لم نسمع في ظل الإسلام عن أي محاولة مدبّرة لإرغام الطوائف من غير المسلمين على قبول الإسلام، أو عن أيّ اضطهاد مُنظّم قُصد منه استئصال الدّين المسيحيّ. ولو اختار الخلفاء تنفيذ إحدى الخطّتين لاكتسحوا المسيحيّة بتلك السّهولة الّتي أقصى بها فرديناند وإيزابلاّ دين الإسلام من إسبانيا. أو الّتي جعل بها لويس الرّابع عشر المذهب البروتستانتيّ مذهبا يُعاقب عليه مُتّبعوه في فرنسا، أو بتلك السّهولة الّتي ظلّ بها اليهود مُبعدين من إنجلترا مدّة خمسين و ثلاثمائة سنة.
السير توماس أرنولد
إن خير مقياس يقاس به تحضر أي مجتمع من المجتمعات يتجلى في كيفية تعامله مع الأقليات التي تشاركه الحضارة والوطن، الأقليات التي لا تساويه في القوة بحكم عددها، والتي تخالفه في العقيدة الدينية أو السياسية أو العنصرية.
إدوارد غالي

من حقوق الأقليات المكفولة

حظيت الأقليات غير المسلمة في ظل الحضارة الإسلامية بامتيازات وحقوق قلما وجدناها في حضارة أخرى؛ حيث احتكم المجتمع المسلم إلى قاعدة ربانية مفادها (لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْـمُقْسِطِينَ)، ومن ضمن هذه الحقوق حرية الاعتقاد، وذلك انطلاقًا من قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، وقد حذَّر النبي مِن ظُلمهم أو انتقاص حقوقهم، فقال: «مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ حَقًّا، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ؛ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». ومن روائع مواقف النبي في ذلك الشأن ما حدث مع الأنصار في خيبر؛ حيث قُتِل عبد الله بن سهل الأنصاري، وقد تمَّ هذا القتل في أرض اليهود، وكان الاحتمال الأكبر أن يكون القاتل من اليهود، ومع ذلك لم تكن هناك بيِّنة؛ لذلك لم يُعاقِب رسولُ الله اليهود بأي صورة من صور العقاب.

وقد تكفَّل التشريع الإسلامي بحقِّ حماية أموال غير المسلمين؛ حيث حرَّم أخذها أو الاستيلاء عليها بغير وجه حقٍّ، وقد جاء ذلك تطبيقًا عمليًّا في عهد النبي إلى أهل نجران، حيث جاء فيه: «وَلِنَجْرَانَ وَحَاشِيَتِهِمْ جِوَارُ اللهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللهِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَبِيَعِهِمْ، وَكُلِّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ…». بل أكثر من ذلك حقُّ الأقلية غير المسلمة في أن تَكْفُلَهَا الدولةُ في الإسلام من خزانة الدولة عند حال العجز أو الشيخوخة أو الفقر؛ وذلك انطلاقًا من قول الرسول: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّ رَاعٍ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ». على اعتبار أنهم من رعاياها كالمسلمين تمامًا، وهي مسئولة عنهم جميعًا أمام الله.


من شهادات المستشرقين

لقد أثيرت في الآونة الأخيرة قضية الأقليات غير المسلمة التي عاشت في جوار الحضارة الإسلامية، حيث يزعم البعض أنهم كانوا محط اتهام لكل أعمال العنف وأن المسلمين كانوا دائمًا ما يروجون في خطاباتهم وسياستهم لنبذ الأقليات، ولكننا لم نجد في الشرع مخاطبة غير المسلمين بهذا الاستعلاء والاتهامات التي يُتهم بها المسلمون الآن، حتى إننا نجد أصل مصطلح أهل الذمة يعنى العهد والميثاق الذي به يعتبرون من ضمن رعايا الدولة. والدولة إنما تتعامل معهم بوصف التابعية كالمسلمين، ولا يوجد في الدولة وصف الأقلية والأكثرية الدارج استخدامهما هذه الأيام، فالإسلام يعتبر الجماعة التي تحُكم بموجب نظامه وحدة إنسانية.

تلك الحقيقة التي اعترفت بها المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه:

العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فالمسيحيون والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها، سُمح لهم جميعاً دون أي عائق يمنعهم بممارسة شعائر دينهم، وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى، أوليس هذا منتهى التسامح؟ أين روى التاريخ مثل تلك الأعمال؟ ومتى؟

الأمر الذي يؤكده المؤرخ والمفكر الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه «حضارة العرب»:


عين على التاريخ

إنّ القوة لم تكن عاملا في انتشار القرآن، فقد ترك العرب المغلوبين أحرارا في أديانهم.. فإذا حدث أن انتحلت بعض الشعوب النصرانية الإسلام، واتخذت العربية لغة لها، فذلك لما كان يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للناس عهد بمثله، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم تعرفها الأديان الأخرى.

