«اعتداء جسدي وجنسي على طفلة في السَّادسة من عمرها من قِبَل والدِها، انتهى بحملِها منه في الرَّابعة عشرة» ربما يبدو هذا عنوانًا لافتًا لموضوع مثيرٍ للجدل على صفحات إحدى الجرائد المحلية.

أشدُّ ما يؤسفني أنْ أخيِّب آمالكم ، ولكن هذا لم يكن عنوان مقال، إنه ملخَّص لحادثةٍ واقعيةٍ مؤلمة تعرضت لها الطفلة «توني ماغواير» وهي في السَّادسة. فقد اعتدى عليها والدها جنسيًا، واستمر هذا الاعتداء ثماني سنوات كاملة. أدى هذا في النهاية إلى حملها منه وهي في الرَّابعة عشرة.


لماذا تروي «توني» قصَّتها؟

كان هذا أول سؤال خطر في بالي. فكتابة المذكِّرات العادية عادة ما تكون لرغبة الإنسان في الاحتفاظ ببعض تفاصيل حياته، وربما لمجرد حبه للكتابة، وأحيانا لعرض قضية وطرح حلول. وهذا الأخير هو ما ظننته هدف «توني» من كتابة مأساتها إلى أنْ قرأت الرُّواية وفرغْت منها. ثم أدركت أنَّ غايتها أعمق من ذلك ولكن ما هي؟ لا أدري، وكيف أدري وصاحبة المعاناة نفسها لا تدري. لم تحكِ «توني» في مذكراتها إلاَّ تفاصيل «المأساة» وكيف انتهت بسَجْن أبيها، ودخولها هي للمصحَّة النفسَّية حتى خروجها بسلام. وختمت الرُّواية بموت والدتها بعد عذاب الضَّمير! صحيحُ أنها قامت بطرح العديد من الأسئلة، لكنَّها أسئلة لم تجد هي جوابا لها! أسئلة من نحو: لماذا لم تدافع عنِّي أمِّي؟ لماذا تستَّرت على أبي؟ لماذا ظلَّت بصحبته حتى بعد علمها باعتدائه الفاحش عليّْ؟ لماذا استمرت في تجاهل مأساتي على مدى السنوات الثَّمان؟ لماذا لم تحضر محاكمتي ضدَّ أبي؟ أسئلة الـ«لماذا» في هذه الرواية لم تنتهِ. بعضها تذكُرهـــا «توني» صراحةً، والبعض تقرؤه أنت بين السُّطور، وجميعها تنتظر منَّا إجابةٌ شافيةٌ لطفلةٍ معذبةٍ، وامرأةٌ لم تزل حائرة.


الضحيَّة … المُدانَة

لا أعرف لماذا لم يصدمني كثيرًا ردَّ فعلِ المجتمع الهجومي على الفتاة ذات الأربعة عشر ربيعًا والمعتدَى عليها من قِبل والدها. آلمتني ردَّة الفِعل لكنها لم تصدمني. ربما لأنني – وغيري كثير – اعتدت هذه الصُّورة النمطيـــَّة و«الواقعية» لشديد الأسف من تلك النفوس المريضة المُجحِفَة. كل المجتمع كان ضدَّها: الطَّبيب، والمعلِّم، والمديرة، والأقارب، والأقران. الكل ضدَّها، اللهم باستثناء القاضي، والقِس، وبعض عناصر الشُّرطة، وربَّما يرجع هذا إلى كونهم في «قلب الحدث» وقد عرفوا بالتفاصيل.

أنطوانيت، ستكتشفين أنَّ الحياة ليست عادلة. فالناس سيلومونك، فاستمعي إليَّ جيدًا: لقد اطَّلعْت على تقارير الشُّرطة والتَّقارير الطِّبية، وأعرف ما مررت به بالضَّبط. وأؤكد لك أنَّ أيَّا من هذا لم يكن خطأك.
القاضي لتوني بعد إصدار الحكم بسجن والدها

أخبرها بالضَّبط عمَّا ستعانيه، وقد درس واستوعب طينة ذلك المجتمع المريض. الجميع لامها وإن اختلف نوع اللَّوم؛ منهم من لامها على أنها لم تتكلم في وقت أبكر، ومنهم من لامها أنها استسلمت عدة مرات. والأفظع أنَّ من منهم من رأى أنها أجَّلت الإبلاغ عن الأمر بإرادتها الكاملة ولنشوتها به! يلومونها على التأخر فـــي التبليغ! لكأنها لو أخبرتهم وهي في السَّادسة لصدَّقوها وكذَّبوا والدها! لا أراهم إلا مرددين لعبارة الأب والأم: «توني، لا تخبري أحدًا»


«فاطمة غول» و «توني ماغواير»، اختلفت التفاصيل والانتهاك واحد!

