أثار الأستاذ الجامعي البريطاني «نويل كونواي» جدلًا واسعًا في «المملكة المتحدة» بالأمس برفعه دعوى مدنية للحصول على نص قانوني يُبيح له تلقي مُساعدة في إنهاء حياته على إثر إصابته بمرض عصبي مزمن.

لن نناقش هنا أسباب ودوافع رغبة الأشخاص في إنهاء حياتهم، لكننا سنجتاز ببساطة بعضا من التنميطات المُحيطة بهذا الفعل والمقبلون عليه. رؤية من منظور الذاتية والحقوق المدنية.


الانتحار نتيجة أم اختيار؟

عندما يُذكر الانتحار، تعتبره الأغلبية نتيجة لبعض الاضطرابات العقلية وعلى رأسهم الاكتئاب. يرجع السبب في ذلك إلى اعتبار الاكتئاب مُسببا رئيسيا في الأفكار الانتحارية بسبب تغيّر كيمياء المخ، أو كعرض جانبي من أعراض الأدوية المضادة له. ليس الاكتئاب وحده فأيضًا المُتعايشون مع اضطراب ثنائي القطب قد تورد في خواطرهم أفكار انتحارية لنفس الأسباب.

أما المُتعايشون مع اضطراب القلق المزمن فقد يكونون أقل من بين هؤلاء.

ليست الاضطرابات العقلية وحدها التي تُسبب وجود الأفكار الانتحارية، فالأمراض العضوية أيضًا قد تدفع المُتعايشون معها إلى الانتحار كحل أخير لإنهاء الألم والمُعاناة غير المُحتملين. يتضمن هذا الحرب والتواجد في أماكن الصراع، فيكون الانتحار وسيلة للخروج من صدمة الواقع، كما تُعبر «جوديث هرمان» في كتابها «الصدمة والتعافي». وقد يكون بهدف استعادة السيطرة على الجسم، كالوقوع في الأسر أو العبودية الجنسية أو الحكم بالإعدام، كما استكملت «هرمان».

ولكن هذا إن كان الانتحار نتيجة، ماذا لو كان اختيارًا؟


الحق في الحياة مقابل الحق في الموت

إن كانت الحياة حقا، فقد يكون اختيار عدم استكمالها أيضًا حقا. بعض الأشخاص يقررون بإرادة واعية وغير مُعتمدة على أي من الأسباب السابقة أو غيرها إنهاء حياتهم. هنا كما في مواضع أخرى، لا يملك أحد حق إثناء هؤلاء عن قراراتهم أو توجيههم إلى ما يرونه أفضل. (1)

بعض الأشخاص ببساطة لا يتقبلون استكمال حياتهم كما هي، كما أنهم لا يرون أي إمكانية لاستكمالها كأشخاص آخرين، لذلك قد يكون قرارهم بالتوقف عن العيش هو الأفضل بالنسبة إليهم. لذلك، فتحديد ما هو أفضل أو أنسب للمقبلين على الانتحار يحددونه هم بأنفسهم.

هذا النقاش أثار جدلًا واسعًا بين الأطباء النفسيين وبعض النشطاء في الولايات المتحدة الأمريكية. فالأطباء يرون أن وظيفتهم هي «حماية الأشخاص» من قتل أنفسهم. والنشطاء يرون هذه الصياغة في حد ذاتها إشكالية. حيث إن استخدام لفظة «قتل» توحي بأنها جريمة، كما أن استخدام لفظة «حماية» لا تُعطي أهمية لإرادة المقبلين على الانتحار وتسقط عنهم الأهلية في القرار. حتى قضت «المحكمة الأمريكية العُليا» في التاسع من يوليو 1990 لأول مرة في تاريخها أن للمواطن الأمريكي الحق في إنهاء حياته.

الحياة كمفهوم مقدس

هل نملك حيواتنا؟ من منظور ديني، لا يملك البشر حيواتهم، حيث تعتبر عطية إلهية وأمانة تُسترد بالموت. ويُطالب بنو البشر بالدفاع عن حياتهم وعدم المخاطرة بها، وفي بعض المذاهب يكون تعريض النفس للهلاك إثمًا، والانتحار كُفرا. الأزمة في هذا النقاش أنه ينفي عن الإنسان حق التصرف في حياته، ويجعل منه ضيفًا في جسده إلى حين سحب هذه الحياة وإفناء الجسد. بنفس المنطق الذي يعتبر الحياة أمانة مقدسة، تعتبر أي محاولة للحفاظ على الحياة بعد موت حتميا كالحوادث مثلًا هو تأخّر في رد الأمانة.


