الإمبريالية أو التوسع الإمبراطوري هو تبني الدولة أو ممارستها لسياسة السيطرة والتوسع عن طريق حيازة أراض جديدة أو السيطرة السياسية والاقتصادية على الأمم الأخرى. رغم أن التوسع الإمبراطوري ممارسة قديمة قدم الممارسة السياسية نفسها؛ لأن سيادة الدولة لم تكن سوى الأرض التي تحتلّها هذه الدولة أو تتوسّع فيها بالقوة العسكرية، إلا أن هذا المفهوم اكتسب أهمية خاصة بعد ظهور الدولة الوستفالية الحديثة حيث ظهرت الأمة كمفهوم سياسي أو كحدود سياسية. لم يعد التوسع الإمبريالي فعلاً مشروعًا مرتبطاً بقدرة الدولة بل أصبح اعتداءً على أمة سياسية أخرى. أصبحت «الإمبريالية» من هذا المنطلق مفهومًا خطابيًا مُداناً لكن بما أن الفعل والممارسة لم يختفيا، أدى هذا إلى ظهور عدة خطابات مبررة للإمبريالية وعدة خطابات فاضحة ومدينة لها.


الإمبريالية والكولونيالية

في هذا السياق الحديث يصبح من المهم التفرقة بين مصطلحي «الإمبريالية» و«الكولونيالية» باعتبارهما مفهومينِ مختلفين تنضوي تحت كل منهما خطابات تبريرية مختلفة. بإمكاننا أن نقول إن الكولونيالية كانت أسبق تاريخيا من الإمبريالية الحديثة التي وصفت النهج السياسي للإمبراطورية البريطانية في بداية القرن التاسع عشر. الخطاب الكولونيالي بالأساس يبرّر نفسه من خلال ما سُمي تاريخيا بـالكشوفات الجغرافية الجديدة، باعتبار أن الأراضي المكتشفة هي أراض بكر قابلة للاستيطان والاستغلال دون أي اعتبار للسكان الأصليين باعتبارهم «أقل إنسانية أو تحضرًا». الساكن أو المواطن الأصلي في هذه الحالة ليس هدفًا للإخضاع السياسي والثقافي والاقتصادي بل هو شيء من الأشياء التي يفضل لو لم تكن موجودة أصلا. في أحسن الأحوال إن لم تتم إبادته كان يختطف ويباع عبدًا في أرض أخرى تبعد آلاف الأميال عن أرضه الأم.

في المقابل فإن الخطاب الإمبريالي جاء في سياق المنافسة العالمية بين القوى المختلفة للسيطرة على جميع أرجاء العالم بما فيها العالم القديم بما يحويه من حضارات وأمم لا يمكن للخطاب الكولونيالي بما فيه من عناصر التجاهل والاختزال تبرير السيطرة عليها. الفعل الإمبريالي نفسه يختلف عن فعل الاستيطان فهو يهدفُ للسيطرة السياسية والاقتصادية والعسكرية على الأمة المحتلة في مواجهة خصوم ومنافسين إمبرياليين آخرين وليس إبادتها وشغل مكانها. على أن المرحلة الإمبريالية أو مرحلة التوسع الأوروبي الثانية لم تنشأ عن دوافع بسيطة أو لا يمكن اختزالها في أسباب اقتصادية أو سياسية محضة، إنما مثّلت مرحلة مهمة من تاريخ علاقات أوروبا مع ما حولها، أو المرحلة التي شهدت تشكل الأوروبي في مواجهة الآخر، بكل ما يشكّله هذا الأوروبي من معرفة وثقافة وعرق وجغرافيا وتاريخ.

