قبل شهر من موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، كتبت الصحافية التركية ريادة آقيول تقريراً لصالح «المونيتور» سلطت فيه الضوء على تغطية شريحة من وسائل الإعلام المقرّبة من حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا للانتخابات، وتفضيلها للمرشح الأمريكي دونالد ترامب على منافسته هيلاري كلينتون.

فكرة تفضيل تركيا لترامب قد تبدو صادمة، لا سيما أن ما يتبادر إلى الذهن هو العكس تمامًا، في ظل تأجيج ترامب لمشاعر العنصرية والإسلاموفوبيا، وسلوكه المضطرب، وفضائحه الجنسية وإساءاته المتكررة للنساء التي تثير حفيظة أي حزب محافظ كالعدالة والتنمية.


من الهجوم إلى الدفء

غصّت خطابات ترامب ولقاءاته المرافقة لحملته الانتخابية، بالتصريحات البغيضة والعنصرية ضد المسلمين، واتصف سلوكه بالغوغائية والتحريض، الأمر الذي دفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإبداء استيائه أكثر من مرة، كان آخرها في يونيو/حزيران حين دعا إلى إزالة اسم «ترامب» من على قمة برجين تجاريين في قلب حي «شيشلي» المركزي باسطنبول.

لكن عاملين حاسمين نجحا في إزاحة الموقف التركي تجاه ترامب خلال الأسابيع القليلة التي سبقت الاقتراع، وتحويله من الاستياء والهجوم نحو مزيد من التقبل والتفهم، في مقابل الهجوم الحاد على منافسته هيلاري كلينتون وإدارة الرئيس أوباما، وقد انعكس ذلك على الصحافة ووسائل الإعلام التركية التابعة للحزب الحاكم أو المقربة منه، حيث أصبحت كلينتون تتلقى سهام الهجوم نيابة عن ترامب.


الانقلاب الفاشل

http://gty.im/577711034

كانت المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 يوليو/تموز المحطة الأبرز في إعادة تركيا تقييم نظرتها لكلا المرشحين الأمريكيين، أو على الأقل لامتلاك الزخم للإفصاح عن هذا التقييم، فبينما اتهم أردوغان ورئيس وزرائه وعدد آخر من كبار المسؤولين الغرب بإبداء ردة فعل باردة وغير متضامنة مع تركيا إثر محاولة الانقلاب، كان رصيد دونالد ترامب يرتفع لدى القيادة التركية لمبادرته السريعة والحاسمة بإبداء التعاطف مع الديمقراطية التركية، والتعبير عن إعجابه بعزيمة الشعب التركي في صد الانقلاب.

وبينما انتقدت كل من هيلاري كلينتون وإدارة أوباما عملية «التطهير» في مؤسسات الدولة التركية بعد الانقلاب الفاشل، أدلى ترامب بتصريحاته المثيرة التي رفض فيها وصف تركيا بقيادة أردوغان بأنها دولة ديكتاتورية، مضيفًا أن الولايات المتحدة لا تمتلك الحق بانتقاد حالة حقوق الإنسان والحريات المدنية في بلدان أخرى؛ فلديها ما يكفي من المشاكل الداخلية.

الموقف من الانقلاب كان عاملًا أساسيًا إذن في تقييم تركيا لكلا المرشحين، حيث رأى الأتراك في كلينتون امتدادًا لإدارة الديمقراطيين، الذين رفضوا التعاون مع أنقرة في تسليم فتح الله غولن، المتهم الأول بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة، كما ردّد الإعلام التركي اتهامات لحملة كلينتون بتلقي أموال من حركة الخدمة التي يقودها غولن.


دعم الأكراد

وبالطريقة ذاتها، رأى الأتراك في احتمالية وصول كلينتون للبيت الأبيض استمرارًا للدعم الأمريكي السخي للأكراد في سوريا، والتنسيق عالي المستوى بين الطرفين في معركة دحر تنظيم الدولة «داعش»، وهو الأمر الذي يثير مخاوف تركيا التي يخوض الانفصاليون الأكراد قتالًا شرسًا ضدها في مدن الجنوب التركي، ويصدّرون الانتحاريين إلى مدنها الحيوية.

وقد تعزز النفور التركي من كلينتون والتسامح حيال ترامب، بعد أن مُنيت أنقرة بخيبة أمل حين رجّحت إدارة أوباما خوض معركة الرقة بالتنسيق مع الأكراد الذين اشترطوا استبعاد تركيا من المشاركة، ففوّضت واشنطن قوات سوريا الديمقراطية (التي تهيمن عليها مليشيات حماية الشعب الكردية) لإطلاق معركة الرقة دون التنسيق مع أنقرة.

خلال المناظرة الرئاسية الثانية،صرّحت كلينتون بما لا يدع مجالًا للتخمين، بأنها ستعمد إلى زيادة تسليح أكراد سوريا والعراق عند وصولها للبيت الأبيض، معتبرة أنهم الشريك الأكثر فعالية للولايات المتحدة في الحرب ضد الإرهاب.

كانت تصريحات كلينتون هذه الشعرة التي قصمت ظهر الصبر التركي، وأطلقت عشرات التصريحات الرسمية والتغطيات الإعلامية المهاجمة لكلينتون كان أبرزها ما قاله أردوغان بأنها «مبتدئة وتفتقر للخبرة السياسية»، في حين تودّدت وسائل الإعلام المقرّبة من الحزب الحاكم إلى ترامب في محاولة لتحسين صورته وإيجاد المبررات والتفسيرات لتصريحاته العنصرية إلى درجة ذهاب الصحافي المحافظ «كايهان أويغور» إلى القول بأن كلمات ترامب العنصرية تمّ المبالغة بتقييمها!


