لم يكن أدولف أيخمان الذي نظم عملية نقل اليهود إلى معسكرات الموت شريرًا استثنائيا وساديًا، لم يكن حتى كارهًا لليهود، والأعجب أنه قرأ كتاب «الدولة اليهودية» لثيودور هرتزل، وكان مؤمنًا بالقضية اليهودية وبضرورة إيجاد حل لها. لقد كان الهدف الذي يحثُّ إيخمان للاستيقاظ صباحا كل يوم والذهاب إلى عمله في مكتبه هو وضع أرض تحت أقدام اليهود. حين جاءت الأوامر العليا بتطبيق «الحل الأخير» فقد أيخمان – على حد تعبيره – رغبته وحبّه للعمل، ولكن كان عمله على حال وكان الشيء الذي يجيده، فقد كان المختص الوحيد بالشؤون اليهودية في منظومة الحرس الحديدي النازية «الأس أس».

لقد ارتكب أيخمان أفعالا يكافئ المرء عليها في حالة الانتصار ويجر بسببها إلى المشنقة في حالة الهزيمة
محامي أيخمان أمام المحكمة

إن هذه النسبية الأخلاقية جذر متأصّل في الحداثة، لكنها لم تكن كافية لإتمام المحرقة. استثنائية المحرقة واختلافها عن باقي جرائم الإبادة الجماعية تكمنُ في الكفاءة البيروقراطية الشديدة التي أنجزت بها، وكونها شملت أوروبا كلها. تتجاوز المحرقة سؤالَ الدولة القومية، وكون الجماعات اليهودية شكّلت جماعات هوياتية متجاوزة للحدود القومية إلى التعبير الكامل عن البراعة الصناعية، والإنتاجية الكاملة للعصر الحديث.


الموت المعلّب!

لقد تم تصنيع الموت من مادته الخام «البشر» بطريقة المصنع في تقسيم العمل والتسجيل الدقيق للأرقام والإحصاءات والبيانات والتخصّص المهني الشديد الذي جعلَ أممًا وأفرادًا بكاملهم مشاركين في عملية قتل جماعي دون أن يكونوا على وعي أخلاقي كامل بنتائج أفعالهم.المثير في الأمر أن السلطات العليا الألمانية استبعدت من عملية الإبادة والقتل كلّ من له مشاعر شخصية، أو دوافع ورغبات كامنة، وكانت ترى أن هذه الرغبات تحول أمام العمل وليس مساعدًا له؛ فـ«عملية تطهير أوروبا» أن تكون عملية بيروقراطية طبيعية تماما تتم بأعلى مستويات الكفاءة دون الحاجة للارتداد عن منجزات المجتمع الحديث، وترشيد العنف الاجتماعي، والعقلانية الكامنة خلف قرارات الدولة القومية الحديثة.

لقد رغب الفرنسيون المعادين للسامية وكذلك أيضا بعض الفرنسيون غير المعادين للسامية في ذهاب اليهود الأجانب للإقامة في مكان آخر ولكن لا يريدون أبدا على الإطلاق أن يكونوا شركاء في جرائم جماعية.
حنة أرندت

في الحقيقة لم يرغبْ جميعُ الأوروبيين أن يكونوا شركاء في جرائم إبادة جماعية، حتى ذلك المواطن الألماني البسيط المؤيِّد للحزب النازي، والمحب لهتلر، لم يكن يرغب في قتل جاره اليهودي؛ لهذا كان على عملية الإبادة أن تدثّر بأغطية كثيرة، منها ما هو رمزي على مستوى اللغة، ومنها ما هو عملي على مستوى التنفيذ. لم تتم الإشارة أبدا إلى عمليات القتل والتهجير والنقل القسري بلغة رمزية، وليس أدل على ذلك من مصطلح «الحل النهائي للمسألة اليهودية» التي استُعملت لوصف تلك العملية. تبدو هذه الكلمة عملية نفعية باردة لا تُخفي وراءها أي نيّات شريرة إلا في صورة رمزية!

