دخلت مصطلحات الهيمنة الثقافية والغزو الثقافي على حقل العلوم السياسية بعد الحرب الثانية، وقد تأثرت بشكل ملموس بأطروحات الفيلسوف والناشط السياسي الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891-1936)، الذي كان معارضًا ضد الحركة الفاشية، ودرس قدرتها على الهيمنة على المجتمع الإيطالي، مقابل فشل الثوار (الماركسيين في ذلك الوقت) الذين نافحوا عن مبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية في حمل ضحايا الفاشية على الثورة.

يمكن اعتبار ما قدمه غرامشي في حياته القصيرة، نموذجًا تجديديًا لجملة الأفكار الاشتراكية، فقد كان الرجل رغم نشأته الماركسية يتمتع بالحس النقدي والبعد عن التأطّر داخل الحدود الصارمة التي تُمليها الأيدلوجيا، ونُقل عنه توجيه سهام النقد إلى بعض مقولات وأطروحات «كارل ماركس» التي اتهمها بالجمود.

اقرأ أيضًا:الشعبوية: السياسة أفيون الشعوب

شكّل غرامشي تيارًا إصلاحيًا متوسطًا ما بين الطوباوية الماركسية، وضرورة التعاطي مع واقع الرأسمالية والقومية الآخذ باكتساح أوروبا مطلع القرن العشرين؛ مما جعل الكثير من الأطياف المتنوعة تحتفي بنتاجه العلمي وتسعى لتطويره مثل المفكرين الشهيرين: فرانسيس فوكوياما وصامويل هنتنغتون. كما بدأت أطروحاته تلقى اهتمامًا لافتًا في العالم العربي خلال العقدين الأخيرين، بعد أن كانت محصورة داخل أطر اليسار العربي، وذلك للتقاطعات الكبيرة بين ما كتبه قبل مئة عام وبين واقع حركات الإصلاح السياسي والاجتماعي، وصولاً إلى لحظة الثورات والثورات المضادة.


الهيمنة والسلطة

يرى غرامشي بأن القوى الكبرى تحمي مصالحها عن طريق السعي نحو الهيمنة، وليس السعي نحو السلطة بمفهومها المباشر، إذ يرى بأن المناصب والمسمّيات الحكومية ليست نهاية طريق الهيمنة، بل مجرد بوابة تقود نحو صناعة ما سمّاه «المجتمع السياسي» الذي يعكس جوهر الدولة وحصنها المنيع. فالدولة هي ليست الحكومة؛ إنما هي المجتمع السياسي الذي يضمّ الحكومة والشرطة والجيش والمنظومة القانونية، إلى جانب المجتمع المدني والمنظومة الاقتصادية البرجوازية التي تضم الأفراد المنتفعين.

نجحت الرأسمالية سواء بمفهومها المتقدم اقتصاديًا، أو داخل البلدان الهشة والفقيرة، بفرض نظام هيمنة من طبقتين: الأولى تسيّر بطريقة القوة؛ وتتمثل بتمظهرات الحكومة والشرطة والجيش والقضاء، أما الثانية فتسير بمفهوم التراضي عبر منظومة الاقتصاد ومجتمع المنتفعين.

وقد اتجهت الرأسماليات الغربية الحديثة نحو تحقيق الإصلاحات المدنية والخدمية لتلبية مطالب واحتياجات العمال والنقابات وأصحاب المشاريع الصغيرة، ومنحت مواطنيها الحد الأدنى من العيش الكريم لمنع ثورته، لكنها في الوقت ذاته رسّخت لعملية الاستلاب الرأسمالي، ومحاباة طبقة البرجوازيين والمنتفعين بالقوة الناعمة والتراضي.