لم نجد في التاريخ أن المسلمين تعاملوا مع الأقليات -أهل الذمة وغيرهم- بنوع من التهكم أو الاستعلاء أو نعتهم بسبب فساد الديار وأنهم سبب كل مصيبة تحل بديار الإسلام، لا ننكر أن بعض الحكام فعلوا ما سبق، بيد أنها لم تكن وتيرة عامة، ومنذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم نجده يُجلي بني قينقاع دون غيرهم حين نقضوا العهد، فلم يأخذ الجميع بخطأ الفئة الواحدة، حتى مع الأسرى المحاربين تعامل النبي بالرفق، يقول أبو عَزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير: «كنت في الأسرى يوم بدر فقال رسول الله: استوصوا بالأسارى خيرا. وكنت مع رهط من الأنصار حين قفلوا فكانوا إذا قدموا طعاماً خصوني بالخبز وأكلوا التمر لوصية رسول الله إياهم بنا، ما يقع في يد رجل منهم كِسْرة إلا نفحني بها. قال فأستحي فأردها على أحدهم فيردها عليَّ ما يمسها». ولم يفرق النبي بين الناس، بل الجميع كأسنان المشط، وإذا كان أوباما الأسود دخل بأعجوبة إلى البيت الأبيض بعد نضال طويل من السود في الولايات المتحدة لاقوا فيه من العنصرية والضيم ما سجله التاريخ الأمريكي المروّع، فإن هذا الحق قد منحه الإسلام قبل 1400 سنة من غير نضال ولا تنكيل، بل صار حقا ودستورا بمجرد قول رسول الله: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ولو لحَبَشِي كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ».

كما أننا نجد ذلك واضحًا في فتوحات بلاد فارس والروم، فلم يطرد عمر بن الخطاب أهل الذمة من ديارهم بالقدس، بل عقد لهم العهد والمواثيق لهم ولأعقابهم، ومن ذلك قول البطريق النسطوري يشوع ياف إل سمعان رئيس أساقفة فارس، وقد أخافه تسارع الناس إلى الدخول في الإسلام: «أين أبناؤك أيها الأب، إن العرب (يقصد المسلمين) الذين منحهم الله السلطان يشاهدون ما أنتم عليه … ومع ذلك فهم لا يحاربون العقيدة المسيحية، بل على العكس يعطفون على ديننا، ويكرمون قسيسينا، ويجودون بالفضل على الكنائس والأديار، فلماذا هجر شعبك من أهل مرو عقيدتهم من أجل هؤلاء العرب؟ ولماذا حدث ذلك أيضًا في وقت لم يرغمهم فيه العرب -كما يصرح بذلك أهل مرو أنفسهم- على ترك دينهم؟».

ولما كان المسيحيون يعيشون داخل المجتمع الإسلامي كجزء من تكوينه وجدنا الخلفاء والأمراء المسلمين يتعاملون مع الجميع بمبدأ الكفء، حيث نجد أن الديانة لم تمنع المسيحيين واليهود من الوصول لأعلى المراتب الإدارية والعلمية، فنجد معاوية بن أبي سفيان يلحق المسيحيين بخدمته، وكذلك فعل عبدالملك بن مروان فكان أحد مستشاريه هو أبو القديس يوحنا الدمشقي، وبلغ سلمويه وأخوه إبراهيم منزلة الوزارة في عهد المعتصم بالله العباسي، ووصل إسرائيل إلى منصب رئيس ديوان الجيش في عهد المعتضد، حتى أن ديوان الخراج والوظائف المالية ظلت محتكرة من قبل أهل الذمة لبراعتهم في هذا الأمر، ولما دخل صلاح الدين القدس لم يقتل أهلها مثلما فعل الصليبيون، بل عاهدهم وأحسن معاملتهم، ونجد أن النقيض حدث مع المسلمين أثناء دخول الصليبيين القدس، فيقول المؤرخ الصليبي الذي حضر الحروب الصليبية ريمونداجيل:

سفك تانكرد وجودفري في المقدمة كمية لا تصدق من الدماء، وأنزل زملاؤهما الذين كانوا في أعقابهم آلامًا شديدة بالمسلمين.. فقد قطعت رؤوس بعض المسلمين بلا رحمة… وتكدست في الطرقات والبيوت الرؤوس والأيدي والأقدام، وفعلاً فقد كان الفرسان والرجال يجرون جيئة وذهابا فوق الجثث.

لم يعامل المسلمون المسيحيين بالمثل، بل يخبرنا الأمير أسامة بن منقذ في كتابه «الاعتبار» عن المساعدات الطبية التي قدمها لبعض جنود الصليبيين، ولم يبالِ بأنهم يحاربونه؛ فقد نظر للأمر من منطلق إنساني، كذلك لم نرَ أهل الأندلس أثناء الحروب الصليبية في المشرق يضطهدون المسيحيين، ويقتلونهم كعقاب جماعي لإخوانهم بالمشرق، ولكنهم فرقوا بين هؤلاء وأولئك، فلم تستفزهم الحمية.

