زيارة بدأها رئيس الوزراء الإسرائيلي من 4 يوليو وحتى 8 يوليو 2016م إلى الدول الإفريقية المحيطة بمصر والسودان، دشّنها بزيارة خاطفة إلى أوغندا وكينيا ثم زيارة رواندا، ويختتم الزيارة بعاصمة الاتحاد الإفريقي أديس أبابا وتقديم طلب منح اسرائيل صفة المراقب في المنظمة.

لهذه الزيارات دلالات عديدة، منها أن إسرائيل نسجت خيوطها جيدا في الحديقة الخلفية للدول العربية، واستطاعت احتواء الدول الأفريقية لصالحها لأول مرة من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وكذلك أن دولة الكيان الصهيوني أقنعت الأفارقة أخيرا أنها ليست كيانا إمبرياليا استيطانيا كما كان يروج اليسار الأفريقي في الستينات بسبب دعم اسرائيل لحكومة البيض العنصرية في جنوب افريقيا، ودعم إسرائيل للأنظمة الرجعية، مثل نظام الإمبراطور الحبشي هيلاسيلاسي. فإسرائيل في العقدين الأخيرين اتجهت لتحسين صورتها في أفريقيا فقامت اسرائيل بمد يد العون للدول الأفريقية والاستثمار فيها رغم أن عوائق الاستثمار فيها كبيرة؛ بينما تخلى عن الأفارقة جيرانهم العرب ليستثمروا أموالهم في شراء أندية كرة القدم في بريطانيا وفرنسا وأسبانيا.

فالدول الإفريقية أصبحت تنظر إلى مصالحها؛ فالأفارقة الذين وقفوا مع مصر والدول العربية في حروب الستينات والسبعينات قبضوا الهواء. فدول الطوق العربي استسلمت للكيان الصهيوني في «كامب ديفيد» و «وادي عربة»، وأقرت أن إسرائيل أصبحت أمرًا واقعًا وبقية الدول العربية اتجهت بالإجماع لقبول «مبادرة السلام العربية» التي قدمها ولي العهد السعودي آنذاك، فهد بن عبد العزيز، 1982، ثم ولي عهده، عبد الله بن عبدالعزيز، 2002. وفي نفس وقت التردد العربي، وجد القادة الأفارقة أن إسرائيل تعلن استعدادها لتزويدهم في مناطق الصراعات بالسلاح رغما عن القانون الدولي، وأنها تبدي استعدادها لنقل تقنيات الإنتاج الزراعي والحيواني الحديثة مجانا للأفارقة مقابل اعتراف الدول الافريقية بالكيان الصهيوني.


ما الذي يريده نتنياهو من زيارته الإفريقية؟

1. مياه النيل

الهدف الأساسي لزيارة نتنياهو الأفريقية هو مياه النيل، حيث تصر إسرائيل على حرمان مصر من الاستفادة من هذا النهر بكل الطرق. فرغم أن الحكومة المصرية الحالية مطبِّعة مع إسرائيل وملتزمة ببنود اتفاقية كامب ديفيد؛ إلا أن الإسرائيليين على قناعة أن الشارع المصري معادٍ لهم، وأنه إذا تم تغيير هذه الحكومة أو أرادت حكومة السيسي كسب ثقة الشارع فإن أقصر الطرق لذلك يكون على حساب العلاقة مع إسرائيل، وتجربة المجلس العسكري في 2012م خير شاهد. فالجيش أثناء حكمه غازل مشاعر الشارع بعدة طرق منها إلغاء اتفاقية تصدير الغاز إلى إسرائيل، وكذلك فعل الرئيس محمد حسني مبارك عندما استدعى السفير المصري في إسرائيل أثناء انتفاضة 2000م رضوخا لضغط الشارع.

فإسرائيل تعتقد أنها عبر إقامة علاقات قوية مع دول المنبع تقوم بابتزاز النخب المصرية الحاكمة المتعاقبة بأن أي تقليص أو إلغاء للعلاقة مع اسرائيل سيكون على حساب نهر النيل. فأي اهتزاز في علاقة مصر مع إسرائيل يعني دعم الكيان الصهيوني لعملية تمويل سدود جديدة في النهر الخالد وتحويل مصر إلى صحراء جرداء.