لتبرير سيطرة الأوروبي على الآخر المختلق – بحسب إدوارد سعيد – ظهرت مجموعة خطابات تبريرية تستند على المعرفة «الاستشراقية». من خلال هذا الخطابات حاول الغرب نشر قيمه باعتبارها قيمًا كونية تدعو للخير والجمال والديمقراطية والازدهار والنماء والتقدم، مقابل ما يمثله الآخر من تخلف وبربرية ومعاداة للحرية وحقوق الملكية والمرأة. من هذه المنطلقات فرض الغرب على الشعوب المحتلة روايته للتاريخ مقابل أساطير وخرافات الحضارات الأخرى، ومعرفته بالجغرافيا القائمة على الاستكشافات الحديثة مقابل المعرفة المحلية، فرض سككه الحديدية وتلغرافه وأسلحته وطريقته واستراتيجياته العسكرية. هذا الفرض كان عن طريق تفكيك مؤسسات وطرق التعليم والإدارة والحكم وإنشاء مؤسسات وأنظمة مقابلة. حول المركز الإمبراطوري دول الهامش أو التوابع إلى نسخ باهتة منه دون استقلالية حقيقية أو حتى معرفة بالذات تمكنه من المقاومة.

يغلف هذا الدور الفعال للمعرفة الغربية في العملية الإمبريالية عدة خطابات تبريرية تستند إلى نظريات علمية منها «الداروينية الاجتماعية» و«نظرية الأعراق» اللتان أشارتا إلى أفضلية معينة للجنس الأوروبي تسمح له بالعقلانية والكفاءة والسيادة. وتداخلت معهما نظرية «الحتمية البيئية» التي كانت تنصّ على أن المناخ الاستوائي لا يسمحُ بنشوء بشر متحضرين؛ وأن الحضارة تتطلب ظروفًا بيئية وجغرافية معينة تتوافر لدى المركز الأوروبي. يبقى التساؤل إن كان فعل الإمبريالية وسيطرة شعب ما على شعب آخر فعلاً تاريخيًا سائداً ومعتاداً فلماذا احتاج الإنسان الغربي لكل هذه الطبقات والتراكمات من التبرير والتأصيل المعرفي؟!


الإمبريالية باعتبارها مهربًا وذروة

يولد الخطاب عادة من التوتر، وهو يسعى إما لتأسيس سلطة أو تكريسها. إذا كانت النخب والقوى التي صنعت الحداثة في الغرب بحاجة لتبرير مشروعها الإمبريالي؛ فذلك لأنها أسّست وكرّست سلطتها على خطاب مغاير ومناقض؛ خطاب الحرية والمساواة الإنسانية والعقلانية والديمقراطية باعتبارها قيماً كونية في مواجهة استبداد النبلاء والكنيسة. لكن هذه القوى وجدت نفسها في النهاية تخالف هذه القيم بسبب بنيتها الرأسمالية التي لم تكن تسمح سوى بالتوسع، وهنا يصف لينين الإمبريالية بأنها «تشكّل ذروة الرأسمالية ومصيرها المحتوم». بعبارة أخرى فإن البرجوازي الغربي الذي وصل إلى السلطة بإزاحة الطبقة الحاكمة القديمة مستعملا شعارات الحرية والمساواة والديمقراطية، وجد نفسه في حاجة لاحتلال واستغلال شعوب أخرى ليبقى في موقعه السلطوي ذاك، حينها وبحثاً عن نوع من الاتساق برّر هذا الاحتلال بأن الآخر «أقل حضارة أو إنسانية أو غير موجود أصلا».

