1000 قتيل، رقم كافٍ لاعتبار الصراع الدائر بين أبناء البلد الواحد حربًا أهلية، ولا تخضع تلك الحروب إلى قواعد الاشتباك المسلح التقليدية، لاعتمادها غالبًا على أساليب مختلفة كالتفجيرات، أو استهداف رموز معينة بشخصها، والعمليات النوعية، فغالبًا ما تكون حربًا في الشوارع. فتعد تجسيدًا للشيطان الأعظم، إذ أن نتائجها في الغالب تكون تدميرية سواءً كان على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو على المستوى الحقوقي الذي يشهد انتهاكات جثيمة وقد تصل حدتها لارتكاب مجازر جماعية.


اليونان: ضحيَّة الحرب الباردة

تلعب المصالح الدولية دورًا كبيرًا في إدارة الصراع الناتج عن الحروب الأهلية، ولا يهمها النتائج الكارثية الناجمة عنها، ولكن يهمهم في المقام الأول فرض النفوذ أو قتل جموح طرف أخر يخالف أيديولوجيتها.

كانت الشرارة الأولى للحرب الأهلية في اليونان هي الخلاف السلطوي بين سلطة تسعى لاسترداد مكانتها بعد الحرب العالمية الثانية وسلطة تسعى لخلق مستقبلها. فقد نتج خلاف كبير بين الملك جورج الثاني الذي سافر إلى مصر بمجرد دخول الألمان إلى اليونان وشكَّل هناك حكومة المنفى التي اعترف بها دوليًا (ودُعمت من بريطانيا وأمريكا) في محاولة لاسترداد حُكمهِ الذي زال بالاحتلال الألماني وعلى الجانب الآخر كان الشيوعيون الذي شكَّلوا الحزب الشيوعي وجناحه العسكري «جيش التحرير الوطني اليوناني» لمقاومة الاحتلال الألماني والسيطرة على الحكم.

بدأت الحرب الأهلية في اليونان على هيئة حرب العصابات بين الفريقين، واستولى كل فريق على جزءٍ من الأراضي اليونانية، وبرغم محاولات بريطانيا تشكيل ائتلاف وطني إلا أن الفكرة لم تلقَ قبولًا لدى الشيوعيين الذين رفضوا ترك السلاح. وفي عام 1946م، أجريت انتخابات عامة فاز بها الملك جورج الثاني الأمر الذي أدى بدوره إلى تمرد شيوعي جديد وبداية المرحلة الثانية من الحرب الأهلية التي حظي فيها كل فريق بدعم خارجي. فبريطانيا قد أرسلت 40,000 مقاتل إلى اليونان بينما أقر الرئيس الأمريكي ترومان مساعدات بلغت قرابة الـ 400 مليون دولار للحكومة المركزية في اليونان وذلك لدعم الملك جورج الثاني. بينما حصل الشيوعيون على دعم كل من يوغوسلافيا وبلغاريا وألبانيا.

كان لتخوف أمريكا من سيطرة السوفيت على شرق أوروبا الفضل الأكبر في دعم الجيش النظامي في مواجهة الشيوعيين، إضافةً إلى فقد الشيوعيون دعم يوغسلافيا وبدأت انتصارات الجيش النظامي على القوات الشيوعية تتزايد بشكل أوضح، وفي عام 1948م، خسر الشيوعيون معركتهم ضد الجيش النظامي وفقدوا أهم عناصر قوتهم وبات هذا انتصارًا واضحًا للجيش النظامي. وبالتال انهزم الشيوعيون بفضل المساعدات الأمريكية للجيش النظامي.


رواندا: الحرب التي انتهت بإبادة للبشرية

في منتصف كل عام، تُحيي روندا ذكرى الإبادة الجماعية التي راح ضحيتها 800 ألف مواطن رواندي من قبيلة التوتسي. حيث نشبت حرب أهلية بين قبيلتي الهوتو والتوتسي ـ المستوطنتان في رواندا عام 1990م.

