أن نرى التماثل بين ما حدث بعد انتصار العمال في الرواية، وبين ما حدث في النظم الاشتراكية الحقيقية – وكأن الرواية كانت كتيّب تعليمات لهم.


3. نحن (1924) We

هذه الرواية التي كتبها الروسي الموهوب يفيغني زامياتين هي الأولى من صف طويل من الروايات التي تنتقد الأنظمة الشمولية، ويمكننا أن نجد صداها واضحًا جدًا في «1984» و«451 فهرنهايت». لأول مرة نجد نقد فكرة النظام الذي يتحرك تبعًا لأيدولوجيا صارمة. في زمن كان فيه العالم يسير نحو اعتناق الأيدولوجيا/ يحذرنا زامياتين في وقت مبكر جدًا أن الأيدولوجيا قد لا تكون هي الحل لأنها تقوم ببساطة بنزع تميّز الناس وحرية اختيارهم كي ينسجموا مع التعاليم الموحدة التي يقرها النظام.

كتب زامياتين الرواية بعد الثورة البلشفية وسيطرة النظام الحاكم سيطرة مطلقة على روسيا، مع العلم أنه كان ثوريًا مخلصًا حتى أنه ترك أوروبا وعاد إلى روسيا بعد الثورة؛ لكنه أصيب بخيبة أمل كبيرة. فالأيدولوجيا التي كانت مثالية نظريًا، لم تكن كذلك على أرض الواقع، وقامت السلطات بمنع الرواية في الاتحاد السوفييتي.

تدور الرواية في بلد مستقبلي يخضع فيه الأفراد لمراقبة لصيقة، وجدران البيوت زجاجية شفافة، يتبع الناس نمطًا واحدًا في الغذاء ويرتدون زيًا موحدًا، ولم تعد هناك أسماء بل أرقام، وتخضع الدولة لحكم شخص واحد هو «المحسن الكبير» (يمكننا أن نرى بوضوح صدى هذا المحسن في أخ جورج أورويل الأكبر).

البطل هو شخصية مخلصة تمامًا للنظام، مهندس يساعد في بناء مركبة ستسافر للعالم الخارجي كي تنشر الدعوة لتطبيق النظام الحاكم، لكن قناعاته تتغير عندما يقع في حب امرأة، سيعرف لاحقًا أنها تنتمي لجماعة سرية تعادي النظام وتحاول إقامة سلطة أقل تحكمًا وأكثر إنسانية. يدرك البطل ما كان غافلًا عنه، ويقرأ عن زمن كانت تعيش فيه الناس دون قوانين إلزامية ونظم، وبعد أن يستغرب كيف كان الناس يعيشون دون قوانين، يدرك أن هذه الحياة، رغم فوضويتها، هي الحياة الحقيقية .


4. عالم جديد شجاع (1932) Brave New World

رواية ألدوس هكسلي الشهيرة التي تتحدث عن عالم مثالي للغاية من الخارج وبرّاق وسعيد، حيث لا ألم أو مشاكل، الكل يتمتع بالموارد والانفتاح الأخلاقي والاستقرار، ينقسم البشر في طبقات تتدرج من «ألفا»، الطبقة العليا الأكثر ذكاء وجمالًا، حتى «إبسلون» الأقل في كل شيء، وبينهما توجد «بيتا» و«جاما» و«دلتا»، ولكل طبقة خصائصها التي اكتسبتها أولًا بالتحكم الجيني، ففي هذا العالم لا يوجد آباء وأمهات، بل حاضنات إلكترونية تخرج الأجنة بعد تعرضها لظروف معينة من الغذاء والأكسجين بحيث تجعلها مناسبة لطبقتها. بعد التحكم الجيني يأتي التدريب المخصص لكل طبقة كي تناسب وظائفها فيما بعد وهي سعيدة وراضية بدورها. تعلمهم التدريبات أيضًا أن يكرهوا الكتب والزهور.

