يُخبرنا التاريخ الحديث أنّ أنسنة الضحيّة أمر لا يفيد الضحيّة، بل ربّما يضيّع حقوقها. فعندما يتمّ التمييز سياسيًّا واجتماعيًّا ضدّ مجموعةٍ على أساس دينيّ أو عرقيّ أو غيره، غالبًا ما يصبح توصيف الرأي العامّ للذين يُمارَس التمييز ضدّهم باعتبارهم «ضحايا» عنفٍ موجود، ولا بدّ من نبذ العنف من قبل الدّولة. وبعيدًا عن دعاوى الرأفة والشّفقة مع الضحايا، وهي الأمور غير المهمّة سياسيًّا، فإنّ المطالبين بإنصاف الضحايا يتقدّمون باستغاثاتهم إلى طرفٍ واحد، ألا وهو الدّولة. وللمفارقة، تخرج الدّولة من حسبة العنف والتمييز والإقصاء.

ففي مصر المعاصرة، فإنّ الدولة هي الطرف الذي يستغيث إليه الكلّ لدفع هذا «الإرهاب» الأقصى الذي يُمارَس ضدّ الأقباط، وكأنّ الدّولة طرفٌ محايدٌ، وما وجوده سوى تحقيق المساواة بين الأكثريّة والأقليّة، وحماية الأخيرة من العنف المطارد لها في كلّ مكان (العجيب، أنّ تسمية «الأقليّة» تفترضُ ضمنًا الحماية، سواء أكانت وطنيّة أم أجنبيّة، ولذا منذ التاريخ الحديث لمصر، أي منذ أوائل القرن العشرين، وغالبيّة الأقباط المصريين يرفضون تسميتهم بأقليّة، لأنّها تسمية، كما حُوجج آنذاكَ، تحيل إلى سياسة فرّق-تسد الكولونياليّة للبريطانيين).

فلم يكن حادث المنيا الأليم الذي أسفر عن مقتل ٢٨ قبطيًّا بحدثٍ استثنائيّ وأوّل. إنّه، بالفعل، استمرار لعنف مطّرد يتعرّض له الأقباط المصريّون. ولأنّ سوابق العنف المُمارَس ضدّهم معروفة وجليّة للجميع، ولأنّ المجرم معروفٌ سلفًا متمثّلا في «الإرهاب» (الكلمة الأكثر رطانة في المعجم المعاصر) أو في داعش، فإنّ الدّولة المصريّة ليس لديها ما تقول حيال ما حصل للأقباط سوى الشعارات المطّاطة، والتعاطف الإنسانيّ، والحرب على الإرهاب. ولعلّ أحداث العنف ضدّ الأقباط منذ ٢٠١١ توضّح لنا أنّ الأقليّات هي أكثر الأطراف التي تجني السوء جرّاء حروب الدّولة على الإرهاب. فإذا كانت الدّولة تحارب الإرهاب، بمباركة إسرائيليّة في سيناء كما هو حادث، فإنّ كلّ حادثة قتل أو اغتيال تهون في سبيل هذه الحرب الكبرى. هكذا، لا تعطي الدولة سوى الشعارات، لا سيّما الدّولة المصريّة الحالية ما بعد ٢٠١٣ التي قامت على بلاغة التخويف من المعارضين الداخليين (متمثّلين بالطّبع في الإخوان، وفي مسببي الشقاق) وعلى بلاغة المؤامرة بتصوير أنّها مصر يترصّد لها الجميع بالمرصاد، داخليًّا وخارجيًّا.