2. تعزيز الاضطرابات في السودان

السودان هو هاجس الكيان الصهيوني الكبير بعد عراق صدام حسين الذي كان يملك النفط والزراعة. ورغم أن السودان لا يملك ثروة نفطية كبيرة غير أن موارده الطبيعية وأراضيه الزراعية وانفتاحه على 8 دول تُفشل أي محاولة لحصاره؛ وأي استقرار في السودان هو تهديد جدي للكيان الصهيوني بإمكانية وجود اكتفاء ذاتي للدول العربية من المنتوجات الزراعية. فلو أن مصر مثلا زرعت مليون أو مليونيين فدان قمحا في شمال السودان لاستغنت تمامًا عن القمح الأمريكي والكندي. وكذلك الأمر يشمل السعودية، فرغم أنها تملك موارد مالية ضخمة إلا أنها في الأمن الغذائي تقع تحت رحمة الدول الكبرى، فيمكن أن يتم الضغط عليها بآلية «النفط مقابل الغذاء» كما فعلوا مع الرئيس صدام حسين، إذا ما خرجت المملكة عن تحالفها الوثيق مع الولايات المتحدة. فوجود السودان بجانب السعودية هو تهديد حقيقي لإمكانية استخدام هذا الابتزاز لو حصل لا قدر الله، إذا تم استثمار زراعي سعودي في السودان.

الغريب في هذا التآمر الإسرائيلي على السودان أن الحكومة السودانية وافقت على «مبادرة السلام العربية» في 2002م، وشارك مبعوث رئاسي سوداني في مشاورات أنابوليس في 2007م، وأظهر وزير الخارجية السوداني مرونة في إمكانية التطبيع الأحادي معها؛ لكن إسرائيل تصر إصرارًا على تفكيك السودان وتستضيف مكاتب حركات التمرد الدرافورية، وكانت سابقا داعما خفيا لتمرد جنوب السودان، وتولّت تسليحه منذ عام 1967م عندما أعلنت الخرطوم لاءاتها الثلاث، وأيدت الرئيس الراحل عبد الناصر.

3. بيع السلاح الإسرائيلي للأفارقة

تمثل السوق الإفريقية سوقا واعدة لتجار السلاح الصهاينة. فمشاكل القارة السمراء لا تنتهي، ونزاعاتها العرقية والاثنية والدينية لا تنطفئ، ولذلك فبيع السلاح الاسرائيلي للأفارقة هو تجارة مربحة للإسرائيلين. وقد ظهر السلاح الإسرائيلي في عدد من النزاعات الإفريقية الأخيرية، منها: حرب جزيرة حنيش بين إريتريا واليمن، حيث كان للسلاح الإسرائيلي الفتاك الذي كان بحوزة القوات الإريترية دورا مهما في رجحان كفتها على القوات اليمنية. وكذلك ظهر السلاح الإسرائيلي في الحرب الأهلية الدامية في جنوب السودان منذ عام 2013م، وكان سببا رئيسيا في صمود قوات الرئيس سلفاكير أمام تمرد قوي وعنيف قاده نائبه رياك مشار واستطاع عبر السلاح الاسرائيلي إحداث توازن مع التمرد واستمرت سيطرته على المدن الرئيسية في جنوب السودان.

وكذلك كان للسلاح الإسرائيلي دور بارز في تدعيم حكومة نيجيريا لصد هجمات بوكو حرام. وكان لمكالمة هاتفية اسرائيلية بين نتنياهو والسيد غودلاك جونثان، رئيس نيجيريا السابق، هدده فيها بأإسرائيل ستمتنع عن تسليح الجيش النيجيري دور بارز في إفشال نيجيريا في مجلس الأمن لمشروع قرار يدعو للاعتراف بالدولة الفلسطينية واعتبار الوجود الإسرائيلي في أراضي 67 احتلالا. وهذا الامتناع عن التصويت من نيجيريا هو مخالفة صريحة لقرار الاتحاد الافريقي الداعم للدولة الفلسطينية .

4. طمع إسرائيل في ثروات أفريقيا

دائما ما كان القادة الأفارقة يتحدثون في قممهم المتتالية أن خير افريقيا لا تستفيد منه أفريقيا بل دول خارج القارة. فالثروات الافريقية من بترول ومعادن هي تحت سيطرة الشركات الغربية الكبرى بعقود ظالمة وشروط جزائية كبيرة. وإسرائيل عندما تستثمر فيأافريقيا تدرك أنها تستثمر في مستنقع فساد، وهذا الفساد هو الحامي الرئيسي لاستثماراتها، فعبره يحقق المستثمرون الإسرائيليون أكبر الأرباح بأقل المجهودات. و أكثر ما تحب أن تستثمر فيه دولة الكيان الصهيوني في أفريقيا هو الثروة المعدنية، وخصوصا الذهب والنحاس، وكذلك التنقيب عن الماس واليورانيوم، حيث أن استخراج هذه المعادن من أفريقيا أرخص كثيرًا من دول أخرى.

5. تقليص النفوذ الإيراني والتركي

إسرائيل اليوم تعتبر جمهورية إيران هي المنافس الإقليمي الأول لها، حيث أن النفوذ السياسي والعسكري الإيراني يحيط بالكيان الصهيوني. وإيران هي من أكثر الدول استثمارًا في أفريقيا ونزاعاتها، ومن أكثرها دعما لحكوماتها. والدول الأفريقية كانت دائما تجد الجمهورية الإسلامية حليفا لها، واستطاع النظام الإيراني كسب نفوذ في دول مثل دول القرن الافريقي، وأثيوبيا، وحتى جنوب السودان، والجزائر. وكل هذا تعتبره دولة الكيان الصهيوني مهددا لها. ولذلك، فوجود إسرائيل القوي في أفريقيا سيشكل سدا للنفوذ الإيراني، والاستثمارات المالية الايرانية لن يضاهي نفوذها سوى استثمارات إسرائيل الكبرى في أفريقيا.

