بمجرد انتهائي من قراءة رائعة دوستويفسكي الخالدة – الجريمة والعقاب – بدأت في تلخيص الأفكار والأطروحات الفلسفية التي ناقشتها الرواية، لكن قبل أن أعرض جزءًا من هذه الأفكار التي بلا شك قد قتلت بحثاً ونقاشاً وأهمها فكرة البطل التي تدور حولها الرواية.

أود أن أشارككم سؤالاً قد طرحته كثيراً على نفسي، من المعروف أن الكثيرين قد يصلون لدرجة ما من التقمص في القصة التي يقرءونها؛ فيرى القارئ نفسه نظيراً للبطل، فيفرح لفرحه ويحزن ويتألم لحزِنه وألمه، لكن هل تصل درجة التقمص إلى انتقال عدوى من بطل الرواية إلى القارئ؟!

أنا هنا لا أتبنى وجهة نظر راسكولينكوف – التي أراها شبيهة إلى حد بعيد بفكرة نيتشه ومصطلحه الشهير «الإنسان الأعلى»، ومن المعلوم تأثر نيتشه بكتابات دوستويفسكي – لا أتحدث هنا عن الإنسان المتفوق الذي يجوز له دون الآخريين ارتكاب ما يراه مناسباً حتى إذا كان هذا مخالفاً للقانون مثل ارتكاب جريمة القتل بحق من يعتقد هو أنهم مجرد «حشرات» أو عوائق في مسيرة من هم أحق منهم بالحياة، بل أقصد هذه الحمى التي عصفت بعقله وجعلت عقابه الأليم هو التفكير الزائد عن الحد.

أؤكد لكم أنني قد مسني قبس من تلك النار التي أضرمت في عقله، هذه الحمى العقلية التي ظهرت أعراضها عليَّ قبل قراءتي للرواية لكنها تفاقمت خلال قراءتي لها، لا لجرم يؤرق ضميري؛ بل لأن عقلي على ما يبدو قد سئم قوالب الروتين التي وضعتها متطالبات الحياة اليومية، ولعله أغار أيضاً من هذا العقل الذي أعلن تمرده على صاحبه فأحال حياته جحيماً، لكن من له الغلبة على تصرفاتنا أهي المشاعر أم الأفكار أهو القلب أم العقل؟ وهل هما وحدة مرتبطة أم أنهما منفصلان؟ هذا الطرح يقودنا إلى الدخول في أدغال فلسفة العقل و آراء الفلاسفة عن ثنائية العقل والجسد «الأحادية والمثنوية» وهو موضوع شائك لا مجال للحديث عنه هنا، لذلك دعكم من إرهاصاتي الفكرية في هذا السياق فهذا المقال ليس عن شخصي على أي حال. لنعود للرواية.


نبذة عن الرواية

الجريمة والعقاب رواية للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي، نشرت في مجلة أدبية روسية في اثني عشر مقالاً شهريًا عام 1866، وبعدها نشرت كرواية. يتميز أسلوب دوستويفسكي بقدرته على التعبير عن مكنونات النفس البشرية، فقد عرف بتوجهه الإنساني وبنزعته الفلسفية التي بدت واضحة في أعماله الأدبية، كما يحلو للنقاد دائمًا أن يصفوه. أهم ما ناقشته الرواية والذي سأتتناوله هنا بعد استعراض الشخصيات المحورية في الرواية «دوافع الجريمة من منظور بطل الرواية» نظرية راسكولينكوف – الصراع النفسي الدائر رحاه في عقل راسكولينكوف – الألم والحزن المخيم على القصة منذ بدايتها.


الشخصيات المحورية في الرواية

. روديون رومانوفتش راسكولينكوف: هو بطل الرواية ، شاب يبلغ من العمر ثلاثة وعشرين عاماً ، طالب جامعي سابق، ذو شخصية فريدة فهو مثقف حالم يمتلك أفكارًا جريئة تدفعه في النهاية لقتل عجوز مرابية.