على المستوى العملي بدأت عملية التغطية بعزل اليهود عن المجتمعات الأوروبية في جاتوهات قسرية؛ هذا العزل لم يكن يتيحُ إمكانية التعاطف، أو إمكانية الشعور بالذنب؛ فعمليات النقل والتنظيم، وحتى تشغيل مصانع الموت، وغرف الغاز كلّها كانت تتمّ بطريقة فصل المشغل أو العامل المسؤول عن وضع المواد الكيميائية أو غيرها عن الضحايا؛ لم يكن القتلةُ يَروْنَ ضحاياهم لا قبلَ موتهم ولا بعدها!الأدهى من ذلك أن عمليات التنظيم والضبط وتعبئة القطارات وتشغيل ماكينات ضخ الغاز كانت تتم أغلبها بواسطة أفراد من اليهود أنفسهم بل ومن الضحايا، الذين كانوا يهربون من موت أكثر إيلامًا وبشاعة في حالة الهروب والمقاومة، إلى موت هادئ وسريع. هذه النقطة بالتحديد إلى جانب تعاون الكثير من مجالس الجماعات اليهودية وقادتهم مع النازيين لحصر اليهود وممتلكاتهم والسيطرة عليهم وإجبارهم على ارتداء العلامات المميزة؛ كانت دائما تأتي بحجج عقلانية في إطار الضبط و تنفيذ القانون والتعاون للحفاظ على النظام.لقد كانت مجرد عملية بستَنة على حد تعبير «زيجمونت باومان» حيث يقومُ البستانيُّ بقصِّ الحشائش الضارّة دون أن يعانيَ من وخز في الضمير، بل هو يقوم بواجبه على أكمل وجه لتزيين البستان، وهو أمر باعث على الفخر بالتأكيد، لكن الحقيقة لم تكن كذلك؛ فبعد انتهاء الحرب أصاب الوعيُّ الجمعي الغربي صدمةً عميقة؛ فهو الذي أسّس نفسه على أساطير العقلانية والحضارة والجمال وحقوق الإنسان، وقد وجد نفسه مرتكبًا واحدة من أفظع جرائم الإبادة، ليس على الهامش أو ضد السكان المحليين أو ضد «الآخر» هذه المرة، إنما في قلب الجنة الأوروبية الحديثة وضد مواطنيها!


متلازمة العقلانية البريئة

لقد حاولَ الوعيُّ الغربي بعدها تصوير الأمرِ وكأنّه لحظة استثنائية أو ردة عابرة إلى الجنون، إلى ما قبل العقلانية الأوروبية، جريمة لم تكن في الحسبان على طريق التقدم، وجريمة ليس بإمكانها أن تتكرّر. الوسيلة الدفاعية النفسية الأخرى هي تصوير الغرب لهذه الجريمة باعتبارها جريمة ضد اليهود خاصة، لها أسبابها التي تتعمّقُ في جذر التكوين اليهوديّ، ووضع هذه الجماعة التاريخي، أو حتى ما يمكنُ أن نسميه شعار «معاداة السامية» الذي ينتمي إلى أزمنة ما قبل حداثي،. وما حدث مجرد أصداء لهذا العداء، بعيدة عن العقلانية والمنطق الحديث.لكن الأمر يتجاوزُ مجرّد الردة بحسب «زيجمونت باومان» و «حنة أرندت» ويتموضع في قلب الحداثة بطريقة أو أخرى؛ إذ لم تكن هذه الجريمة ممكنة في ظل تلك الصورة المرعبة دون سيطرة نظام الإنتاج الصناعي، ولم تكن أيضا ممكنة خارج الصيغ القومية الحديثة التي تم فيها وبسببها إعادة إنتاج معاداة اليهود.إن العداء الحديث للسامية لا يجب أن يختلط علينا مع الإضطهاد الديني لليهود في الماضي؛ فبحسب «زيجمونت باومان» و «ثيودور هرتزل» وغيرهم، فإن هذا العداء الجديد ينبعُ من قلب المعادلة الاجتماعية الاقتصادية في العصر الحديث، مع بداية تكوّن الطبقة البرجوازية وعلاقتها المتوترة مع طبقة النبلاء، فلم يكن اليهودُ فلاحين في أوروبا، ولم يكن بالإمكان تحويلهم إلى فلاحين بعد ظهور الصناعة والتجارة الحديثة، لقد انتقل اليهودي من الجيتو، ومن هامش المجتمع، ومن الأعمال الوضيعة الغير تقليدية، إلى قلب المدينة، وإلى التجارة والصناعة وحيازة رأس المال. هذا الموضعُ الطبقيُّ الجديدُ الذي أسَّسه مفهوم المواطنة أدّى إلى رؤيةٍ مزدوجة لليهود باعتبارهم مفسدين للقيم والاستقرار، مِن قِبل طبقةِ النبلاء والمحافظين، وكذلك تم اعتبارهم برجوازيين مضطهدين للعمال والفئات الدنيا. بالنسبة لكارل ماركس فإن تاريخ اليهودية هو تاريخ الرأسمالية، كلاهما بزغ إلى قلب المعادلة الإجتماعية الأوروبية في التوقيت نفسه و ارتبطا معًا ارتباطا عضويًا وسينتهيان النهاية نفسها.إن وصف الدونية واللزوجة الذي التصق باليهود في العصور القديمة بإعتبارهم الشاهد على الرفض الكامل والعقلاني للمغفرة والمحبة التي جلبها المسيح، قد أعيد تدويره؛ ليتم اعتبار اليهود جماعة قومية متجاوزة لفكرة الأرض والوطن، ومستغلة بروز الوضع الطبقي والاجتماعي للمجتمع الحديث؛ لتحوز لنفسها السلطة والمال.