والأمر ينطبق على تركيا بدرجة أقل. فرغم أن النظام التركي تصالح مع إسرائيل لأسباب اقتصادية؛ إلا أن الخلاف بين البلدين في وجهات النظر لا زال مستمرا. وتركيا هي من الدول ذات الرصيد الاستثماري الكبير في أفريقيا، ولها دور كبير في تأهيل كثير من الكوادر الافريقية في السنين الأخيرة؛ إلا أن إسرائيل غير مرتاحة للنفوذ التركي، كونها تعتقد أن هذا النفوذ هو خطر مستقبلي عليها وعلى مصالحها. فمثلا، القاعدة العسكرية التركية في الصومال، ورغم أن عدد جنود القاعدة المفترضين ليس كبيرًا (حوالي 200 جندي)، ومهمة القاعدة الأساسية هي تدريب قوات الجيش الصومالي، إلا أن وجودها في خليج عدن هو إعلان أن تركيا أصبحت تتقاسم النفوذ في هذا الممر المائي الهام؛ إضافة إلى جملة القواعد العسكرية المعلنة والسرية في القرن الافريقي الأمريكية والفرنسية والإسرائيلية والايرانية.


ما الذي يجب على الدول العربية فعله؟

للأسف الشديد، جُبل العرب على التفكير الآني واللحظي، ولا زالوا يرفضون التفكير الاستراتيجي. فالدول الشرقية والغربية تضع خططا من اليوم وتصورات لوضعها عام 2030 و 2050م، ودولنا العربية أقصى مدى لخططها هو خمس سنوات، إن تم وضع خطط من الأساس.

على الدول العربية، وخصوصا مصر والسعودية، تعزيز استثماراتها في القارة السمراء وشراء نفوذ ومواطئ قدم فيها. فمصر مثلا تستطيع القيام بأدوار كبيرة في حل أزمات وحروب القارة الإفريقية، وعليها أن تتوقف قليلا عن النظر لأحداث الهلال الخصيب وتطوراته لتتجه لقارّتها في مبادرات صلح. ولمصر في نفوس الأفارقة عظيم الأثر؛ فهم يعتبرون الحضارة الفرعونية حضارة أفريقية، ويُكِنُّون لمصر عظيم الاحترام. فتدخلات مصرية إيجابية في حل نزاعات القارة أمر يدفع لنفوذ مصري في القارة.

وكذلك على الحكومة المصرية والسعودية الاستثمار في البنية التحتية في الدول الأفريقية. فمن العجيب مثلا أن يكون لشركة أوراسكوم المصرية في مجال الاتصالات أسهم في كوريا الشمالية في حين أنها تترك قارتها أفريقيا مسرحا لشركات الاتصالات العالمية مثل فودافون البريطانية وأورانج الفرنسية.

على الدول العربية الاتجاه لتصنيع السلاح بشكل حقيقي، ومحاولة كسب نفوذ عبر بيعه للأفارقة، وإنشاء مصانع حقيقية للسلاح لا مصانع تجميع القطع المنتشرة في الدول العربية. وهذا الأمر، إذا توفرت الإرادة السياسية، ليس مكلفا من الناحية المادية. فرغم أن موارد السودان قليلة نسبيا؛ إلا أنه اتجه لتصنيع سلاحه منذ 1998م، واستطاع تحقيق اكتفاء ذاتي في السلاح الخفيف والمتوسط. ولو لم يكن محاصرًا، ربما لكان استطاع الاكتفاء ذاتيا من السلاح الثقيل. واستطاع السودان تصدير سلاحه لمناطق النزاعات؛ ففي خطاب رسمي للرئيس السوداني قال أن السلاح الذي حسم المعركة ضد القذافي هو السلاح السوداني، وأن طرابلس تم إسقاطها عبر سلاح سوداني كامل. والسعودية (بمواردها المالية) ومصر (بمواردها البشرية) قادرتان على إنتاج سلاح عربي يضاهي السلاح الإسرائيلي والتركي والإيراني، وربما يتفوق عليهم. فليس سلاح الطيران هو السلاح الوحيد المهم، وهناك أسلحة كثيرة يمكن صناعتها محليًا وتصديرها مثل مضادات الدروع والمدفعية.

هذه الأفكار، وغيرها أفضل منها يمكن أن تتوصل إليه الدول العربية، بمقدورها أن تعيد أفريقيا إلى العرب، فقط إذا توفرت الإرادة السياسية لذلك؛ فما الذي يمنعها؟!