من النعمان بن المنذر إلى ميشيل عفلق وجورج حبش، ومن الأخطل إلى فيروز والرحابنة، ومن حاتم الطائي إلى مي زيادة ويوسف شاهين، هل يمكنك أن تتصور العرب دونهم؟

رغم تضاعف أعداد المسيحيين في العالم العربي 4 مرات على مدى القرن العشرين فإن نسبتهم إلى إجمالي السكان انخفضت من 10% في عام 1900 إلى ما دون الـ 5% في 2010.

تراجعت نسبة المسيحيين في الأردن طوال القرن الماضي لتبلغ 3% فقط، وانخفضت نسبة المسيحيين في لبنان من 50% إبان إحصاء عام 1932، وهي نسبة حوفظ عليها حتى سنوات الحرب الأهلية، إلى أقل من 40%، يشكل المارون نصفهم تقريبا، في 2012 وفقا لـ تقديرات الـ CIA.

ليس بالإمكان إرجاع هذه الظاهرة فقط إلى تباين معدلات المواليد بين المسلمين والمسيحيين، بل أيضا إلى التباين الكبير في معدلات الهجرة إلى خارج الوطن العربي؛ إذ مثل المسيحيون نسبة كبيرة من المهاجرين العرب من بلاد الشام إلى دول العالم الجديد طوال القرن العشرين. وتعد فلسطين مثالا مهما لذلك، إذ تناقص تعداد مسيحييها إلى ما دون النصف جراء الهجرة هربا من ممارسات الاحتلال الإسرائيلي.

لكن الانخفاض الأكثر حدة وعنفا يظل هو ما حدث لمسيحيي العراق، حين تراجع تعدادهم من 1.5 مليون نسمة قبيل الغزو الأمريكي إلى نصف مليون نسمة في 2013، أي خلال عقد واحد فقط، كما تهدد الحرب الأهلية الدائرة في سوريا بمصير مشابه لمسيحييها التي تشير بعض الدراسات إلى تراجع أعدادهم إلى نصف ما كانت عليه قبل اندلاع الثورة.


حضارة تتآكل صفحاتها

في إصداره الأخير بعنوان «مستقبل الأديان في العالم» في 2015، توقع مركز بيو للأبحاث بواشنطن استمرار تراجع الوجود المسيحي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ليبلغ 3% فقط في 2050، إذا ما استمرت معدلات النمو والهجرة على النحو الحالي.

لم يتمثل الوجود المسيحي العربي في مجرد التعايش المتسامح، بل المساهمة الفعالة في بناء الحضارة العربية الإسلامية على مدى تاريخها.

هذه الظاهرة تعد فريدة في تاريخ المنطقة التي شهدت مولد الرسالة المسيحية؛ فعلى مدى ألف عام أو أكثر شهدت نسبة المسيحيين في العالم العربي تراجعا، عائدا بالأساس إلى التحول للإسلام خلال القرون الهجرية الأولى، لا للهجرة خارج الشرق الأوسط، لتستقر بعدها نسبة المسيحيين لقرون طويلة فوق الـ 10% من إجمالي ديموغرافيا العالم العربي.

طوال هذه الحقبة المديدة لم يتمثل الوجود المسيحي العربي في مجرد التعايش المتسامح، بل المساهمة الفعالة في بناء مختلف أوجه الحضارة العربية الإسلامية على مدى تاريخها، من بناء المساجد في الشام، إلى ترجمة الفلسفة في بغداد، إلى الحكم والوزارة في القاهرة، وانتهاء بالدور البارز للمسيحيين العرب في صعود القومية العربية، إبان عصر النهضة العربي، والثورة العربية في 1916، ثم تأسيس أحزاب القومية العربية، الأمر الذي جسد رغبة في التوحد تحت مظلة الهوية الحضارية المشتركة، التي للمسيحيين – المنتمي كثير منهم لقبائل عربية أصلا اعتنقت المسيحية، وظلت على دينها بعد ظهور الإسلام – فيها نصيب بقدر ما للمسلمين.

من هذا المنطلق بإمكاننا أن نقدر حجم التهديد الذي تشكله ظاهرة هجرة/تهجير المسيحيين العرب، ليس فقط على حاضرنا ومستقبلنا القريب المهدد بمزيد من الغرق في دوامات العنف الطائفي، حيث الكل مغلوب، بل مستقبلنا الأبعد أيضا عبر اقتطاع جزء من رأسمالنا البشري، الذي هو رأسمالنا المستقبلي الوحيد، في منطقة تعاني من نقص الموارد والعجز عن مراكمة الثروة، وفي عالم تمثل قضايا الديموغرافيا محور صراعاته الأساسي.