لماذا نمنع آخرين من الانتحار؟

تتنوع آليات منع المقبلين على الانتحار وفقًا لموقع الشخص. فالطبيب النفسي قد يقدم أدوية تقلل من الأفكار الانتحارية، وقد يأمر بالوضع تحت الملاحظة الطبية المستمرة. أما المقربون من الشخص فقد يأخذون على عاتقهم مسئولية تقديم الدعم العاطفي، الذي يُعتقد أن ذوي الميول الانتحارية يفتقدونه. وقد يتم «سحب» المريض إلى مصحة نفسية بالاجبار لتلقي العلاج. ولكن، لماذا نُقبل على منع آخرين من إنهاء حياتهم بأنفسهم، رغم أننا نعلم جيدًا أنهم قد يموتون فجأة تحت أي ظرف آخر؟

قد نمنع آخرين من إنهاء حياتهم بسبب الأنانية. قد يكون السبب أننا لا نتخيل حياتنا دونهم، أو نُريدهم في أفضل حال ونؤمن أن الفكرة مجرد عَرَض وليس قرارا. وقد يدفعنا إلى ذلك الشعور بالذنب والتقصير تجاههم وأن هذا التقصير كان سببًا في شعورهم بالوحدة ثم رغبتهم في الانتحار.

وينتج عن ذلك رغبتنا في إطالة المدة التي يعيشون فيها، اعتقادًا أننا قد نقدم ما يُثنيهم عن قرارهم أو على الأقل ما يُقلل شعور الذنب داخلنا. أما السبب الثالث، فقد يكون اعتمادنا على هؤلاء في حياتنا وبأنهم أناس لا يُمكن استبدالهم كأقارب الدرجة الأولى.

قد تكون محاولات المنع مُجدية إن كان هؤلاء يفكرون في الانتحار مؤقتًا ولكنهم يفتقدون دعمًا. وقد تكون تدخلا سافرا في قرارات المقبلين على الانتحار لأنها لا تتقبل القرار كما هو، ولا تقدم لهم قبولًا أو تفهمًّا، مما يُزيد من عبء القرار.


هل نقرر الانتحار لكننا نخاف من الموت؟

بالطبع، هناك أشخاص قد قرروا الموت ولكن ينقصهم القدرة على التنفيذ. لأن أغلب أساليب الموت مؤلمة، قد يكون الدعم المُقدم لمُقرري الانتحار في صورة مُساعدة طبية أو استشارة لطرق تنفيذ أقل إيلامًا، ويُسمى «الانتحار المُساعد» أو Assisted Suicide. ولكن تقتصر هذه الخدمة في الكثير من البلدان على الأشخاص ذوي الأمراض المُزمنة التي لا شفاء منها، فتعتبر مجرد وسيلة مُساعدة في إنهاء معاناتهم مع المرض.

في «فرنسا»،واجه طبيب السجن بسبب حقن مريضة بمادة تُساعده على إنهاء حياته دون ألم. وفي أماكن أخرى مثل ولاية «كاليفورنيا»، يكون الانتحار بالمُساعدة له مراكز مختصة، ويُشرف عليه أطباء. أي لا يُمكن لأي شخص أن يُقدم مُساعدة لآخر في الانتحار. بينما يستمر الصراع على وجوب وجود نص تشريعي لإتاحة الحق المدني في إنهاء الحياة داخل «المملكة المتحدة» حتى الأمس.

مؤخرًا، قد رأينا أكثر من حالة جدل مُثارة حول أشخاص كتبوا على حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي أنهم مُقبلون على الانتحار، ثم علق البعض بطرق وأساليب للانتحار مع بعض السخرية والتحدي على التنفيذ.

هنا، تعتبر المراكز نعمة ونقمة في آن واحد. نعمة لأنها تُقدم خدمة طبية واستشارية غير مُغرّضة قبل اتمام الانتحار. ونقمة لأنه بسبب ارتفاع أسعارها تُصبح غير مُتاحة للعامة، أي أن حتى محاولة إنهاء الحياة تتطلب أموالًا.


سُلطة الدولة: حق مُطلق لإنهاء حياة المواطنين

في كتابه «الموت بكرامة» يقول «روبرت رايزلي» إن إقرار الحق في إنهاء الحياة قد يتعارض مع مسئولية الدولة في الحفاظ على حياة المواطنين.

في كثير من دول العالم، تعتبر عقوبة الإعدام هي أشد عقوبة جنائية. ويقع تحت طائلتها جرائم القتل وبعض قضايا تجارة المخدرات، ومؤخرًا جرائم «الإرهاب». بمجرد إصدار حكم الإعدام يتم نقل الشخص لزنزانة فردية ويُعطى بذلة حمراء للتمييز بينه وبين المسجون العادي. هذه الزنزانة خالية تمامًا من أي أدوات ما عدا إناء يتم استخدامه كدورة مياه. ويكون المسجون تحت حراسة مُشددة حتى لا ينتحر.