في الحقيقة، إنّ لتبرئة الدّولة عموماً خارج أحداث العنف التي يتكبّدها الأقباط كلّ مرّة تاريخًا طويلا، وهو تاريخ مرتبطٌ بنشوء الدّولة في واقع الحال. فقد كان تأسيس الدّولة نفسه متخيّلاً من قبل الجموع على أنّها الكيان الأعلى المحايد فوق الصراعات الاجتماعيّة، والتي تفصل بين المجموعات الدينيّة، والتي تحدّد سُبل الإنصاف والعدالة للأقليّات. هكذا تقول الرواية الرّسميّة، وهكذا تُصوِّرت الدولة، ولذا فهي الطرف الأخير في تفكيرنا، لأنّها أعلى من صراعتنا. بيد أنّ تاريخاً آخر، وحفراً استكشافيًّا آخر، يكشف أنّ الدولةَ المحايدة، الليبراليّة، هي منذ تأسيسها أناطت نفسها بالتدخّل في المجال الدينيّ حتى وهي تدّعي العلمانيّة، وبتنظيم المجموعات الدينيّة في المجتمع. وفي حين أنّ الدولة تصدّر خطابًا علمانيًّا بشأن وقوفها على مسافة من أديان المجتمع، إلّا أنّها في الواقع تقوم بمهامّ لا-علمانيّة. فإذا كانت حملةُ الرئيس المصريّ الحالي عبد الفتاح السيسي قامت بالأساس على تخليص المصريين من «الفاشيّة الدينيّة» في حزيران/يونيو ٢٠١٣، الأمر الذي باركه ليبراليّون ويساريّون وإسلاميّون سلفيّون والكنيسة والأزهر على السّواء، فإنّه وحكومته لا يفتأون عن توجيه خطابات لتنظيم الشأن الدينيّ، ولإصلاح الإسلام، وللدخول في معارك متعلّقة بدين الناس وثقافتهم.

وهنا لبّ المشكلة الذي أودّ الدخول إليه. فمصر اليوم تعيش وضعًا لا-سياسيًّا بالتمام. لا مجال لتسييس شيء. فالمرء إمّا مع الدّولة في حربها الشعواء على الإرهاب، وفي دعمها الحثيث للعلاقات مع الإمبرياليّة الأمريكيّة ومع الدّولة الصهيونيّة لـ «مساعدتها» في سيناء التي صارت مسرحًا للدوّاعش والصهاينة مع عمليات تهجيرٍ مارسها الجيش لأهلها بشكلٍ واضح، وإمّا ضدّها. هكذا هي سياسة التخويف اللاسياسيّة أصلاً. ولا يمكن فهم ما يحصل للأقباط سوى في ضوء هذا الظرف المعقّد برمّته. حيث لا يبقى للدّولة، وللإعلام التابع له، إلّا أنسنة الأقباط كضحايا لقوى الإرهاب. ثمّ؟ على الدّولة أن تقوم بواجبها تجاه الإرهابيين الأشباح الذين، كما نعلمُ، لا تنتهي الحرب ضدّهم إلّا بانتهاء العالم (ربّما). لا أقصد بذلك بالطّبع أنّ لا وجود للدّواعش، وأنّ الأمر اختلاق من قبل الدّولة. أبداً. إنّما قصدت أنّ الدّولة تنزع الحقوق والسياسة عن الضحايا لتخلي وبترئ ذمّتها، ولتنال من قبل ذوي الضحايا أنفسهم مباركةً باستمرار عمليّاتها بالحرب على الإرهاب، بينما يتمدّد تنظيمٌ كداعش إلى مناطق أخرى بمصر غير سيناء، حيث شهدنا أحداث كنيسة العباسيّة وطنطا والإسكندريّة.

إنّني أتفق تمامَ الاتفاق مع بول سدرا، الأستاذ المساعد بجامعة سايمون فريزر والمتخصّص في الشأن القبطيّ المصريّ، بأنّ المشكلة تكمن في أنّنا لا نفهم طبيعة الطائفيّة في مصر حينما نشيّئ الأقباط في مسؤولهم السياسيّ، المتمثّل في البابا تواضروس، ونختزلهم في تلك الشخصيّة التي تمثّلهم أمام الدّولة. وحقّاً، فمنذ الخمسينيّات، كما توضّح صبا محمود في كتابها اللافت الاختلاف الدينيّ في عصرٍ علمانيّ، انبنى نمط التمييز المصريّ تجاه الأقباط حينما جعلت الدّولة من البابا هو الممثّل السياسيّ للأقباط عند الدّولة، بله هو الوسيط بينهم وبين الدّولة أيضاً. فمن ناحيةٍ، أتاح هذا المنطق التشييئيّ والتمييزي بالفعل أن يتمّ اختزال الأقباط في الرّمز السياسيّ لهم، وهو الرّمز الدينيّ، ممّا جعل من مجرّد مؤسّسة دينيّة، وهي الكنيسة، مؤسّسة سياسيّة أيضًا.