ويتم إعطاء كل الفئات أقراصًا منتظمة (أقراص السوما) لها تأثير مخدر ومهدئ وتجلب اليوفوريا أيضًا، توزعها السلطات وأدمنها الناس بشكل يجعلهم خاضعين تمامًا للسيطرة. لكن رغم كل هذه السعادة الظاهرية، يمكننا أن نرى بسهولة أن البشر فقدوا أهم شيء، وهو اختيارهم الحر وعواطفهم؛ فالعاطفة ممنوعة، فقط العلاقات الجسدية متاحة وبوفرة، لكن الحب فلا.

الشخصيات الرئيسية في الرواية ثلاثة. رجل وامرأة من «الفئة ألفا»، الرجل يشعر بالغرابة والتمرد على المجتمع، والمرأة منتمية تمامًا لهذا العالم المثالي، يزوران معسكرًا بدائيًا، تسير فيه الأمور على نحو ما كانت منذ قرون، بشر طبيعيون ولدوا من أب وأم، حيث يلتقون بـ «جون» البدائي الذي سرعان ما يجعلهم يكتشفون أن الحياة التي يحيونها هي حياة مزرية، وأن كل شيء في عالمهم مزيف، وأن مواطنيهم آلات بلا إرادة حقيقية، تقودهم السوما الذي وصفها قائد العالم لجون مرة بأنها «كالمسيحية، لكن بلا دموع».

الرواية بلا شك تعتبر فتحًا في عدة مجالات: الأدب السياسي، التقسيم الطبقي، الاستنساخ، اليوجينيا، وحتى طرق التعليم والسيطرة على الجموع. تم اختيارها من أفضل مائة رواية في القرن العشرين، وهي قطعًا تستحق، ويمكننا أن نرى أثرها في روايات عدة، منها «الجامحة Divergent» التي تتحدث عن عالم تنفصل فه حيوات الفصائل ذات الوظائف المختلفة كي لا يحدث بينهم تناحر، و«الواهب The Giver»، للويس لوري، التي يتم فيها تحييد كل شيء عن طريق أدوية معينة، المشاعر والماضي وحتى الألوان، كي يسود السلام ولا يحدث تباين يؤدي إلى صدام.


5. 1984 (1949)

دُرة روايات الدستوبيا – لو كان لنا أن نقول هذا – وأشهر سَنة في التاريخ. عالم قمعي شمولي شديد البؤس وشديد الخطورة. انقسم العالم لثلاث قوى. تدور القصة في أوشيانيا حيث لا توجد سوى سلطة واحدة، الحزب. والحزب يملي على الناس ماذا يفعلون، ماذا يأكلون، كيف ينظمون يومهم، وأهم شيء: كيف يفكرون، أو كيف يتوقفون عن التفكير بالأحرى. وتسود هذا العالم قوانين ثلاثة تمثل المصطلح الذي أدخله أورويل إلى الإنجليزية «التفكير المزدوج» حيث يمكنك أن تؤمن بالشيء ونقيضه في نفس الوقت دون أن يشكل لك هذا أي عقبة معرفية أو ضميرية: الحرب هي السلام، الحرية هي العبودية، الجهل هو القوة.

الحزب هو الذي اخترع كل شيء، والحزب هو الذي يملك كل المعلومات وكل وسائل الإعلام، لذا فهو يتحكم في الحاضر. ولأنه يملك القدرة على التزييف، فإنه يتحكم في الماضي أيضًا، والمستقبل. الناس يعيشون في ظروف اقتصادية سيئة رغم العمل الكثير، فحالة العوز هي أفضل لاستقرار المجتمع، واقعين تحت سيطرة الحزب تمامًا بحيث لا يذكر أي أحد الماضي الذي تم تغييره، ويكتفون بالمعلومات التي يتلقونها من الحزب، ويعدون التفكير جريمة. ويحكم الحزب شخصية أسطورية لا تظهر أبدًا لكننا نرى ملصقات لوجهه في كل مكان: «الأخ الأكبر يراقبك».