هذه المقاربة اللينينية وإن بدت منطقية، إلا أنها تعجز عن تفسير أشكال الإمبريالية التي لم تنطلق من بورجوازية الغرب كإمبريالية الاتحاد السوفيتي التي أنشأها خلَفه جوزيف ستالين بدعوى «البلد الواحد للشيوعية»، أو حتى الأشكال ما قبل الحداثية للإمبريالية التي انطلقت من دوافع غير اقتصادية دينية كانت أو ثقافية أو جيوسياسية. هنا قد تكون المقاربة التي أشارت حنة أرندت في كتابها «أسس التوتاليتارية» والتي تصف فيها الإمبريالية النازية أو إمبريالية الدول الاستبدادية أقرب لفهم ظاهرة الإمبريالية بشكل عام. وهي أن أي سلطة تؤسس نفسها على وهم مفاده أن خطابها يسع جميع أفراد المجتمع باعتبارهم وحدات متماثلة أو أفراداً متماثلين ثم ما تلبث تحت ضغط خواء هذه الفكرة لخلق آخر خارجي مختلف، هذا الآخر المختلف يعمل كدينامية لإذابة الاختلافات في جسد السلطة وخطابها. تسعى السلطة إذاً بدافع من كونية قيمها ووحدتها الداخلية المزعومة إلى إخضاع الآخر لهذه القيم، وهذه الوحدة تكون بحاجة دائمة للتمدد، ولمزيد من الإخضاع حتى تصطدم بعوائق بنيوية أو لوجستية، أو بمنافسين أقوياء قادرين على إيقاف هذا الزحف الإمبريالي.


إمبريالية العصر الحديث أو الهيمنة عن بعد

بعد الحرب العالمية الثانية لم تعد المجتمعات ما بعد الصناعية قادرة أو راغبة في الحفاظ على سيطرة عسكرية وسياسية مباشرة على الدول المستعمرة وتحديدًا في ظل صعود خطابات القومية وحركات التحرر اليسارية والثورية في كل أرجاء المعمورة. انتقل المركز الإمبراطوري على إثر ذلك من أوروبا العجوز إلى أمريكا الفتية، ومعه انتقلت حزمة من الوسائل سهّلت لأمريكا بسط هيمنتها على العالم. أول هذه الوسائل أنظمة الحكم التي خلّفتها الدول الاستعمارية، والتي هي خليط من نخب رأسمالية كومبرادورية تابعة بالأساس للمركز الإمبراطوري ومرتبطة به عضويًا ونخب عسكرية قادرة – عند ضمان ولائها – على إسكات أي حركة مقاومة أو تمرد أو معارضة.

تحكم هذه النخب التابعة تقسيمات سياسية هدفت بالأساس إلى أغراض تنافسية استعمارية، وافتقدت في أحيان كثيرة إلى وحدتها الداخلية أو مشروعها المؤسّس أو الأساسات التي تتخيل بها نفسها كأمة واحدة بتعبير بندكت أندرسون في كتابه «الجماعات المتخيلة». في ظل غياب هذه المشروعية المحلية تحولت النخب الحاكمة إلى طبقة منفصلة عن المجتمع تعتمد في بقائها على الدعم الإمبريالي الخارجي مقابل تأمين مصالحه وضمان تدفق الثروات والمواد الخام من الأطراف إلى المركز. المفارقة في الأمر أن هذه الحكومات حتى التي أسست شرعيتها على شعارات معاداة الإمبريالية إما أنها اتبعت سياسة مزدوجة يخالف فيها قولها فعلها، أو ارتمت في حضن قوى إمبريالية أخرى منافسة إقليمية كانت أو عالمية.

وبناء على ذلك، يصبح تبني سياسات معادية للإمبريالية من قِبل مثقفي اليسار والقوميين عبر التحالف مع هذه الأنظمة خطأ مزدوجاً، وتناقضًا فجًا؛ فإنهم بانغلاقهم على المقاربة اللينينية وحدها لا يصبح بإمكانهم رؤية أشكال الإمبريالية الأخرى للقوى الإقليمية أو العالمية غير الغربية. ثانيا، أن التحالف مع هذه الأنظمة المصطنعة ومعاداة سعي الشعوب للحرية فإنهم يساهمون بجد في القضاء على أي أمل فعلي في التحرر من إمبريالية الغير وتأسيس المشروع الأصيل وربما حتى «الإمبريالي» الذي يعبر عن روح هذه الشعوب وأصالتها.

المراجع
  1. ENCYCLOPEDIA BRITANNICA: imperialism
  2. لينين: الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية
  3. حنة أرندت: أسس التوتاليتارية، دار الساقي الطبعة الثانية
  4. بندكت أندرسون: الجماعات المتخيلة تأملات في أصل القومية وإنتشارها، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط 1