. صونيا سيمونوفنا مارميلاردف: هي الابنة الكبرى لرجل سكير، فتاة خجولة، وبريئة على الرغم من أنها تضطر إلى ممارسة البغاء لمساعدة أسرتها.

. ديمتري بروكوفيتش رازميخين: صديق راسكولينكوف.

. بروفيري بيتروفيتش: المحقق المسؤول عن حل قضية اليونا إيفانوفا المرابية العجوز وأختها إليزبيث.


نظرية راسكولينكوف

تتحدث الرواية عن مقال منسوب لراسكولينكوف الذي صاغ فيه فكرته عن تقسيم البشر إلى نوعين «عاديين وغير عاديين»، هؤلاء غير العاديين هم المتفوقون الذين يحق لهم تجاوز القانون وارتكاب ما يرونه هم أسمى وأفضل، فنجده يقول: «أما الفئة الثانية فهي تتألف من رجال يتميزون بأنهم جميعا يكسرون القانون، بأنهم جميعا مدمرون، أو بأنهم جميعا ميالون إلى أن يصبحوا كذلك بحكم ملكاتهم. جرائم هؤلاء الرجال تتفاوت خطورتها وتتنوع أشكالها طبعا وأكثرهم يريدون، بأساليب متنوعة جدًا، تدمير الحاضر في سبيل شيء أفضل، فإذا وجب على أحدهم من أجل تحقيق فكرته، أن يخطو فوق جثة، أو فوق بركة دم، فأن يستطيع أن يعزم أمره على أن يخطو فوق جثة وفوق بركة الدم وضميره مرتاح؛ كل شيء رهن بمضمون فكرته، وبما لها من أهمية طبعا» .(ج1-ص 467-468).

وكأن راسكولينكوف يريد أن يقول بما أن هناك من يرتكب جريمة القتل بحق آلاف البشر بحجة أنه في صالح السواد الأعظم من البشر لماذا إذاً نجرم هذا الفعل؟! هل يجب امتلاك تصريح الجدارة بالقتل كي نبرر هذا الفعل، وقد دلل على ذلك أيضاً مستشهداً بالقائد الفرنسي نابليون فيقول: «إن السيد الحقيقي الذي يُسمح له بكل شيء يضرب طولون بالمدافع وينظم مذبحة في باريس وينسى جيشاً كاملاً في مصر وينفق نصف مليون رجل في معركة موسكو ثم ينسحب من الميدان بلغز في فيلنا إن هذا عند موته تقام له التماثيل وكل شيء إذاً مسموح له».

كلا إن هؤلاء الرجال ليسوا من لحم ودم بل إنهم من البرونز. هكذا يرى بطل الرواية الإنسان المتفوق الذي يتجاوز كل القيود والعقبات التي يفرضها المجتمع – بأعرافه وقوانينه – في سبيل تحقيق هدفه الأسمى، هذه الفكرة التي سيطرت علي كامل كيانه أراد تطبيقها عملياً ليثبت لنفسه الحالمة أنه أحد هؤلاء البشر المتفوقين، فأقدم على قتل تلك العجوز المرابية لسرقتها بداعي الفاقة واحتياجه المال لاستكمال دراسته، هذه الحجة التي لم تقنعه هو شخصياً والدليل هو إخفاؤه لتلك للأموال وعدم إنفاقها، فنجده مبرراً تلك الجريمة بقوله «إنه ليس مخلوقا بشرياً ذلك الذي قتلته. بل هو المبدأ، المبدأ، ولقد قتلته كما يجب».