من الممكن أن تكون الحرب الأهلية صراعًا قبليًا، حيث ترى كل قبيلة أن مصلحة الدولة مقتضاها وصولها لسدة الحكم، وما يلبث الأمر كثيرًا حتى تتحول مصلحة الدولة لمصلحة قبلية يذهب تحت تروسها الآلاف بل الملايين من الضحايا.

كانت قبيلة الهوتو تسيطر على مقاليد الحكم في رواندا وكانت تعامل مواطني قبيلة التوتسي باعتبارهم عبيدًا، الأمر الذي أدى إلى إنشاء الجبهة الوطنية الرواندية من أعضاء قبيلة التوتسي في المنفى وكان لها جناح عسكري، قامت الجبهة بعدة عمليات ضد الحكومة الرواندية المدعومة من فرنسا وبلجيكا. استمرت الحرب الأهلية ثلاث سنوات من عام 1990م وحتى 1993م. وانتهت بتوقيع اتفاق بين القبيلتين في أغسطس عام 1993 بتقسيم السلطة بينهما.

وسرعان ما تم قتل الرئيس الرواندي في أبريل عام 1994م، بإسقاط طائرته وهنا بدأت الكارثة! بدأت الإبادة الجماعية. حيث قامت قبيلة الهوتو بعمليات قتل جماعي وصل عدد القتلى إلى 800 ألف من التوتسي. انتهت الإبادة الجماعية في يوليو عام 1994م، بعد أن نجحت الجبهة الوطنية الرواندية في طرد الحكومة المؤقتة ـ المؤيدة للإبادة خارج رواندا. ومن وقتها حتى اليوم الحكومة الرواندية تشكل من قبيلة التوتسي.


أفغانستان: ضحية الصراع السلطوي

بعد تحرير الدول يذهب الاحتلال ليحل محله؛ احتلال أبناء الدولة حيث يختلفوا فيما بينهم من سيحكم وطنهم؟

بعد الانسحاب السوفياتي من أفغانستان بعد أن كبّدت الفصائل الإسلامية المجاهدة الاتحاد السوفيتي خسائر فادحة تعدت الـ 40 ألفًا من الجنود السوفيات وأكثر من 40 مليون دولار إنفاق يومي، كانت الساحة مفتوحة أمام الفصائل الإسلامية للصعود نحو قمة هرم السلطة في أفغانستان، إلا أن هذا الصعود لم يستمر وكلف أفغانستان حربًا أهلية استمرت لما يقارب عشر سنوات.

اتسمت العلاقات بين الفصائل المسلحة «المجاهدين»، بعد الانسحاب السوفيتي بالعداء الشديد وكان كل فصيل يحاول إخراج الفصيل الآخر من كابُل ليحل محله.

وعبر العديد من الاغتيالات والمعارك الطاحنة بين الفصائل استطاعت طالبان أن تكثف من انتصاراتها على بقية الفصائل وعلى الحكومة في كابُل وقتلت الرئيس الأفغاني نجيب الله وأعلنت حكومتها الإسلامية واعترفت السعودية وباكستان والإمارات بها كحكومة رسمية لأفغانستان. وظلت الحرب الأهلية دائرة بين الفصائل المختلفة في أفغانستان حتى انتهت رسميًا بالغزو الأمريكي لأفغانستان ومجيء حكومة بتدخل الولايات المتحدة عام 2001م.


لبنان: ضحية الفتنة الطائفية

بدأت الحرب الأهلية اللبنانية دون أن يشعر بها اللبنانيون. ذات يوم عندما قامت محاولة اغتيال فاشلة للزعيم الماروني بيَّار الجميِّل.

فشلت محاولة الاغتيال، لكنّ الحرب قامت. من المعتاد أن الحروب الأهلية قد تحمل بذورًا سابقة على حدوثها بسنوات. فالحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1989) كانت جذورها موجودة منذ الاستعمار الفرنسي، وبداية تقسيمه للشعب اللبناني بناءً على طوائف عرقية ودينية.