البطل، ونستون الذي يعمل في وزارة الحقيقة – مكافئة لوزارة الإعلام – يذكر أنه كان هناك تاريخ قبل الحزب، يقاوم طويلًا أفكاره الهدامة، لأن البشر في هذا العالم مراقبون طوال الوقت، ويُحذر على أي إنسان قضاء وقت بمفرده أو مع آخرين في غير أنشطة تخدم الحزب.

طبعًا، لا داع للقول أن القراءة محرمة تمامًا، وكذلك العواطف، الحب والصداقة والأسرة، فكل العواطف يجب أن تكون موجهة لحب الأخ الأكبر وكره الأعداء في الداخل – الذين يسعون لتخريب الحزب – والخارج، حسب قرار الحزب، فهو دائمًا يبدل بين التحالف والحرب مع القوتين العظميين الأخريين. يستسلم وينستون لأفكاره بعد مقابلة جوليا، ويقرر الثورة والانضمام لجماعة الأخوة التي كان يعتقد أن الحزب اختلقها فقط ليوجه حماسة الناس نحو هدف ما ينسيهم الانحدار المعيشي. يُكشَف أمر وينستون وجوليا، ويجد أنه كان مراقبًا منذ سبع سنوات من قِبَل شرطة الأفكار ويُعاقَب بأسوأ عقاب ممكن. تنتهي الرواية نهاية غير متوقعة لكنها واقعية جدًا.

هذه الرواية تحتاج لمجلدات للحديث عنها. هي دستور لكل حاكم شمولي قديم أو حديث. وربما يكون أورويل قد كتبها متأثرًا بالأنظمة الشمولية في الاتحاد السوفييتي وألمانيا× لكنها لا تنفك تثبت كل يوم عبقرية واستبصار كاتبها فيما يتعلق بالسياسة والإعلام والجماهير. تم اختيارها من أفضل مائة رواية في القرن العشرين، ولو كان الأمر بيدي لوضعتها في قائمة أفضل عشرين رواية وأفضل عشر أيضًا.


6. 451 فهرنهايت (1953)

راي برادبوري يصف عالمًا مثاليًا كعالم هَكسلي، موارد متوافرة وتكنولوجيا ورخاء، لكن القراءة ممنوعة، وعقوبة القراءة ليست الغرامة أو السجن، بل حرق الكتب وحرق البيت الذي يحتويها عن طريق رجال الإطفاء الذين تقتصر مهمتهم في هذا العالم المتطور على الحرق.

جاي مونتاغ هو جزء من النظام، بل هو أحد رجال الإطفاء، يقوم بعمله بحماس لكنه يفتقد شيئًا ما في العالم البرّاق حوله، في علاقته السطحية بزوجته التي تشاهد التلفاز ليل نهار، في الكتب التي يحرقها والتي يفضل أصحابها أن يُحرَقوا معها. لا بد أن هذه الكتب تحتوي على شيء ما يدفع الناس للموت بهذه الصورة. تدور الأفكار في رأسه لكن الدفعة الأخيرة تأتي من جارته الشابة الرقيقة وتساؤلاتها البديهية وتأملها للعالم.

يقرر مونتاغ القراءة ويكتشف في رعب أنه كان يقضي على تراث البشرية بناره في لحظات، ويدرك أن كل ما كان يتلقاه على هيئة «معلومات قيمة» هو هراء، فالسلطة لا تريد للبشر أن يفكروا بعمق، ولذلك تمنع دراسة الأدب والعلوم الاجتماعية، لكنها تشجع المعلومات السطحية كما كان رئيس مونتاغ يخبره:

أعطهم مسابقات يربحون فيها إذا تذكروا أسماء الأغاني، وعواصم الولايات، وكم من القمح أنتجته «أيوا» العام الماضي. حاول أن تحشوهم بالحقائق سريعة الاحتراق حتى يشعروا أنهم أذكياء.

