هل ثم وجود لحاجز فعلي بين الحقيقة والخيال، وبين الواقع والحُلم. هذا ما يُحاول العبقري دِميان تشيزِل الإجابة عنه في فيلم غنائي بديع كتب قصته وأخرجه بنفسه، وألَّف موسيقاه الشفيفة صديقه جاستِن هورويتز. وقد حصل الفيلم، الذي نجح في قبس روح الكلاسيكيات الغنائية الهوليودية؛ على سبع جوائز غولدن غلوب منها أفضل فيلم وأفضل مُخرج وأفضل سيناريو وأفضل ممثل (ريان غوسلِنغ) وأفضل ممثلة (إما ستون) وأفضل أغنية (سيتي أوف ستارز). وتدور قصة الفيلم حول موسيقي موهوب وممثلة طموح، يتقاطع طريقهما عدَّة مرات في مدينة لوس أنجِلُس،كاليفورنيا؛ حتى يفطِنا للإشارات؛ فيُسلِما قيادهما للحُب.

يحمل الفيلم عنوان «لا لا لاند La La Land»، وهو تركيب مزدوج المعنى؛ إذ يُشير في العامية المحكية إلى كلٍ من مدينة لوس أنجِلُس وإلى هوليود، وإن كان يعني حرفيًا: حالة نشوة عقلية تفصِلُ المنتشي عن قسوة الواقع وتتجاوز به ثِقَله. وقد أجاد الفيلم غزل المعنيين بمهارة شعرية لا ابتذال فيها. فنسج ثوبًا رقراقًا من معاناة الفنان في غمار قسوة صناعة اللذة الأمريكية، ثوبًا تداخلت فيه الخيوط الذهبية للتحقُّق الروحي بنشوة لحظات التوهُّج الفني التي قد يحظى بها الفنان. وفي حين لا يكاد المشاهد يُبصِر اسم هوليود على الشاشة، أو حتى تقع عينه على اسم الأستوديو الذي تعمل مِيا (إما ستون) في مقهاه؛ إلا أن المتلقي يُدرِك جيدًا أن الفيلم تدور أحداثه شبه الأسطورية في رقعة جغرافية تاريخية يعرفها جيدًا، وإن كان الفيلم لا يكترِثُ لتسميتها حتى لا يُفسد شاعرية الدراما بإبراز الخط الفاصِل بين الواقع والحلم.

يبدأ الفيلم بمعاناة بطليه في شق طريقهما الفني. فالموسيقي المجذوب مستوعَب كُليًا في موسيقى الجاز الحُرّ، والتي لا يكترِثُ لها الجمهور الاستهلاكي ولا أصحاب المطاعم والحانات التي يرتزق بالعزف فيها، والممثلة تعمل في مقهى طول الوقت وتختلِسُ من أوقات العمل سويعات تمضي فيها إلى اختبارات الأداء التي تُهان فيها موهبتها بصورةٍ متكررة. والفيلم شديد الملل والرتابة ومُشرَب بتوتُّرٍ مُزعِج حتى تلتقي مِيا بالموسيقي سيباستيان، حين يجذبها عزفه لمقطوعة موسيقية أثناء مرورها في الطريق؛ فتلِجُ المطعم الذي يعزف فيه لا إراديًا كأنها مسحورة، وذلك في نفس الوقت الذي يُطرَد فيه سيب من عمله بسبب عزفه لموسيقى الجاز، لتصير هذه المقطوعة القصيرة التي طُرِد بسببها هي النداء السحري الذي يسلُبها ذاتها في كل مرة تستمع لها، ويُسلهما لعالم آخر؛ وهو ما يتكرَّر طوال الفيلم. بل إن هذه المقطوعة شديدة القِصَر قد اختزل فيها العبقري هورويتز كل الفيلم بمشاعره الكثيفة وأحداثه الكثيرة.

وحقيقة الأمر أني لا أعرف مدى معاناة إما ستون في أداء دور الممثلة المبتدئة، وما إن كان أداؤها اجترارًا لمشاعر خبرتها من قبل؛ لكنها في كل الأحوال نجحت في نقل أعماق مشاعرها بصورة مذهلة. خصوصًا التوتُّر الدائم الذي يصبغ حياتها، كممثلة مبتدئة؛ حتى في أوقات المرح، فكأنه مرحٌ حيواني عُصابي؛ ليس فيه من السعادة الحقيقية شيء. وقد ذكرتني استعراضات الفيلم المبكرة والمملة، بسبب كم التوتُّر المبثوث فيها؛ بالمرح البائِس لفتاة الاستعراض (رينيه زيلويغر) التي تتعرَّض للاستغلال في الفيلم الغنائي الجميل: شيكاغو. بل بالمرح العصبي المسكون بالألم في حياة إديت بياف، كما عبَّرت عنه ماريون كوتيار.