ومن ناحيةٍ أخرى، أدّى هذا الموقف، المُتقاسم في الواقع من قبل الدّولة والكنيسة على السّواء، إلى تنميط الطّيف السياسيّ للأقباط في الرأي الذي تصدره الكنيسة. ومن هنا، يغدو الالتباس وسوء الرأي الدائم القائل إنّ الأقباط يقفون مع الدّولة المصريّة بعد الثالث من يوليو/تموز ٢٠١٣، فقط لأنّ الكنيسة دعّمت الانقلاب العكسريّ، في اختزال لنشطاء وأناس أقباط لا يتبنّون تلك الرؤية أو هذا الموقف. أضِف إلى ذلك أنّ هذا الموقف يغفل البيئة السياسيّة المغلقة في وجه كلّ من الأقباط والمسلمين في مصر حالياً، وهي البيئة التي تتمّ أمْنَنتها وعسكرتها بازدياد، والتي لا تميّز بين طوائف إلّا المعارض والمناهض لها.

هذه السيرورة لصناعة ضحايا من الأقباط لعنفٍ داعشيّ، ولا سبيل إلى ذلك إلّا بدعم الدّولة. وهنا المفارقة، بدلا من نقد الدّولة ومساءلة مسارها، يسيرُ النّفر الكثير في دعمها الذي لا يسفر إلّا عن استمرار هذا العنف الوحشيّ ضدّ الأقباط الذين يُمارس العنف ضدّهم على أسس هوياتيّة من ناحية، وكمناورة من هذه الجماعات للدّولة أيضًا. بيد أنّ التصوير الليبراليّ المتعاظم مؤخرًا بأنّ داعش هي مسؤوليّة المسلمين، وأنّ المسلمين جميعاً مطالبون باعتذار وبتقديم صكّ براءة من هذه الجماعة الوحشيّة ما هو إلّا استمرار في تغييب المشكلة وطبعها بطابع ثقافيّ وفي تزييف السياسيّ بتحويله إلى ثقافيّ. الإشكال بالتحديد مع الفهم الليبراليّ لمسألة العنف ضدّ أقليّات هو أنّه يُثقْفن العنف، فيغدو هلامًا لا يمكن القبض عليه. فوفقًا لفهمٍ ليبراليّ كهذا، يكمن حلّ مشكلة الأقباط، ومشكلة العالم أجمع -بما أنّ داعش تهدّد عواصم أوروبيّة في وضح النهار-، في إصلاح الإسلام (الذي ستشرف عليه الدولةُ طبعًا).

إنّني لا أعتقد بأنّ داعش مهتمّة بـ «تَديين» أفعالها وممارستها، مثلما يهتمّ بذلك نقّادها والمعلّقون عليها من شتّى الأطياف الدينيّة والليبراليّة. فقد حُوججَ كثيراً بأنّ داعش لا تمثّل الإسلام، أو أنّها خروج عن التقليد، لا امتدادًا له، أو، على الجهة المقابلة، بأنّها تمثّل جوهر الإسلام الحقيقيّ الذي لا يمكن أن يُرقَّع بحججٍ إصلاحويّة يقدّمها علماء دين أو مفكّرون مسلمون (مثلما هو الحجاج العلمانيّ التقليديّ حول داعش). بيد أنّ التعامل معها في مثل هذه السياقات الدّوليّة والإقليميّة المعقّدة يجعل المرء مُستستخفاً لهذه الطروحات التي تقوم على أساس تديين الظواهر التي تدّعي كونها دينيّة، ومن ثمّ تبني تحالفاتها السياسيّة وفقًا لهذه النّظرة المُسبَقة منها كجماعة دينيّة.