كيريالايسون

http://gty.im/52599314

تقف منطقة الشرق الأوسط على حافة حرب طائفية شاملة ومدمرة. وسط تفاعلات الثورات التاريخية، وأسئلة الهوية والحداثة، وضغوط العولمة والمصالح الخارجية، وواقع الاحتلال والاستبداد، شهد الشرق الأوسط تفجرا متزايدا للصراعات الطائفية راح ضحيتها الملايين من الأنفس من شط العرب وحتى حلب، دون الوصول بعد إلى إجابات لكل هذه الأسئلة المعلقة، والمعلق عليها مستقبل المنطقة.

لم يكن المسيحيون بدعا من سكان الشرق الأوسط، إذ طالتهم هم أيضا شلالات الدماء ودوائر العنف التي أجبرت أعدادا غفيرة منهم على هجرة أراض لطالما احتضنت تاريخهم، وكنائسهم، ورفات أجدادهم.

فمدينة كالموصل، كانت لقرون طويلة واحدة من أهم مراكز الوجود المسيحي في الشرق الأوسط، هجرها مسيحيوها فرارا من تنظيم داعش الذي طبع نونه المشؤومة على بيوتهم تمهيدا لإجراءات تمييز واضطهاد بحق سكانها.

وتشير التقارير أيضا إلى تراجع حاد لأعداد المسيحيين في سوريا، إثر هجرة جماعية واسعة، جراء دوامة العنف الدموية الدائرة في البلاد منذ اندلاع الثورة وتحولها لحرب أهلية سقط فيها المسيحيون بين سندان الجماعات المتطرفة ومطرقة النظام الدموي.

يختتم المشهد الأسود بمصر التي، وعلى الرغم من ترديد النظام لأكليشيه «محاربة الإرهاب» و«استعادة هيبة الدولة» ووعود «تسليم سيناء متوضية من الإرهاب في أسبوعين»، إلا أن العنف المتطرف قد عاد إليها بصورة أكثر بشاعة من عنف الثمانينيات، ليتجاوز الضباط والمجندين وصولا للاستهداف الممنهج للمدنيين المسيحيين، من القتل الجماعي في ليبيا بالغرب، إلى التهديد والتهجير القسري لـ 80 عائلة من سيناء في الشرق، مرورا بتفجير الكنيسة البطرسية في قلب القاهرة.


حماية التهجير

عند البحث عن مسألة العنف والتهجير في الشرق الأوسط تطالعك على الفور الإحالات الغربية إلى التطرف المتنامي في منطقة الشرق الأوسط وفي ظل حملات الحرب على الإرهاب الأمريكية، لكن هذه المصادر لا تشير من قريب أو بعيد لدور الغرب المهم في تهجير المسيحيين من الشرق الأوسط، مؤكدين أن الشرق نفسه هو سبب مآسيه الأوحد، وربما سبب مآسي العالم أيضا.

لكن جانبا آخر من القصة يقبع في الظلال؛ فظاهرة التناقص المطرد في نسبة الوجود المسيحي في الشرق الأوسط، وهجرة المسيحيين العرب إلى الخارج، تعود لأبعد من الألفية الحالية، التي شهدت تصاعد العنف والتطرف ونمو التنظيمات الإرهابية، وإذا ما أردنا تتبعها حقا فعلينا أن نعود إلى القرن التاسع عشر مع توجه الغرب الاستعماري باتجاه الشرق الأوسط.

مثل «حماية الأقليات» بابا رئيسيا للتدخل الغربي في شئون الدولة العثمانية، التي حكمت معظم بلدان الشرق الأوسط، ومهد لاحقا لتحول هذا التدخل إلى احتلال على أرض الواقع.

لاسيما في الشام حيث شجعت فرنسا الأقلية المارونية على المطالبة بتشكيل دولة منفصلة خاضعة للحماية الفرنسية، واختارت المارون مترجمين في بعثاتها الدبلوماسية، وطلابا في مدارسها، وشركاء محليين لتجارتها الأمر الذي أدى إلى صراع واختلال طبقي في المجتمع اللبناني على أساس ديني، بدا فيه المارون كأنما قد ازدادوا قوة وثراء بفضل وشائجهم مع فرنسا، الأمر الذي تولد عنه سلسلة من العنف والثارات المتصلة – منذ المجازر المارونية / الدرزية في منتصف القرن التاسع عشر، وحتى الحرب الأهلية اللبنانية وما بعدها – مثلت مبررا جاهزا لجيوش الاحتلال، من فرنسا وحتى إسرائيل، للتدخل في لبنان بدعوى حماية المارون.

دور مشابه أيضا لعبته بريطانيا في العراق ومصر حيث طالب اللورد «كتشنر» في 1913 بإقرار تمثيل للمسيحيين في المجلس النيابي المصري على أساس النسبية الطائفية، الأمر الذي رفضه وقتها الأقباط وأصر عليه كتشنر، بالإضافة إلى التحفظات الأربعة البريطانية على استقلال مصر والتي كان على رأسها: «حق حماية الأجانب والأقليات»، في جملة واحدة تسعى لضم المجموعتين المختلفتين في خندق واحد تحت مظلة الحماية البريطانية، على الرغم من المشاركة القبطية الواسعة في ثورة 1919 وفي تكوين الوفد المصري المطالب بالاستقلال.