ماذا بعد الفوز؟

كانت تركيا من أوائل الدول التي قدّمت التهنئة للرئيس الأمريكي الجديد، على لسان كل من رئيسها ورئيس وزرائها ووزيري الخارجية والعدل خلال ساعات قليلة من إعلان النتائج، كما هاتف أردوغان ترامب بصورة شخصية، وقد تراوحت التصريحات التركية بين التهنئة والأمل بفتح صفحة جديدة للعلاقات والمطالبة بتسليم فتح الله غولن.

وقد بالغت الصحافة التركية، لا سيما المقربة من العدالة والتنمية، في الاحتفاء بهذا الفوز، والتقطت تصريحاً أدلى به مستشار ترامب للشؤون الأمنية، مايكل فلين؛ قال: فيها أن على بلاده تسليم غولن كواجهة للغبطة التي طغت على التقارير ومقالات الرأي التي حفيت بها الصحف المقربة من الحزب الحاكم، إضافة إلى تصريح قديم لترامب قال فيه أنه سوف يُنشئ منطقة آمنة في سوريا، وسيجعل دول الخليج تموّل الخطة دون أن تتكلف الولايات المتحدة دولارًا واحدًا.

وبدا هنا أن تركيا في وارد بناء علاقاتها مع الرئيس الجديد وفق الأولويات الداخلية للحزب الحاكم وصراعه مع الكيان الموازي وبعض أطراف المعارضة، ووفق أولوية الأمن القومي التركي وصراعه طويل الأمد مع الانفصاليين الأكراد، وامتدادهم من أكراد سوريا.


«أربعة» أسباب للقصور التركي

هاتان الأولويتان أوقعتا الموقف التركي من فوز ترامب ببعض الالتباس في أربعة جوانب هامة..

أولها؛ التبدّل السريع من مهاجمة ترامب إلى التودد إليه، بناءً على بعض التصريحات التي أدلى بها الرجل خلال حملته الانتخابية، والتي لا يمكن الجزم بثباته عليها.

ثانيها؛ أن الموقف الجديد حسم الاصطفاف التركي إلى جانب مجموعة من القوى سيئة الصيت دوليًا، والتي احتفت بترامب ورأت فيه شريكًا إيجابيًا، ولم يزعجها اضطرابه الشخصي وعنصريته وإساءاته للنساء والأقليات، ومن هذه القوى روسيا والصين وبعض الأنظمة القمعية في العالم العربي. بينما لم يخفِ الغرب قلقه وامتعاضه من فوز ترامب المفاجئ، وانعكس ذلك بوضوح في تصريحات مسؤولي كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي.

ثالثها؛ أن الموقف التركي زاد مساحات التناقض ما بين شركاء تركيا الإقليميين، الذين يرون في ترامب تهديدًا لمصالحهم وخطرًا على مستقبل الملفات المعلّقة في المنطقة، لا سيما شركاء تركيا في الخليج (السعودية وقطر) الذين هاجمهم ترامب بشراسة مهينة، ودول الاتحاد الأوروبي التي تعيش شبه قطيعة مع تركيا، إضافة إلى إيران التي تتوجس من نقض ترامب للاتفاق النووي بين طهران والغرب، ولا يخفى هنا أن زيادة البرودة في علاقات تركيا مع هذه الأطراف (لا سيما الخليج وأوروبا) يعني مزيدًا من التقارب التركي مع روسيا، وهو الأمر الذي سيلقي بظلال كارثية على الأزمة السورية.

رابعها؛ أن الاحتفاء التركي بفوز ترامب قاد إلى الوقوع في فخ التناقض ما بين ما تسعى تركيا لإظهاره من تمثيلها للإسلام المعتدل، مثل الدفاع عن حق المسلمين في مقعد دائم العضوية بمجلس الأمن، ورعايتها للجاليات المسلمة في أفريقيا والأمريكتين، وافتتاحها المساجد والمراكز الإسلامية في الغرب، وبين سلوكها البراغماتي في تقديم أولوياتها الداخلية في الانفتاح على دونالد ترامب المحرّض ضد الإسلام والمسلمين.


ختامًا، فإن الموقف التركي المقروء في تصريحات المسؤولين، والمنعكس في الصحافة التابعة والمقربة للحزب الحاكم، ما زال موقفًا أوليًا ومفتقرًا للنضج السياسي، لا سيما وأن العالم بأسره يترقب العشرين من يناير/كانون الثاني المقبل، ليرى الاختبار الحقيقي للتصريحات الهوجاء التي أطلقها ترامب، والتي لن تعكس بالضرورة سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة التي سيمثلها طواقم من الخبراء والمستشارين.

وعليه، فمن المرجّح أن يكون الموقف التركي مندفعًا باليأس الذي مُنيت به أنقرة في الشهور الأخيرة من إدارة أوباما، بينما ستكون أفعال ترامب الرئيس، لا أقوال ترامب المرشّح هي عراب العلاقات الأمريكية-التركية الجديدة، لا سيما في ملفيّ الكيان الموازي (جماعة غولن) والموقف الأمريكي في سوريا.