كتب برادبوري هذه القصة منذ أكثر من ستين عاما لكنها من أكثر الروايات انطباقا على حاضرنا، السطحية الشديدة، الانغماس حتى النخاع في عالم الدعاية والإعلام ووسائل الاتصال وفقدان كل الروابط الإنسانية والتعصب المجنون، ادعاء الثقافة وحشو المعلومات. لا أصدق أن هذه الرواية مكتوبة فقط من خيال راي برادبوري، التفسير الوحيد المقبول لديّ أنه كان لديه آلة زمن أو أنه كان يملك قوى استبصارية من نوع ما جعلته يرى المستقبل – مستقبلنا – بهذه الدقة الحرفية. لكنه يعطينا الأمل أن الأدب يمكنه فعلا أن ينقذ العالم.


7. البرتقالة الآلية (1962) Clockwork Orange

رواية أنتوني برغس التي تحولت لفيلم سينمائي شهير أثار جدلًا بسبب محتواه العنيف جدًا والخارج، وأخرجه العبقري ستانلي كيوبرك.تتحدث عن عالم لا يبدو غريبًا: انحطاط أخلاقي غير عادي، ارتفاع رهيب في معدلات الجريمة ونوعيتها، وانتشار العنف والقتل والاغتصاب، كل السلوكيات التي تجتاح العالم الآن، مع الهوس بكل صيحة جديدة.

في لندن المستقبلية يعيش البطل أليكس الذي يبدو في وضوح أنه مضطرب نفسيًا واجتماعيًا- يرتكب مع أصدقائه جرائم شنيعة ويمارس كل الموبقات حتى يتم القبض عليه بسبب جريمة قتل وفي السجن تتم محاولات إصلاحه، يتم إصلاح أليكس تبعًا لبرنامج حكومي يعتمد على استخدام الطب النفسي في التعديل السلوكي للأشخاص أعداء المجتمع. ويصير غاية في الطاعة والمثالية، لكنه أصبح فارغًا تمامًا، برنامج الإصلاح حوّله لكائن بلا إرادة.

ويأتي السؤال، هل هذا الصلاح الذي لا يعبر عن إرادة حقيقية، بل شيء أشبه ببرمجة آلية حقيقي؟ هل المهم هو التصرفات الصحيحة بغض النظر عن الدافع لها؟ والأهم، هل مصلحة المجتمع تأتي أولا حتى لو أدى هذا إلى أفراد معدومي الإرادة وغير مؤذيين أم مصلحة الفرد وإرادته الحرة حتى لو كان سيستخدمها في الشر؟ كما يقول بيرغس:


8. الهارب (1982) The Running Man

هل من الأفضل للإنسان أن يختار الشر بدلاً من أن يُفرض عليه الخير؟

هي قصة برنامج مسابقات، ولكن من يحكيها هو ستيفن كنغ لذا هي تحمل عمقاٌ أكبر بكثير مما يبدو. ربما يعرف معظمنا الفيلم الشهير بطولة آرنولد شوارزنجر، لكن أؤمن أن الرواية أكثر عمقًا وأصالة من فيلم الحركة المثير.

الرواية تدور في أميركا حيث يحكم نظام شمولي، وهناك طبقتان متمايزتان بإفراط، كالعادة الفقراء والأثرياء. هناك شبكة إعلامية عملاقة تقدم عدة برامج مسابقات، منها مسابقة حياة أو موت يدخل فيها الفقراء من أجل تسلية السادة مقابل جائزة مالية (يمكننا أن نرى تأثير الرواية الواضح في ثلاثية سوزان كولنز: «ألعاب الجوع»، ويمكننا أن نرى التشابه مع برامج تليفزيون الواقع الحالية).