فعلى الرغم من دعاوى «الأخوة المسيحية» و «حماية الأقليات» التي رفعتها الدول الغربية فإنها تعاملت دوما مع المسيحيين العرب انطلاقا من مصالحها هي، لا مصالحهم، ولا حتى المصالح المشتركة. الأمر الذي تجلى في مشهد فتح الدول الغربية أبوابها مشرعة للمسيحيين العرب خاصة، ليعوضوا التراجع الديموغرافي الذي تشهده تلك الدول، ويسهل عليها امتصاصهم في منظومتها المجتمعية، بعد سلخهم من هويتهم الحضارية التي ينتمون إليها، بدلا من أن يسعى الغرب لحمايتهم -حقا- من خلال مساعدتهم على البقاء في بلادهم، ومواجهة جذور المشاكل الاقتصادية والأمنية والسياسية التي دفعتهم للفرار من بلدانهم.


البيريه والتاج

لم تتجاوز دعوى «حماية الأقليات» الغربية كونها مبررا لاحتلال الشرق الأوسط، ثم لابتلاع المسيحيين العرب وسلخهم من حضارتهم.
هناك نكتة لطيفة كانت تروى عن الرئيس المصري الأسبق «حسني مبارك»: في أحد المؤتمرات التي تجمع نخبة المثقفين والفنانين بالرئيس، راعي الفن والثقافة والرياضة وكل شيء، يسأل أحد المثقفين مبارك: هل من الممكن أن يأتي اليوم الذي يخلفك فيه رئيس مسيحي لمصر؟! يرد مبارك، بعد لفظ استهجاني: ولا حتى مسلم!!.

الدولة العربية الحديثة، التي لم تعرف في معظم تجلياتها سوى الطابع العسكري الديكتاتوري المروج لتحديث وعلمانية مشوهين، والتي كانت من المفترض أن تدعم مبادئ المواطنة والمساواة، بدلا من ذلك كرست إرث الاحتلال الطائفي في هياكلها الحكومية وبنية جيوشها ومؤسساتها الأمنية، ومارست سياسات التخويف المتبادل بين الأقلية والأغلبية، لتحافظ على سيطرتها الداخلية وصورتها الخارجية، بالضبط كما كانت تسير سياسات الاحتلال الأجنبي.

تراكمت هذه الممارسات البائسة، بجانب قدرة مبهرة على ممارسة الفساد والعنف، إلى الحد الذي بلغ فيه السيل الزبى، وانطلق جارفا في طريقه خيالات الاستقرار المزعوم، وبقايا السلام المجتمعي الذي أشبعته أنظمة «الاعتدال» و«الممانعة» على حد سواء تمزيقا وترقيعا.

كان رد الفعل الأولي للجماعات المكونة للمجتمع العربي تجاه استبداد الأنظمة الحديثة، وعنف وفوضى انهيار هذه الأنظمة، اللذين يهددان بـ «تذرير» تلك الجماعات، هو مزيد من «العودة إلى غطاء البنى العضوية (الطائفية والعشائرية) لحماية أنفسهم»، بدلا من الضغط على الدولة الحديثة للقيام بواجبها في إقرار مبادئ المواطنة والمساواة.

وبدلا من دعم قضايا الديموقراطية والمواطنة كضمانة للحقوق المتساوية والمناعة من الاضطهاد، تحالف أصحاب النيافة مع البيريه العسكري ووجهوا الشكر له عدة مرات على تدميره لأسس الديمقراطية والمواطنة وتلغيمه لمستقبل الشعوب.

مستقبل العالم العربي مرهون بـتأسيس دولة الديمواقراطية والمواطنة الحقيقيتين، والتي يصفها عزمي بشارة بأنها «دولة مجتمع مدني نحو الداخل وأمة نحو الخارج». الأمر الذي يستلزم إيمانا عميقا لدى المجتمعات والنخب السياسية، بما فيها الأحزاب الإسلامية إن شاءت أن يكون لها مستقبل، بهذه الحاجة الماسة، كأداة وحيدة ليس فقط للخروج من دوائر العنف الطائفي والاحتراب الأهلي المفرغة، بل للعودة مرة أخرى للفاعلية الحضارية، بدلا من الانشغال بحروب بسوس جديدة.

دروس التاريخ الحديث وخبرة القرنين التاسع عشر والعشرين تعلمنا أن تحقيق هذا الامتزاج الكامل بين المسلمين والأقباط كان رهينًا بنمو الحركة الديموقراطية، وبالبناء الديموقراطي لأجهزة الدولة والمؤسسات السياسية.
طارق البشري
المراجع
  1. طارق البشري، المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية
  2. مؤهلات التحول الديمقراطي.. قراءة في كتاب المفاهيم الأيديولوجية في مجرى حراك الثورات العربية