ثيودور هرتزل

هنا تبرزُ الحركة الصهيونية كحلٍّ أمثل لهذه اللاعقلانية التي تتحدّى الحداثة الأوروبية، وتقلقُ منامها؛ فإذا حلَّتِ الدولُ القومية مشاكلَ أوروبا العديدة، فبإمكانها أيضًا أن تحلّ المشكلة اليهودية، علينا أن فقط أن نضع أرضًا تحت أقدام اليهود، أن نخلق لهم وطنًا، ونخصلهم من حالة الدياسبورا التاريخية واللزوجة التي وصمتهم على مر تاريخ الحضارة (المسيحية-اليهودية).


الوريث غير الشرعي

إن اليهود الذين يريدون الدولة اليهودية ستكون لهم وسيستحقونها

إن حالة المشروعية والشعبية التي حققتها الحركة الصهيونية في الأوساط السياسية والشعبية الأوروبية، والتي وصلت إلى حد الاشتباه بنوع من التنسيق بينها وبين السلطات النازية في مراحل مبكرة من صعود هتلر للسلطة؛ ليست نتاجا للنفوذ اليهودي في مؤسسات المال والسلطة فقط، إنما تعبير عن رغبة أوروبية عميقة مشبوبة بعقدة ذنب في إيجاد حل دائم لهذه المسألة على غرار الحلول التي حلّت العديد من النزاعات في أوروبا.الغرب الذي رعى المشاريع الاستعمارية في أفريقيا، والذي كان قادرا على إبادة شعب الهنود الحمر في الولايات المتحدة، وسرقة ثرواتهم في أمريكا الجنوبية لم تمثِّل له قضية الحق الفلسطيني مشكلةً أخلاقيةً إنما هي مشكلة أخرى من مشكلات الهامش والسكان المحليين؛ بمعنى آخر، فإن دولة إسرائيل هي دولة غربية أوروبية استعمارية وجدت لحل مشكلة أوروبية مركزية خاصة.هذا الوضع المميز لدولة إسرائيل يصعبُ على الذهنية الغربية في ظلِّ النظام العالمي، والقوانين الدولية، والأعراف الحالية، تصوّر أيّ حلٍّ للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني يتضمنُ عودة إلى الوراء؛ أي إلغاء وجود هذه الدولة، بل إن الشعارات العربية والإسلامية والرغبة الفلسطينية في إزالة هذه الدولة؛ هي رغبات «متوحشة ما قبل حداثية وغير أخلاقية» من وجهة نظر الغرب المركزي الذي صدَّر مشاكله إلى الخارج، ولم يعد يتخيّل عودتها إليه مرة أخرى.المثير واللافت أن أوضاعًا ما بعد استعمارية، كما حدث في جنوب أفريقيا وأمريكا الجنوبية غير واردة في المخيال الغربي، باعتبار أنها تتجاوز الخصوصية اليهودية التي استعادت إنشاء الدولة من الأساس، في ظل تفاعلات الهوية الفلسطينية والعربية والإسلامية المحيطة بالدولة الاستعمارية؛ لأن عدم الوصول إلى تسوية من قبيل حل الدولتين – وهي تسوية تبدو غير واقعية وبعيدة المنال من أوجه عديدة أمنية وسياسية وعملياتية من حيث أدوات التنفيذ – يعني مصيرًا مجهولاً للشعب اليهودي قد يُلقي به في أتون مجزرة أخرى ستكون حتمية، حتى لو لم يكن بالإمكان توقعها في المستقبل المنظور.بحسب الباحث ألوف بين في مقاله المطول عن طفرات التطور في تكوين الدولة العبرية، وبعد انفجار موجة الربيع العربي، تبخَّرت فكرة محادثات السلام تمامًا من الأجندة الإسرائيلية في ظل انهيار نظام مبارك الذي كان ركنًا أساسيًا في استراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي، ودخول سوريا في حرب أهلية دموية، وظهور أعداء أكثر شراسة مثل تنظيم الدولة الإسلامية. مع أن حكومات مصر والأردن والسعودية والإمارات قوَّت من علاقاتها مع تل أبيب، إلا أن الاضطرابات والصراعات في المنطقة أخافت الناخب الإسرائيلي ودفعته للتساؤل: إذا كان العربُ قادرين على فعل هذا ببعضهم البعض، فماذا عساهم يفعلون بنا إذا أتيحت لهم الفرصة؟يشير الباحث أيضا إلى أنه في ظل هذه الأوضاع لم ترَ المؤسسة السياسية للكيان الصهيوني في الغرب إلا وسطًا مليئًا بمعاداة السامية، وغير مبال ولا يُعتمد عليه، لذا على الإسرائيليين الجمع بين الدبلوماسية الذكية والقوة العسكرية؛ لمنع هولوكوست آخر دون الاعتبار بآراء الآخرين ومواقفهم.

المراجع
  1. "أيخمان في القدس" حنة أرندت
  2. "الحداثة والهولوكوست" زيجمونت باومان
  3. "الدولة اليهودية" ثيودور هرتزل
  4. "نهاية إسرائيل القديمة"