المثير أن غرامشي قد نظّر قبل 100 عام لأطروحات ما زلنا نعيش تجلياتها حتى اليوم، إذ رأى أن الطبقة البرجوازية الحاكمة، أو ما سمّاه «المجتمع السياسي»، يسعى للاحتفاظ بالهيمنة الشاملة، عن طريق إقامة بُنية سياسية وأيدلوجية مطابقة لمصالحه الاقتصادية والنفعية. فنرى بأن جميع الأنظمة الرأسمالية ابتداء من الولايات المتحدة (على سبيل المثال) تربّي طبقة برجوازية تتحكم عبر سطوة المال والنفوذ بما يشاهده الناس من دراما وأخبار وترفيه، وبأنماطهم الغذائية والحياتية، وبطريقة قضائهم لعطل نهاية الأسبوع، وصولاً إلى تحديد من يستطيع الترشيح للانتخابات المحلية وصولاً إلى الرئاسية، فيعجز فرد أيًا كانت مؤهلاته وقدراته الذاتية عن اختراق دائرة الاحتكار هذه. وفي ديكتاتوريات العالم الثالث، تتداخل وتنصهر طبقات رجال الأعمال والجيش والشرطة في قالب واحد يدعّم من سطوة المؤسسة الحكومية أو الرئاسية بطريقة أكثر فظاظة وقمعية.

وفق غرامشي أيضًا، لا تنجح الثورة في تحقيق أهدافها وتثبيت وجودها عبر ضرب الرأس البارز للدولة (الحكومة)، إنما يتوجب على الثوار تفكيك «المجتمع السياسي» سابق الذكر، الذي هو جوهر الهيمنة والقائد الفعلي للدولة.


مستويان من الهيمنة

قدّم غرامشي الذي لم يعاصر الحرب الثانية، ولا تشكُّل ملامح النظام العالمي ما بعد الحرب، نموذجًا فريدًا من طبقتين لطبيعة الهيمنة السياسية والثقافية ما زال صالحًا حتى اليوم. يرى غرامشي أن للهيمنة مستويان:

الأول عالمي؛ وتمارسه القوى الكبرى على دول العالم وأنظمتها

وتنضوي تحت هذا المستوى هيمنة اللاعبين الدوليين الكبار مثل: الولايات المتحدة، روسيا، وأوروبا، إضافة للاعبين الإقليميين المؤثرين في جوارهم، إلى جانب سطوة المؤسسات الدولية التي تخدم مصالح اللاعبين الكبار، لا سيما سلطة النقد والبنك الدولي ومجلس الأمن، وغيرها من المؤسسات أو الشركات عابرة القارات.

الثاني محلي؛ ويمارسه المجتمع السياسي (الدولة) على الشعب

وتسعى الدولة إلى قيادة الشعب عن طريق القوة (القمع) حين تفشل في قيادته عن طريق التراضي (العقد)؛ أي أن الهيمنة الثقافية هي أساس ممارسة السلطة، أما الدولة فهي هيمنة محصَّنة بالقمع. وتلجأ الدولة إلى مؤسسات التعليم والدين والإعلام لفرض هيمتنها، إذ تشترك المدارس والكنائس (المساجد) والصحف (الإعلام) في عملية القمع الناعم وتعليب الأفكار والاتجاهات بطريقة لا تقل خطورة عن أدوار الشرطة والقضاء والجيش.


المجتمع المدني في مواجهة المجتمع السياسي

في مقابل المجتمع السياسي الذي يمارس هيمنة الدولة، يرى غرامشي أن المجتمع المدني، الذي يضم عموم الشعب وأطره المدنية ومؤسساته، يلعب دورًا حيويًا في التغيير. فهو المجتمع الموازي الذي بمقدوره سحب البساط من تحت أقدام الدولة، ومن دون خلق مجتمع مدني ثائر على الهيمنة، لا يتحقق التغيير المستدام. لا بد من الصدام الحتمي بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي للدولة، ولا بدّ من أن يتم إحلال المجتمع المدني مكان السياسي حتى تتحقق أهداف الثورة. فحتى وإن نجحت الثورة الشعبية في انتزاع مكاسب سياسية أو استطاعت انتزاع الحكم، فإن هذه المكاسب سرعان ما تتسرّب من بين قبضات الثوار، ما دام المجتمع السياسي يمارس هيمنته.