فيلم La La Land
فيلم La La Land

وكأن المقطوعة التي عزفها سيباستيان كانت بابًا لعبور مِيا إلى عالم آخر. فرويدًا رويدًا يذوب التوتُّر كأنها تستعيد توازُنها الإنساني إلا من لحظات تعاوِدها فيها مخاوفها القديمة من الفشل حين تنكأ آلام محاولاتها السابقة لتسلُّق سُلم النجاح. لقد عبَّر وجه إما بصورة مذهلة عن هذا التحول النفسي والروحي، من التوتُّر الشديد والقلق المكبوت الذي كاد يفتِكُ بها، إلى السلام الروحي الذي تنعم به حين تحوّم كالفراشة حول سيب. وبعد أن كانت تُبغض موسيقى الجاز، أو لا تبالي بها؛ إذا بها تقع في غرامها. لكنه غرام وثيق الصلة بتغيُّر صورة الحياة في عينيها. فقد فتح سيباستيان في وجهها بابًا آخر من أبواب الحياة حين كشف لها خفايا موسيقى الجاز الحُرّ بوصفها لُغة أسمى للتواصُل، لغة نشأت في أزقة نيو أورليانز بين سكان يتكلمون خمس لغات.

والحق أن اختيار موسيقى الجاز بالذات كان شديد التوفيق. ليس لأن موسيقى الجاز الحُر تلجأ للارتجال فحسب، وتُجسِّد ذات الموسيقار بدرجة أكبر؛ بل لأنها بالأصل محاولة لاستعادة الجذور الأفريقية البدائية والدينية في موسيقى الجاز، والتي افتُقِدت حين صار الجاز صرعة شبه استهلاكية في النصف الثاني من القرن العشرين. هذا البُعد الميتافيزيقي لموسيقى الجاز الحر، بوصفها مفتاحًا للفيلم؛ جعل لتعلُّق ميا بسيب بُعدًا ميتافيزيقيًا غير مرئي.

وهنا لا بُد من وقفة للتمييز بين وجدان الممثل ووجدان الموسيقي، حتى يُمكننا تفكيك الموضوع الرئيس للفيلم من خلال علاقة بطليه. فالممثل كائن لا ذات له، وكلما تفاقمت موهبته فقد معها قسمًا أكبر من ذاته الضامِرة حتى لا يعود قادرًا على التعرُّف عليها، ولذا؛ فقد يقع في غرام الشخصيات التي يؤديها، حتى لا يستطيع الفكاك من أسرها إلا بعلاجٍ نفسي طويل؛ فليس له وجود مُستقِل أو ذات حقيقية خارج الموضوعات والشخصيات التي يُغرِق نفسه فيها طوال الوقت. والحق أن هذا كان شديد الجلاء في حياة مِيا قبل لقائها بسباستيان؛ لذا كانت استعراضاتها الأولى في الفيلم بصُحبة رفيقاتها، الممثلات الباحثات عن الفرصة؛ استعراضات بائسة لا روح ولا حياة فيها. تمايُل مُزعج لأشياء مجوفة بائسة لا حياة فيها، أشياء تبحث بلهفة مجنونة عن موضوعات برانية لملئها حتى تستشعر لذواتها وجودًا، وربما كان هذا تحديدًا سبب تأخر حصولهن على الفُرصة: غياب الشخصية الذاتية تمامًا للدرجة التي تجعل أي ممثلة مِنهُن مساوية للأخريات ولا تختلف عنهن في شيء، وهو ما تغيَّر بالكُلية في وجدان مِيا بعد أن التقت سيباستيان. على العكس من ذلك نجد الموسيقي، وخصوصًا الموسيقي المجذوب للون شديد التركيب والذاتية مثل الجاز الحُر، فهو موسيقي مُتمسِّك بقدرٍ كبير من الإبداع ذي الطابع الشخصي المعبِّر عن ذاته المتفرِّدة. إنهُ ذاتٌ لا تستسلم لموضوعات الغير بسهولة، بل يُكابد لبلورة موضوعه الخاص والتحقُّق به؛ وهو جوهر معاناة سيب مع أصحاب المطاعم والحانات والجمهور الذي لا يكترث بموسيقى الجاز الحُر.

فيلم La La Land
فيلم La La Land

لقد كان انغماس سيب في ذاته مُفرطًا لدرجة عجزه عن رؤية الطريق الذي يجب أن يُخرِج به حلمه الذاتي إلى حيز الوجود، في حين كانت ذات مِيا غائبة بالكُلية في موضوعات الغير التي تجعل منها ممثلة عادية نمطية لا أهمية لها، برغم موهبتها المتفجِّرة. لذا كان للقائهما بُعدٌ تجريدي واضح كما كان له آثار عملية ضخمة. فكأن في هذا التماس الروحي تضافُر للذات والموضوع حتى يستعيدا توازنهما الفردي بالكينونة التي مثَّلها اجتماعهما.