مسلسل فاطمة
من مسلسل فاطمة

«فاطمة»، المسلسل التركي الذي أحدث ضجَّة بعرضه عام 2010. فهو يحكي القصة الحقيقة لفتاة تركية تدعى «فاطمة غول»، وكيف تم اغتصـــابها من بعض الشَّباب الأثرياء عام 1975، وكيف تمكنت من كسب القضية ضد مغتصبيها أمام أحد المحاكم التركية. المفارقة في قصة كل من «فاطمة غول» و«توني ماغواير» أن كليهما أشار لثغرة سواء في القضاء أو في المجتمع، فيما يخص تناول وحلّ مثل هذه القضايا الحساسة والمؤثرة بصورة مباشرة في نفسية وسمعة الضحية أكثر منه الجاني. بالنسبة لـ«فاطمة غول» فالمسلسل كان يتحدث عن الثغرة القانونية الموجودة في القانون التركي، والتي تسمح لمرتكب جريمة الاغتصاب أن يفلت من عقوبة السجن إذا تزوج من الضحية لمدة سنة كاملة. أما إن حدث الانفصال خلال هذه السنة فسيدخل الجاني السجن ويعاقب! القانون رأى أنه بهذا الإجراء يحفظ حق المرأة وسمعتها، خاصة أنها كانت هي من يتم إدانتها في معظم الحالات من قبل المجتمع رغم كونها الضحية! أما المجتمع النسائي في تركيا، فكان يرى في مثل هذا القانون إجحافًا لحق المرأة في أن ترى الجاني يظفر بالضحية التي اعتدى عليها، عِوَضًا عن نيل عقوبته التي يستحق! كما يظهر المسلسل دور بعض الشخصيات في إقناع «فاطمة غول» في البداية بالعدول عن اللجوء للقضاء لمحاسبة الجناة خشية الفضيحة والعار!

أما رواية «لا تخبري ماما» التي صدرت عام 2006 لكاتبتها وبطلتها البريطانية، فقد حرصت بمنهجية مختلفة على مخاطبة «طريقة التَّعاطي» مع مثل هذه القضايا الحسَّاسة ضدَّ المرأة! فقد صوَّرت «توني» ردود فعل شُرطيَّات أجبرنها على العودة إلى المنزل في تواجد الأب حتى بعد اعترافه بجريمته، وقد طمأنوها أنه لن يمسها! أضِف إلى ذلك أنه لم يكن هناك أي نوع من الاحتواء، أو العلاج النفسي المتوقع في مثل هذه الحالات. ما أدى إلى انهيار حالتها النفسية والصحية تباعًا عقب عملية الإجهاض التي قامت بها، وتجاهُل أمها «غير المبرَّر» لها، وطردها من المدرسة ومن بيت أقاربها وغيرهم ممَّن لجأت إليهم. كان ذلك بعد أن قرَّرت أخيرًا أن تتكلم. فلم تجد مهربًا إلا الانتحار، ولكن تم إنقاذها في اللَّحظات الأخيرة. حينها فحسب، رأى الأطباء والقسّ الذي استدعوه أن يودعوها في مشفًى للأمراض العقلية لعدة شهور حتى تستقرَّ حالتها!


عندما تُسْتَغَل براءة الطُّفولة!

قامت «NSPCC» وهي أكبر منظمة خيرية قومية في بريطانيا لرعاية وحماية الأطفال ضد العنف الجنسي أو الجسدي، بإجراء دراسة عام 2000 لمعرفة الأسباب التي تمنع الأطفال المعتدَى عليهم من التحدث بالأمر. وأوردوا ثمانية أسباب رئيسية. ثلاثة منهم كانوا حاضرين في حالة «توني ماغواير»: الخوف، خشية ألا يصدِّقها أحد، وتهديد والدها المستمر لها. والأخير كان له العامل والتأثير الأكبر، خاصة كونها طفلة شديدة التعلُّق بأمها وتريد إرضاء والدها العنيف «متقلب المزاج». وهذا يؤكد على أن الأب لم يكن مريضًا نفسيًا فحسب، ولكنه كان مدركًا لطبيعة الأطفال، وكيفية إثارة الرعب والخوف في نفوسهم، وكذلك معرفة قدرتهم العجيبة على «الطَّاعة» وتنفيذ الأمر، والأهم هو قدرتهم على «حفظ السِّر» و«إرضاء من يحبُّون». لذا نرى أن العبارات المفتاحية التي لطالما استخدمها الأب مع «توني» ليمنعها عن ذكر الأمر:

