هل من الممكن أن تخرج الروح من جسد الرجل الواحد ثلاث مرات وعلى فترات زمنية متباعدة؟ وهل من الممكن -في كل مرة- أن يتابع مشهدَ الموت أشخاصٌ مختلفون في أزمنة مختلفة، بنفس الأفواه الفاغرة، والأعين المذهولة الدامعة بفعل الحزن والصدمة؟!

قد يُقال لك إن هذا منطقي وأنت على (شيزلونج) الطبيب النفسي حين يشخص أوهامك المرضية ويقنعك بالخبل والجنون، وربما يكون حلمًا عارضًا بعد أمسية تعيسة، وربما يكون حقيقة قاطعة، لكنها غامضة تحتاج ما يزيل عنها اللبس، وفي هذه الحالة لا يقدر على كشف هذا اللغز سوى شيء واحد قادر على مزج هذه الحقيقةِ بقليلٍ من الخيال المقنَّع، ودمج الماضي القديم بأهداب الحاضر، بل جعله خليقًا بالتكرار والحفظ كي لا يُطوى في دفاتر النسيان؛ شيء واحدٍ فقط يفتح الباب أمام العقل ليدرك أن حياة العظماء قد تتكرر مرة بعد مرة من الميلاد إلى الموت في حقب زمنية مختلفة، وأن مشهد الموت الفعلي، قد يكون مكتوبًا من قبل، ومن فاتته اللقطة ربما – من حسن حظه – يراها بعد ذلك مرئية ومسموعة أيضًا.

أما عن هذا اللغز المحير، فلن يُكشفَ عنه إلا إذا اجتمعت السيرة الذاتية والحوادث التاريخية، مع النص الأدبي الشامخ، وعدسة التصوير السنيمائية. في هذه الحالة فقط يزول اللبس والجدل، وينطق اللغز عن الحقيقة القاطعة.


البداية من مشهد النهاية!

عندما كتب بوريس باسترناك مشهد موت «د. جيفاجو» – المصاب بأزمة قلبية وضيق تنفس – وهو يخرج من القطار بأنفاسٍ متقطعة متلاحقة لا يستطيع معها الركض خلف عشيقته «لارا التي يراها من بعيد ولا يستطيع حتى أن يصرخ مناديًا عليها أو يلحق بها، ثم فجأةً سقط صريعًا قبل أن يودعها في دقائقه الأخيرة. كان يعلم بوريس باسترناك – مؤلف رواية «د. جيفاجو» – أنه يستبق الأحداث ويدوّن نهايته التراجيدية بخط يده، رُبما لأنه مصاب بسرطان الرئة ويعاني من أزمة قلبية، وحتمًا سيلقى مصيرًا مشابهًا لمصير د. جيفاجو، أيضًا أراد باسترناك أن يُخلّد في روايته قصة الحُب الرائعة التي انتهت بالوداع الحزين مع عشيقته وزوجته الثانية أولغا إيفينسكيا، فكانت أولغا هي لارا التي ودّعها بصمتٍ عاجزٍ إلى الأبد.. سواءً في الرواية، وفي الحقيقة.

وبعد موت باسترناك بخمس سنوات، في عام 1965م .. سُجلت هذه النهاية مرةً ثالثةً في الفيلم السينمائي «د. جيفاجو» – بطولة النجم المصري: عمر الشريف، والفيلم فائز بخمس جوائز أوسكار – وسقط باسترناك صريعًا مرةً أخرى في السينما، وتكررت المأساة مجددًا وتفاعل معها بالحزن والشجن بشرٌ آخرون يختلفون عن المشهدين السابقين.


العازف الفاشل .. والأديب الصغير!

سيجد المُشاهد لبداية الفيلم أن الآلة الوترية الروسية (البالاليكا) التي ارتبط بها الطفل الصغير يوري جيفاجو تمثل فصلًا مهمًا في حياة الطفل الذي حاول أن يصبح مؤلفًا موسيقيًا، لكنه – بفضل اهتمامه بالأدب وكتابة الشعر – انصرف عنها في سنٍ مبكرة.

ورغم أن الرواية لم تتطرق لهذا الجانب من شخصيته فإن باسترناك في الحقيقة قضى طفولته وسط عائلة أرستقراطية مهتمة بالفنون؛ فاكتسب من أمه عازفة البيانو حبًا مؤقتًا للموسيقى، وتربّى على حب الفن بفضل أبيه الذي كان رسامًا محترفًا ومشتهرًا برسوماته على أغلفة روايات الأديب العظيم لوي تولستوي الذي كان من رواد منزل العائلة، والذي شهِد الطفلُ الصغير موته وتأمل في جثته الهامدة بصحبة والده الذي شرع في رسمه ميتًا.

لذلك يبدو أن ارتياد هذه الكوكبة من الأدباء والموسيقيين أمثال: تولستوي – سيرجي رحمانيوف – ريكله، لمنزل باسترناك، كان سببًا في شاعريته المبكرة ونشأته الفنية الزاخرة، التي أهلته ليصبح شاعرًا كبيرًا وأديبًا متمكنًا يزاحم الفطاحل الروسية الأخرى على قمة الأدب العالمي.


الثائر في ثوب الشاعر الحالم!