وهكذا، يمضي الأمر وكأنّه بمثابة لعنة تُطارد كلّ مسلم أو مَن يحاجج بطرحٍ يخالف الطّروحات القائمة، لدرجة أنّ كثيرًا من حولنا يعتقدون، مستميتين في اعتقادهم هذا، بأنّ «إبراء الذمّة» من داعش وممارساتها هو السبيل الوحيد لإنقاذ ما تبقّى من إرث الإسلام، بحيث يغدو كلّ فعل تشنّه هذه الجماعة المجنونة حقّاً منـ«هم» وليس مـ«نّا»، في حين أنّ هذا المنطق نفسه هو الذي يدّعم ما تفعله داعش، لأنّها لا تدافع عن قطاعات من النّاس، وإنّما عن نفسها، وعن كيانها بالمقام الأوّل، كأيّ دولة قائمة حذو النّعل بالنّعل.

ولذلك، عندما يحاول أبناء المؤسّسة الدينيّة التقليديّة، أو نظراؤهم الدينيين، فضلا عن الخطاب الليبراليّ المُدبَّج (المدّجَّج) بالتسامح، بمحاججة داعش على أسسٍ دينيّة، فهم ينجرّون في معركة خاسرة، وسيرجعون صفر اليدين، ولا رابح فيها إلّا داعش. إنّني لا ألغي الأبعاد الفكريّة في تكوين الأيديولوجيّات، لكنّني أُدرك أنّ هذه الأبعاد يُعاد إنتاجها وأنّها تُسيَّق بفعل فاعلين اجتماعيين، لا سيّما في نسق أيديولوجيّ كالذي بزغت منه داعش. وبالتالي، عندما ننقل الصراع من صراع سياقيّ-اجتماعيّ-سياسيّ-اقتصاديّ إلى نقاش بلاغيّ-أفكاريّ-رمزيّ، فإنّنا نفوّت كثيرًا على أنفسنا التي تقاسمها الاستبدادان الداخليّ والخارجيّ. ولا مناصَ من تَسييس الصّراع، والإدراك بأنّ قوى الإمبرياليّة واحدة، سواء تجلّت في شقّها الطائفيّ أو الخطابيّ أو العسكريّ التدخّليّ.

بلا مواربة، إنّ المشكلة في التعامل مع داعش تتمثّل في كون داعش أذكى من خصومها، وتجرّهم لمساحاتٍ تشغلهم ولا تشغلها، وتغفلهم عن حقيقتها فعلاً. والحال أنّ هذا ليس ناجماً من وضعنا البائس فحسب، وإنّما بالأساس من غياب التفكير السياسيّ لدينا بصورة كبيرة. لا زالت جماهير من النّاس، وجزء لا يُستهان به من الخطاب الدينيّ، يَنظر إلى داعش كجماعة دينيّة، وتتمثّل مشكلتهم ببساطةٍ معها في كيفيّة فهمها للدين، ووحشيّتها باسم الدين والله، وأنّ التعصّب هو الذي ضيّعنا. إنّ داعش تعمل في السياسة، وإن تغلّفت دينيًّا، لكنّ معارضيها إلى حدّ كبير لا زالوا بُسطاء في فهمهم لها، لا يُسيّسونها، وإنّما هم ماضون في تديينها حتى أخمص قدمهم. ومع الوقت، يغدو تنظيمٌ فريد من نوعه كداعش كشبحٍ يطاردنا، كأمر غير ملموس، إنّها فكرة ربّما لدى هذه التصّورات، وفزّاعتهم الأساسيّة.