تبدأ اللعبة التي يدخلها ريتشارد ليوفر الدواء لابنته المريضة – بعد ملاحظة أنهم اختاروا له أكثر الألعاب خطورة لأنه كان عنصرا مشاغبا في المجتمع – علم ريتشارد أنهم لا يتعاملون بنزاهة، بل أنهم يتعاملون بحقارة بداية من تزييف صوره كي يبدو متوحشا وحتى إلصاق كل الجرائم التي تنتج عن مطاردتهم له به، مما يثير كرها شعبيا ضده ويطالب الناس بقتل هذا المجرم المتوحش. يمر بالعديد من الصعوبات ويساعده الكثير من أفراد الطبقة الفقيرة المضطهدين، ويواصل هروبه بعد أن يأخذ إحدى أفراد الطبقة الثرية رهينة ولا تستطيع الشبكة قتلهما فقط لأن هناك حشد كبير يشاهد ولن يمانعوا أبدا قتل الرجل لكن قتل الفتاة أمام الجمهور كان سيجلب المشاكل، لذا ينفذون مطالبه مع اقتراب النهاية.

القائمة تطول وتطول، ومع بداية الألفية بالذات أصبح الإنتاج أكثر غزارة. الرواية الغنية عن التعريف «V for Vendetta»، وهناك أيضًا الثلاثية الرائعة «القبيحون – الجميلون – المميزون» لـ(سكوت ويسكفيلد)، تتحدث عن مستقبل لا مكان فيه للجمال العادي حيث يجري الجميع عملية تجميل عند بلوغهم لكي يصيروا فائقي الجمال، لكن هذه العملية لا تقتصر على هذا بل تقوم السلطات أيضا بزرع شريحة تجعل الشخص أكثر تقبلًا وطاعة للأوامر وأقل تفكيرًا، إذن فكونك أكثر جمالًا يعني فعلًا أن تكون أكثر غباء وانقيادًا.

وهناك مؤلفات الكاتبة الكندية المخضرمة والمرشحة الدائمة لنوبل، مارغرت آتوود، التي تجمع بين الخيال العلمي والمحتوى الإنساني العميق، من أشهر مؤلفاتها «قصة الخادمة» التي تحكي عن مجتمع رجعي تحكمه سلطة حديدية ذات مرجعية دينية تقل فيه حقوق الإنسان وتنعدم فيه حقوق المرأة فليس من حق النساء القراءة حتى. لها أيضًا «أوريكس وكريك»، وجزأها الثاني «عام الفيضان».

للأسف ترجمة أدب الخيال العلمي للغة العربية، والدستوبيا بشكل خاص فيها إهمال كبير قياساَ للآداب الأخرى. أما الكتابات العربية في المجال فهي منعدمة تقريبًا؛ ربما كان المثال الوحيد على هذا النوع هو رواية صبري موسى الجميلة المُتقَنة «السيد من حقل السبانخ»، قبل أن تأتي الرواية الشهيرة القاتمة جدًا «يوتوبيا» لـ د. أحمد خالد توفيق التي يبدو أن اختيار اسمها كان من أجل السخرية السوداء، هي مجتمع ديستوبي بامتياز يصف حال المجتمع المصري في مستقبل قريب جدًا ينقسم فيه بين طبقة عليا وطبقة دنيا بائسة. وقد أثارت الرعب وسط أوساط القراء المصريين خاصة، لأنها تتكلم عن مستقبل ربما لا يبعد عنا سوى عشر أو خمس عشرة سنة، والواقع يرجّح كفتها يومًا بعد يوم.

ترى هل يكفي أن نرى بوضوع المصير المظلم الذي نتجه نحوه كي نفيق ونبدأ في التراجع؟ أم أن البشر ليسوا بهذا الذكاء في النهاية؟

من يدري، لعل النهاية تأتي قبل أن يتحول عالمنا لديستوبيات، وهنا يأتي دور نوع آخر من الروايات التي تحتل مكانا مرموقا بدورها، «روايات نهاية العالم» ولكن هذا حديث آخر.