«لا تُخبري ماما، إنه سرُّ بيننا»

«لا أحد سيصدقك يا أنطوانيت. أنتِ من سيندم إذا تحدثتِ عن الأمر! كلهم سيلومونك أنتِ»

«أنتِ كذلك مذنبة، مثلي تماما! إذا جلبت العار لهذا المنزل، فإن والدتكِ لن ترغب في بقائك، وستجعلكِ ترحلين»


الأم … من الاحتواء إلى الشَّراكَة!

«توني»، يجب عليك أن تدركي الأدوار التي قام بها والديك لانتهاك طفولتك. كما عليك أن تستوعبي وتتقبلي حقيقة أن والدتك لعبت دورًا في معاناتك. هذه هي الطريقة المثلى لتحرري نفسك ممَّا أنت فيه، لأن هذا هو الأمر الوحيد الذي لم تتقبَّليه حتى الآن.
القس

الأم، من الشخصيات التي استعصت على الفهم حتى على الابنة نفسها. فحتى الورقــــات الأخيرة من الرواية، واللحظات الأخيرة من حياة الأم، و«توني» في حيرة من أمرها فيما يتعلق بدور والدتها في هذه الجريمة. تروي في قصتها كيف أنها في التحقيقات التي تعرضت لها كانت دائما ما تؤكد على أنها لم تخبر أمها، رغم أن العكس هو الصحيح. ونفهم من خلال روايتها أنها أفادت بذلك عدة مرات لأسباب كثيرة تجهلها «توني» نفسها.

غير أنك تقرأ بعض الأسباب إما بين السطور، وإما من واقع ما ذكرته هي فـــي بعض الجمل. فأوردت أنها كانت تتخيل أنها لم تخبر أمها أبدًا، وأن أمها لم تتواطأ مع أبيها طوال هذه السنوات! تخيلت أن والدتها لم تسمع صرخاتها حينما اعتدى عليها والدها في إحدى المرات ومن ثم تجاهلتها! كما أنكرت في داخلها حقيقة أنها أخبرتها وهي في السادسة عن محاولة أبيها الأولى الاعتداء عليها ورددت على مسامعها نفس عبارة الأب : «لا تخبري أحدًا». سبب آخر كان واضحًا، وهو شغفها بوالدتها منذ صغرها، فأبت أن تُشوِّه الصورة الجميلة التي رُسمت في قلوب وعقول من عرفوا هذه الأم إذا ما صرَّحت توني بالحقيقة!

السؤال هنا: هل يستطيع القارئ أو أي مجتمع منصف أن يتجاهل ما فعلته الأم؟ أو يتغافل عن ردَّة فعلها الباردة حين عرفت أن ابنتها حامل وهي في الرابعة عشر من عمرها؟ فرغم معرفتها للجاني إلاَّ أنها أبت إلا استجوابها: «مَن الفاعل يا توني؟! قولي الحقيقة ولن أغضب»، وأجابت توني: «أبي». فردَّت الأم بكل برود: «أدري».

التحليل الوحيد لردَّة فعل الأم وتعلُّقها بزوجها رغم إجرامه، والذي ربما يراه البعض «مُرضيًا» وإن لم يكن كافيًا أو مقنعًا، هو ما قاله القس لـ «توني» عقب محاولة انتحارها:

«الحبُّ هو عادةٌ يصعُب التخلص منها. اسألي أي امرأة استمرت في علاقة سيِّئة مع رجل ثم انتهى الحب بينهما! حتى التي تهرب من زوجها بحثًا عن ملاذ، غالبًا ما تعود إليه مرة أخرى! أتدرين لماذا؟ لأنها واقعةً في حبِّ الرَّجل، ليس الذي يؤذيها الآن، ولكن الذي ظنَّت أنها تزوجته بادئ ذي بَدء»


ما ذنْب توني ماغواير؟!

ذنْب الإنجليزية «توني أنها ولدت لأب مغتصب وأم متواطئة، ذنبها أنها عاشت في مجتمع يدين المرأة حين تطالب بحقها، ويدينها حين تصمت وتتجاهل! وأخيرا وليس آخرا، ذنبها أنها ولدت في كنف مجتمع يلتمس العذر للجاني ويدين الضحية تماما كما فعل مع التركية فاطمة غول.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.