دائمًا ما يتقدم الشعراء صفوف الثوار ويصبحون – بحُكم الضمير والانتماء – أبواقها العالية وحناجرها المدوية وأسلحتها الضاربة خاصةً في ساعةِ الحرب والقتل والدمار، ولأن باسترناك – وبطبيعة الحال د. جيفاجو في الرواية والفيلم – قد عاصر حِقبة زمنية مليئة بالدماء والتشرد والقتل؛ موجة الاضطرابات ضد الإمبراطورية الروسية في 1905م، ثم الحرب العالمية الأولى 1914، تلتها الثورة البلشفية في أكتوبر 1917، والحرب الأهلية التي لحقت بها.

فعلى إثر هذه الأحداث اضطرم قلب جيفاجو بمجموعة من المشاعر المضطربة المتفاوتة بمرور هذه الفترات التاريخية؛ بدأت بمشاركته كطبيب في الحرب العالمية الأولى، ثم بتأييده الكامل لصفوف الثورة الشيوعية التي اكتشفَ بعد ذلك أنها ألحقت بالبلاد الخراب والدمار، فصار ناقمًا حاقدًا على الحزب الشيوعي والجرائم التي تسبب بها الجيش الأحمر .. وأصبح عدوًا للحزب مُتهمًا بالعمالة والخيانة، وعاش طريدًا شريدًا إلى أن مات، في دلالة رمزية على المصير الحتميّ الذي قد يلقاه أي شاعر حر يدافع عن تحرر الإنسان، ويرفض الخضوع والاستكانة، ولا يقبل أن يصير ترسًا عاملًا على حساب ضميره ومبادئه.

هذا هو جيفاجو في الرواية والفيلم، ولأنه بدا واضحًا أن باسترناك يسرد فصلًا من نضاله وكفاحه .. فإن حياته الفعلية لمْ تخلُ من النضال والكفاح، ولم تختلف كثيرًا عن قصة بطل روايته، بل زاد عليها حربًا ضروسًا دارتْ بينه وبين الحكومة الشيوعية والأدباء الروس فور انتهائه من كتابة رواية د. جيفاجو .. وهو ما يُعرف تاريخيًا بقضية باسترناك.


عندما يصبح الأدب طرفًا في صراعٍ سياسي!

في صيف عام 1956م أرسل باسترناك نسخةً من الرواية إلى مجلة نوفي مير لينشر من خلالها روايته، إلا أنه – بعد عامين – فوجئ برفضٍ مصحوب بردودٍ قاسية واتهاماتٍ بالغة الخطورة تنهش في وطنيته وترميه بالخيانة والعمالة، اتهاماتٍ مفادها أنه يروج لآراء سياسية تعادي الحكومة الشيوعية، فقام باسترناك بإرسال نسخة من الرواية إلى إيطاليا سرعان ما تُرجمت إلى الإيطالية ولاقت رواجًا هائلًا في أوروبا كلها، حتى إنها بحلول عام 1958م كانت منتشرةً في إنجلترا، وألمانيا، وفرنسا، والولايات المتحدة الأمريكية أيضًا، في حين أنها لم تكن نُشرت في روسيا بعد.

وبطبيعة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة وقتذاك، كان طبيعيًا أن يزداد الهجوم في روسيا على باسترناك، وزادت الأمور ضراوةً عندما رُشّحت الرواية لجائزة نوبل وفازت بها، فتشارست روسيا كلها على باسترناك ولم يشكّوا لحظةً أنه عميل وتابع للعدو الغربي .. فأرسل باسترناك رسالة إلى رئيس الحكومة خروشوف ينفي فيها عن نفسه هذه الاتهامات، ويؤكد ولاءه لروسيا وارتباطه ببني جلدته، ويترجّاه ألا ينفيه خارج البلاد قائلًا: «إن الرحيل خارج حدود وطني يعادل الموت بالنسبة لي! ولهذا أناشدك ألا تتخذ نحوي هذا الإجراء المتطرف…».

وبعد ذلك رفض باسترناك استلام جائزة نوبل في محاولة للتصالح مع أهل روسيا وإثبات ولائه لهم، في الوقت الذي اشتُهرت فيه روايته وذاع صيتها في العالم كله، فكأنه ضرب عصفورين بحجرٍ واحد .. امتصّ غضب الروسيين، ولم يتراجع عن نشر روايته!


ونطقَ اللغزُ بالحقيقة القاطعة!

لم يتكرر مشهد موت باسترناك ثلاث مرات وفقط، بل صِيغت حياتُه من جديد في الرواية كما الفيلم السينمائي؛ طفولته البريئة، شبابه المكافح، موسيقاه، شِعره وأدبه، عشقه الغائب، موته الذي استبقه وعبّر عنه، أيضًا عكستْ الروايةُ رؤيته للجمال والفن فكتب: «كان يعتبر أن الفن لا يمكن أن يكون مهنةً، اللهم إلا إذا كان من الممكن للفرح أو الحزن أن يكون مهنةً». وكما صِيغتْ حياته في الرواية .. انتقلت إلى السينما، واكتملت اللوحة الفنية بعناصرها الثلاثة: الأدب، والسينما .. والحياة.

ومن الأدب المقروء .. تُعكس الصورة أمام الكاميرا لتُزيد من حَمْى الوطيس، وتلهب النفوس وتلهم القلوب. فصار بمقدور الأدب أن يجسّد المعاناة ويؤرخ البلايا والنوائب التي تجرّع من كأسها البشر على مدى التاريخ، بل بمقدوره أن يصبح المتنفس والملاذ، فلو أراد أن يتسبب في اندلاع حربٍ .. لفعل، ولو أراد أن يدعو للسلام .. لفعل، ولو أراد عكس ذلك أيضًا فعل .. المهم أن يكون صادقًا في دعواه مهما كانت.