يرى غرامشي أن هدف الثورة هو أن تخلق دولة العدالة، ومن أجل خلق دولة جديدة، فإن الشرط المسبق هو خلق مجتمع مدني جديد متحرر من سطوة الدولة القديمة. يشكل «المثقفون العضويون» عماد المجتمع المدني الذي يتبنّى أفكار الثورة، ويصيغ طبقة سياسية وإعلامية ومدنية تنافح عن الثورة وتمتص هزات الثورة المضادة.

تتجلى الثورة المضادة، وفق غرامشي، في مظهرين؛ الأول القمع السافر وسفك الدم حين يفشل المجتمع السياسي في تطوير أدوات الهيمنة الثقافية من إعلام وقضاء وتعليم للتعامل مع تحدي الثورة فيلجأ إلى العنف (الانقلابات العسكرية). أما المظهر الثاني؛ فهو الإيهام بالديمقراطية بغرض إعادة تشكيل وتموضع منظومة الهيمنة القديمة من جديد، وايهام الشعب بأن البرجوازية القديمة هي وحدها القادرة على تجنيب البلاد خطر التمزق والتطرف (إعادة انتخاب الديكتاتورية). وفي الحالتين، لا يمكن إغفال دور الهيمنة العالمية للقوى الكبرى في تثبيت الثورة المضادة خدمة لمصالح النظام العالمي المستفيد من تبعية الدول الفاشلة والمفككة.


المثقف التقليدي في مواجهةالمثقف العضوي

ينال المثقفون والفلاسفة اهتمامًا خاصًا في تنظير غرامشي للثورة، فهو يرى بأن الدولة تسعى لشراء ولاء رجال الدين والمعلّمين والمثقفين ليكونوا ترسًا في آلة الهيمنة. هذه الطبقة من «المثقفين التقليديين» (أو المنتفعين) تُهيئهم الدولة لاحتكار الأفكار الهامة مثل الأيدولوجيا الدينية والإعلام والفلسفة والعلوم، إلى درجة سمحت لهم باصدار أحكام الإعدام ضد العلماء والمفكرين.

وعليه؛ يرى غرامشي بأن الثورة لا تكون ثورة حين لا يتصدّرها المثقفون والفلاسفة «العضويون» الذين يلتحمون بالشعب وهمومه، ويحاربون طبقة المنتفعين من مثقفي الدولة. لا بد إذن من وجود مثقفين حقيقيين يقتلعون المثقف التقليدي الفارغ إلا من دعم الدولة. كما أن الثورة لا تكون ثورة إلا بقيادة الفلاسفة الذين يحوّلون الفعل الثائر إلى مقولات اجتماعية تحرك الناس، وتتقدّم الصفوف، وتبث الوعي في المجتمع المدني ليواجه هيمنة الدولة.

وفق غرامشي، كل إنسان هو مثقف بالضرورة في مجاله، أما المفاضلة بين المثقفين فيحسمها اصطفاف المثقف بين معسكري المجتمع المدني (الشعب) والسياسي (الدولة)، ومدى ارتباطه العضوي مع هموم مجتمعه وشعبه. فـ «المثقف العضوي» ليس بالضرورة حاملاً للشهادات العليا؛ إنما هو الملتحم مع هموم الشعب واحتياجاته، وهو من يسعى لخلق أدوات هيمنة موازية للدولة وسطوتها.

المثقف العضوي هو فيلسوف بالضرورة، أو منظّر سياسي واجتماعي بالمعنى الأدق. أما الفلسفة فهي ليست مجرد تصور علوي يراقب المجتمع من علٍ، إنما هي سعي دؤوب لإفراز أفكار واتجاهات تغيّر العالم. غرامشي لم يجد غضاضة في نقد تعريف معلّمه كارل ماركس للفلسفة، فقد شدد في كتاباته على أن دور الفلسفة ليس الوصف، إنما العمل على التغيير. الفلسفة باختصار هي «قلب النظري إلى عملي، وتحويل العقلي إلى واقعي»، أما النظرية التي لا تتحول إلى واقع يخلده التاريخ فهي مجرد طوباوية ميتة.