بهذه الطريقة، تحتكر سلطة الدولة حق حرمان مواطن من حياته. حتى لو كان هذا المواطن ميتا في الأصل بحكم محكمة، فإن التنفيذ يُعزز من سلطة الدولة على حياة مواطنيها، وقد نُطلق عليه اسم «الموت العقابي». أما أن انتحر المحكوم عليهم بالإعدام فإنهم وفقًا لرؤية الدولة لهم، تدخلوا في سُلطاتها وأعاقوا تنفيذ العقوبة.


الوصمة: الجبن وقلة الثقة بالنفس والاضطراب العقلي

الانتحار فعل موصوم اجتماعيًا، حيث اعتاد أغلبنا ربط الانتحار باليأس أو قلة الإيمان وأيضًا بعض السمات الشخصية أو الاضطرابات العقلية. وقد نستخدم عبارات خاطئة في إثناء مُحبينا عن إنهاء حياتهم، كأن ننعتهم بالأقوياء ونصف المُقبلين على الانتحار بالضعف والجبن. كل هذا جيّد، ولكن ليس على مستوى التعامل الجاد مع الانتحار.

فما تفعله هذه العبارات وغيرها هو أنها تجعلهم أقل تصالحًا مع ذواتهم، وتُزيد من حدة الشعور بالذنب. وقد تتسبب في امتناعهم عن مُشاركة أفكار الانتحار معنا. وقد تُحفز رغبتهم في الانتحار. كما أنه وجب الإشارة أيضًا إلى أن الترويج للانتحار على أنه عمل بطولي، قد يؤدي إلى نفس النتائج.


ماذا نفعل إن فكرنا في الانتحار؟

إن كانت الأفكار الانتحارية تراودكم من حين لآخر، فقد تكون الأسئلة التالية مفيدة:

  • هل الرغبة في الموت نتيجة لحدث عارض؟ هل هذا الحدث يُمكن تخطيه؟ وكيف؟
  • هل هو أعراض جانبية لعقاقير ما؟ استشيروا أطباءكم النفسيين.
  • هل تودون مشاركة هذه الأفكار مع أشخاص تثقون بهم؟
  • هل قررتم أن الحياة ليست الخيار الأنسب لكم؟
  • ماذا تحتاجون الآن؟

ماذا نفعل إن كان أحد المُقربين منا مُقبل على الانتحار؟

  • لا تهلعوا ولا تسفّهوا. تعاملوا مع الخبر على أنه حدث جاد وهام.
  • فرقوا بين مشاركة المعلومة كطلب غير مُباشر للمساعدة، أو مشاركتها من باب الثقة، أو مُشاركة شيء تم تقريره بالفعل.
  • تقبّلوا أسباب رغبتهم في التوقف عن العيش. فقدرتنا على التحمل تتفاوت، وهذا لا يوصم أو يُميز أحدنا على الآخر.
  • اسألوهم إن رغبوا في تدخلكم المُباشر، ولا تتدخلوا أو تطلبوا مُساعدة آخرين دون أن يأذنوا هم بذلك.
  • آمنوا أن من حق كل شخص تقرير مصيره، حتى لو لم يتفق مع رؤياكم للأمور.
  • قد تكون هذه اللحظات الأخيرة. استغلوها كفرصة للود وللتعبير عن الحب والامتنان لوجودهم يومًا. أنكم وددتم لو طالت المدة ولو قليلًا، ولكنكم مُتفهمّون لقرارهم وتقبلونهم كما هم. (2)

ماذا نفعل لو انتحر شخص نحبه؟

يعتبر الأشخاص في هذه الحال ناجون من الانتحار، ويحتاجون لتفهّم لمشاعرهم السلبية ودعم لتجاوز الحدث. (3)

  • جِدوا دعم طبي أو نفسي حسب احتياجكم.
  • عبّروا عن مشاعركم وقتما أتيحت لكم الفرصة.
  • أبحثوا عن أشخاص متفهمين في دوائركم القريبة، يستمعون إليكم دون أحكام.
  • لا تُشاركوا خصوصياتهم مع آخرين، سواء كانت مُحادثات أو معلومات أو صورا.
  • لا تلوموا آخرين على عدم تدخلهم، ولا تتمادوا في الشعور بالذنب.
  • فقط، كونوا طيبين مع أنفسكم ومع الآخرين عندما يكون الأمر عن الانتحار، أو عن التوقف عن الحياة لأي سبب.
المراجع
  1. SUICIDE: A Civil Right
  2. Helping Residents Cope With a Patient Suicide
  3. Helping Survivors of Suicide: What Can You Do?