بيد أن هذا التوازُن لم يحدث بين عشية وضُحاها ولم يحدُث دون ثمن. فقد بدأ سيب يفقد بعضًا من ذاته في سبيل مِيا، ذاته الناضحة بتفرُّده وتوهُّج موهبته والتي عشِقَتهُ مِيا بسببها. بدأ يفقدها داخل العلاقة منذ سمع ميا تُحادث أمها هاتفيًا وتُخبرها أنه سيؤسس نادي الجاز الخاص به ولا بُد أنه يدخِرُ مالًا لذلك، وأنه موهوب وسيحصل على ما يُريد. حينها رضي سيب طواعية بالتخلي المؤقت عن بعض ذاته ليذوب في موضوع لا يبعُد كثيرًا عما يصبو إليه: فرقة جاز ناشئة يسمح له العمل معها بدخل ثابِتٍ تستقِر به حياتهما معًا. على الجانب اﻵخر بدأت مِيا تستعيد بعضًا من ذاتها المفقودة حين شجَّعها سيب على استعادة موهبتها في الكتابة المسرحية وكتابة أدوارها بنفسها بدلًا من الذوبان في موضوعات اﻵخرين التي تسلُبها شخصيتها. ساعتها بدأت ميا تستعيد قدرًا كبيرًا من ذاتها وشرعت بكتابة مسرحية ستُنتجها بنفسها. ومن المثير أن تكون المسرحية بالكامِل مونولجًا فرديًا تتجلى فيها ذاتية مِيا إلى أقصى حد. وقد فشلت المسرحية فشلًا ذريعًا من أول ليلة، وانهارت ذات مِيا الغضة التي كانت تُحاول الخروج من برعمها. لكن هذا الإخفاق عينه هو الذي أبرز تفرُّدها ووهبها الفرصة التي تنتظرها للذوبان في موضوعٍ براني، والتي ما كان لها أن تهتبلها إلا بتشجيع لحوحٍ من سيب.

هذه العلاقة المُركَّبة شديدة التداخُل، والتي جعلت من اتحادهما كيانًا أشبه بالأواني المستطرقة؛ سمحت لكل منهما بأن يقبِس بعضًا مما كان يفتقده. وقد جسَّد الفيلم هذا الجدل الروحي والموضوعي في مجموعة استعراضات ورقصات وثُنائيات غنائية شديدة العذوبة، تبدو في مُجملها كأنها حياة كاملة يتحقق من خلالها كل طرف منهما بما يناله من الطرف اﻵخر، بذات القدر الذي يتحرَّر به بما يمنحه لصاحبه. إنها أشبه بعلاقة صوفية؛ يتخلَّص فيها كل طرفٍ مما يُثقِل كاهله، ويتخفَّف ويتحرَّر بصُحبةٍ لا يُمكن لها أن تستمر إلا إلى أجلٍ. فإن مثل هذه العلاقات الانفجارية لا يحتملها الكون، ولا يحتملها الطرفان، ولا يحتملها توازُنهما كما تجلّى في المشهد المحوري لنقاشهما على مائدة العشاء حين عاد سيب من أولى جولاته مع فرقة الجاز. لكنهما رغم ذلك كله يقتاتان ثمار هذه العلاقة وأعبائها إلى الأبد، وقد تجلى ذلك في لقائهما الأخير الذي زارت فيه مِيا وزوجها نادي سيب للجاز، قَدَرًا وبغير سابق ترتيب؛ بعد أن صارت ممثلة معروفة.

في هذه الزيارة الأخيرة تُعيد مِيا إنتاج شريط ذكرياتها منذ لقائهما الأول، بينما يعزف سيب مقطوعتهما، ليُعيد المونتاج عرض سيناريو مختلف للعلاقة ولنهاية الفيلم؛ سيناريو لا يفترقان فيه وإن كان ذلك السيناريو «الخيالي» لا يُبرِز معالم النجاح الفردي لهما كما يُبرِز توهُّج علاقتهما. ويبدو أن تشيزل قصد إلى وضع النجاح العملي نقيضًا للتألق الانفجاري لمثل هذه العلاقة الفذة. هذا النجاح العملي الذي كان هو نفسه نتاجًا لنسخة أقصر عمرًا من نفس العلاقة. ليتجلى لنا أن استمرار العلاقة ما كان سينتُج عنه هذا التألق المهني للطرفين، بل ربما لم تكُن العلاقة لتتوهَّج بهذه الصورة التي ظهرت في السيناريو الافتراضي الذي تخيلته ميا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.