إن قضية إجلاء الذميين لم تكن – بحسب اطلاعي – إلا حوادث نادرة كان لها أسبابها ودوافعها، كيهود المدينة وخيبر وفدك حين غدروا، ثم نصارى نجران، وإجلاء نصارى غرناطة عهد علي بن يوسف بن تاشفين، وقد أجلاهم نتيجة تحالفهم مع ابن ردمير حيث ساعدوه في دخول غرناطة، ولم يجلهم حتى أفتى له بذلك الفقيه ابن رشد الجد، وبالتالي لا يمكن اعتبارها سياسة ثابتة لخلفاء المسلمين. ولم يكن هناك شيء لافت للنظر في علاقة الدولة برعاياها من اليهود كمثال سوى ما حدث في عهد الخليفة المتوكل بالله العباسي (232-247هجرية) عندما أمر في سنة 235 هـ بفرض القيود على ملابس أهل الذمة في سائر أنحاء الدولة العباسية ومنع عملهم في الدواوين، ولكن الأمور لم تلبث أن عادت إلى سيرتها الأولى، وقد تكرر الأمر في حوادث أخرى كثيرة، لكن سرعان ما كانت الحرية تعود لغير المسلمين، في ممارسة شعائرهم وطقوسهم، وفي انخراطهم في المجتمع.

ومن ناحية أخرى، فإن الجوانب المتعددة لأوضاع المعاهدين في ظل الحضارة العربية الإسلامية تشير بوضوح إلى الحقيقة القائلة بأنهم كانوا جزءا عضويا من الكل الحضاري، وكان الأمر نتاجا للموقف الإسلامي من «الآخر الديني». إذ إن الإسلام لم ير في الآخر عدوا، ولم ير في الاختلاف جريمة ينبغي معاقبته عليها، أو حتى التسامح إزاءها مثلما كان موقف الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى تجاه الآخر الديني حتى لو كان مسيحيا من مذهب أو طائفة أخرى.

لقد كان التسامح سمة من سمات التعامل مع الأقليات؛ تسامح انطلق أصلا من النص الديني، والوحي المقدس، لذا وجدنا الكثير من العلماء والشعراء والوزراء من الأقليات يصلون لمناصب عليا داخل الدولة طوال فترات التاريخ الإسلامي؛ إذ لم تمنعهم ديانتهم من ذلك، إلا ما كان استثناء من القاعدة المطردة، فلم يكن في المقابل المجتمع الإسلامي ملائكيا بلا خطيئة طوال فترات التاريخ.

وفي نهاية المقال نود أن نسأل سؤالا إن كانت الحضارة العربية الإسلامية المزدهرة ساهمت في حفظ وإحياء التراث غير العربي أينما وجدته، فهل سلك الغرب السلوك نفسه مع الملل والنحل الأخرى، خاصة دين الإسلام وحضارته، وهل ما نشهده الآن من تعامل الغرب، خاصة اليمين المتطرف منه، مع الأقليات والتصريحات العنصرية يمثل صورة مقابلة لتعامل المسلمين في ظل الحضارة الإسلامية مع الغير؟!

المراجع
  1. 1- أحمد شحلان، التراث العبري اليهودي في الغرب الإسلامي.منشورات وزراة الأوقاف، المملكة المغربية.
  2. 2- إدوارد غالي الدهبي، معاملة غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.دار غريب.
  3. 3- ابن عذارى، البيان المغرب ، دار الغرب الإسلامي ج3.
  4. 4- عبدالمطلب مصطفى، أهل الذمة في الأندلس خلال الحكم الأموي.ماجستير
  5. 5- جوستاف لوبون، حضارة العرب،مؤسسة هنداوي.
  6. 6- مونتجومري وات، فضل الإسلام على الحضارة الغربية،دار الشروق.
  7. 7- يوسف القرضاوي، الأقليات الدينية والحل الديني، دار الشروق.
  8. 8- سلوى علي ميلاد، وثائق أهل الذمة في العصر العثماني، دار الثقافة.
  9. 9- سير توماس ارنولد، الدعوة إلى الاسلام ، مكتبة النهضة المصرية.
  10. 10- جميل عبد الله محمد المصري، الإسلام في مواجهة الحركات الفكرية، دار أم القرى.
  11. 11- ريموندا جيل ، تاريخ الفرنجة غزاة بيت المقدس، دار المعرفة الجامعية.
  12. 12- قاسم عبده قاسم، اليهود فى ظل الحضارة العربية الإسلامية، مقال منشور بموقع دار عين.
  13. 13- راغب السرجاني، حقوق الأقليات في الحضارة الإسلامية، مقال منشور بموقع طريق الاسلام.
  14. 14- أحمد الظرافي، هل حقًا فكر المسلمون في إجلاء نصارى الأندلس، منشور بموقع مجلة البيان.