الصراع النفسي

تحدثت في البداية عن هذه الحمي التي عصفت براسكولينكوف بطل الرواية فعقب قتله للعجوز المرابية وشقيقتها بدأت ظهور أعراض هذه الحمى التي جعلته طريح الفراش، لكنه رغم تعافيه من حمى الجسد لازمته تلك الحمى العقلية فصار يهذي دائمًا، هذا كان عقابه الأليم الذي حوله تماماً من ذلك القاتل للمبدأ الذي لا يخالجه ذرة ندم من قتل تلك الحشرة – على حد تعبيره – إلى الذهاب في النهاية إلى القسم للاعتراف بجريرته، رغم تعقد القضية وعدم وجود أدلة على إدانته، لقد صار عقل راسكولينكوف بعد ارتكابه هذه الجريمة كطحونة هوائية لا تتوقف، بل تحول إلى محرك ديزل يضج بصخب عنيف هذا الضجيج الذي ظهر جلياً في تصرفاته فجعل من يلقاه يختاله مجنوناً، إن هذا الإنسان الذي رأى نفسه متفوقاً وأهلاً لتجاوز القانون شعر بالفشل في نهاية المطاف ورأى حلمه يتحول لسراب، فندم على هذه الجريمة التي أضحت بلا مبرر.


الألم والحزن

«أنا لا أسجد أمامك أنتِ . . بل أمام معاناة البشرية كلها» هكذا تحدث راسكولينكوف إلى صونيا تلك الفتاة البائسة التي باعت جسدها من أجل أطعام إخوة لها من أبيها الذي ترك وظيفته المرموقة بعد إدمانه الخمر، هؤلاء الأطفال وأمهم المريضة بالسل كان يترصدهم شبح الموت جوعاً، لكنها كانت ملاذهم الآمن – هذا المشهد المؤثر في أحداث الرواية ليس غريباً على دوستويفسكي المعروف بتبجيله للمتألمين فنجده يقول في موضع آخر «إن أعظم رجل، هو صاحب أعظم حزن في هذه الدنيا»– بالإضافة إلى ذلك فهو بتلك العبارة والإشارة إلى معاناتها يريد أن يلقي الضوء على مساوئ المجتمع الروسي في هذه الحقبة وتفاوت طبقاته. نجده أيضاً يقول عن صونيا في واحدة من أعمق عباراته «الجمال سينقذ العالم» بالطبع لا يتحدث عن جمال وجهها فقط، بل الجمال الذي يقصده هو انسجام الشكل والمضمون، فجمالها يتجلى في عظم إنسانيتها التي دفعتها للتضحية بهذا الجسد من أجل إطعام الصغار.


الخاتمة

لست بمعرض عن تقييم هذا العمل الملهم في تاريخ الأدب العالمي، لذلك اسمحوا لي بدلاً من عبارات الإطراء والمديح التي تتذيل دائمًا كل قراءة لرواية مهمة أن أستعيض بها هذا الاقتباس الأخير الذي توقفت عنده كثيراً، ورأيت فيه ما يحدث في عالمنا المعاصر.

يقول دوستويفسكي على لسان راسكولينكوف «ليهرق كل الناس ما شاءوا من الدم. إن ما سال منه وما سيسيل جازفاً على الأرض، يهرق كما تسفح الشامبانيا. ومن أجله يتوجون في الكابيتول، ويرفعون إلى مصاف المحسنين للإنسانية» (ج3 ص 881).

هذا الإسقاط الرائع الذي أراد به دوستويفسكي أن يصفع ضمير العالم حينها ليفيق من ذلك السبات العميق – الذي ما زال مستمراً إلى الآن مع الأسف – هذا السبات الذي جعلهم يبررون الجرائم طالما من يرتكبونها يتشدقون بالصالح العام، فكم من قائد سفك الدماء ونحتت له التماثيل ووضعت على رأسه أكاليل الغار. لكن سيظل العار والشنار يطارد هؤلاء الذين يرون البشر حشرات لا قيمة لهم وأنهم فقط الأسياد. سيأتي اليوم الذي يدفعون فيه ثمن ما اقترفته أيديهم، سينالون حتمًا العقاب حتى إذا افتقدوا لضمير يؤرقهم كضمير راسكولينكوف.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.