لا شكّ أن لإصلاح الإسلام في المنطقة العربيّة تاريخًا مليئًا بالرجعيّة والمحسوبيّة والإمبرياليّة، حيث رعت الولايات المتحدة وأتباعها في الداخل مسألة إصلاح الإسلام بعد أحادث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول؛ بيد أنّ لإصلاح الإسلام بعد الانتفاضات العربيّة منذ أواخر ٢٠١٠ شكلا آخر، أكثر وحشيّة، لا سيّما بعد بروز داعش إلى العالم وتهديدها لكثير من المدن العربيّة والغربيّة. فالآن، غدا إصلاح الإسلام ليس فقط سياسيًّا، بل أمنيًّا كذلك، وأصبح ترعاه الدولة، كما نرى اليوم في دولٍ كمصر والإمارات وغيرها. تبدّى ذلك، بجلاء، بعد محاولات إجهاض الربيع العربيّ في مصر مثلًا، حيث إنّ الرئيس الحالي للبلاد يحذّر دائماً الأزهر والمؤسّسات الدينيّة من خطر «التطرّف» والإرهاب وتخويف العالَم باسم الإسلام، ومن ثمّ فإنّه بدعوة من الجنرال-الرئيس دخلت المؤسّسة الأزهريّة في خطّة حثيثة لتجديد الإسلام وإصلاحه. لكنّ ما يُصلح في هذه الخطابات الأزهريّة المتحالفة مع الدولة التسلّطيّة ليس «الإسلام»، وإنّما ما يُصلح هو تخليص الإسلام من السياسة. بمعنى أنّ ما هو مناط الإصلاح هو إبراز كون الإسلام ديناً لا سياسة داخله، ومن ثمّ فإنّ حركات «الإسلام السياسيّ» هي دخيلة على الإسلام.

إنّ الطرّح الثقافويّ-الليبراليّ بسيط للغاية. يقول هذا الطّرح ببساطة: حتى وإنْ كانت المشكلة في السياسة، لكنّ الثقافة تسبق السياسة، وتشكّلها. وهكذا، فلأجل حماية الأقباط، ولأجل إرساء سياسة عموميّة ديمقراطيّة، لا بدّ من إنجاز إصلاح ثقافيّ على الموروث، الدينيّ تحديداً. فداعش، وفقًا لهذا المنظور، حصيلة ثقافيّة لا سياسيّة، وهي سليلة إرث دينيّ معيّن لا بدّ من التخلّص منه. وبالتالي، فالحرب على داعش تبدأ أولاً من الثقافة التي أنتجتها. طبعاً، إنّ الانجرار وراء حجّة كهذه يلغي في الحقيقة المطالب السياسيّة للمضطهدين في مصر عموماً، أقباطاً وغير أقباط. إذ بتحويل السياسيّ-الراهن-العمليّ إلى ثقافيّ-زمنيّ-هلاميّ، لن تجد في الأخير سوى الوضع القائم وعلى نحو أكثر بؤساً وعنفاً. وطالما كانت الدّولة وما تفعله من تدمير حقيقيّ للسياسة وللاقتصاد خارج المساءلة، فالمشكلة ستبقى قائمة أبد الدّهر.

وأخيراً، ألجُ إلى نقطة أثرتها بالبداية، ألا وهي أنسنة الضحايا. إنّ الأنسنة برأيي فعلٌ لا سياسيّ، نحن نريدُ تسييس الضحيّة، ولنحتفظ بأنسنتها لأنفسنا. ليس «التضامن مع الأقباط» في النّحيب الإنسانيّ الذي نسمعه على الشاشات، أو في الزّعيق الليبراليّ في الصّحف. فالتضامن الحقيقيّ والجدّيّ هو في تسييس الحادث، وفي مساءلة الدّولة، والقانون (الذي يُظنّ أنه خارج المعادلة)، وفي تشظية الوضع القائم والانقضاض عليه من تحالف بين الدّولة والكنيسة والأزهر. ففي مشهد ذي سيادات متنافسة، وحيث يتمّ تبرير عنف الدّولة باعتباره «عنفًا شرعيًّا» غيرَ مُساءَلٍ، سيبقى الضحايا دائمًا ضحيّةً لمَن لا نعرف.

وإذا كان الأقباط يواجهون عنفًا ماديًّا على يد الدّولة وداعش، فهم يواجهون، دون وعيٍ، عنفًا رمزيًّا منّا عندما نُأنسِن موتاهم، دون الإشارة إلى السّبب، دون تسييسهم ببساطةٍ، عندما نحوّل السياسيّ إلى ثقافيّ (من ترك الموتى ينزفون وحيدين، ونرفع لافتات «إصلاح الإسلام» الزائفة). والعنف الرّمزيّ، خطابيًّا ولسانيًّا، قد يكون استفحالا للعنف الماديّ، ومدًّا له بأسباب الاستمراريّة والدواميّة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.