بدأت الحرب الأهلية بشكل فعلي في أبريل عام 1975م، نتيجة محاولة اغتيال فاشلة قام بها مسلحون فلسطينيون للزعيم الماروني بيَّار الجميل، وكان الرد عليه من الجانب الماروني بقتل 27 فلسطينيًا في حادثة عين الرمانة.

بدأت الحرب الأهلية كحرب شوارع، حيث بدأت بمراحل الخطف العشوائي والقنص من فوق أسطح الأبنية، وتصفية المعارضين الرافضين للحرب. تلت هذه المرحلة، حرب الجبال في الجنوب التي طالت مخيمات اللاجئين الفلسطينين. الأمر الذي دفع سوريا عام 1978م، للوقوف إلى جانب الجبهة الفلسطينية خاصة بعد دخول إسرائيل في صف الجبهة اللبنانية واجتياح جنوب لبنان، وفي عام 1982م، اجتاحت القوات الإسرائيلية لبنان وحاصرت بيروت. لتقع مجزرة جديدة ويقتل ما لا يقل عن ألف مدني فلسطيني ولبناني في مخيمي صبرا وشاتيلا اللذين اقتحمتهما ميليشيات القوات اللبنانية المسيحية بتغطية من الجيش الإسرائيلي.

وفي محاولة لإنهاء الحرب في لبنان حاولت القوى الغربية إرسال قوات متعددة الجنسيات لإنهاء الأزمة إلا أنها انسحبت جراء مقتل أفرادها على أيدي الانتحاريين. وانطوت هذه الصفحة مخلفةً نتائج خطيرة منها التهجير والفرز الديني. وقد قُدّر عدد الضحايا بـ 150 ألف قتيل و 300 ألف جريح، و 17 ألف مفقود. وهجّر بسببها أكثر من مليون نسمة في بلد كان عدد سكانه ثلاثة ملايين، ونزح نحو 600 ألف شخص من 189 بلدة وقرية مسيحية وإسلامية، أي ما يعادل 21.8% من مجموع السكان.


فنلندا: حرب الشتاء الأحمر

بدأت الحرب الأهلية بلبنان دون أن يشعر بها أبناء الوطن حيث بدأت كحرب شوارع وسرعان ما أصبحت فتنة طائفية يعاني منها المجتمع إلى الآن.

بدأت الحرب الأهلية في فنلندا بتأسيس ميليشيات خاصة من البرجوازيين وأطلق عليهم مجموعات الحماية، والذين عرفوا بالبيض وعلى الجانب الآخر ميليشيات اليسار وأطلق عليها الحرس الأحمر، والذين عرفوا بالحمر. مما هيأ الأجواء إلى اندلاع حربٍ أهلية في عام 1918م، تقاتلت فيها مليشيات الطرفين. وقد زادت حدة تأزم الموقف التدخلات الخارجية من الروس والألمان. حيث كان لروسيا نحو 70 ألف عسكري متواجدين في الأراضي الفنلندية. وقدمت ألمانيا دعمًا لفريق البيض، الذي رأى في الحرب الأهلية حرب ترسيخ استقلال فنلندا.

الحرب الأهلية في فنلندا كانت صراع أيديولوجي بين اليسار والبرجوازيين وأنتهت بما يقرب 30 ألف قتيل.

انتصر في نهاية المطاف فريق البيض، وتم التنكيل بالحمر، إذ لقى نحو 12 ألف منهم حتفهم في معسكرات الاعتقال بسبب الأمراض وسوء التغذية. وتركت هذه الحرب بصماتها على المجتمع الفنلندي.

انتهت الحرب في شهر مايو عام 1918م، بعد أن راح ضحيتها ما يقرب من 30 ألف قتيل. ولم يُسمح للمهزومين بالمشاركة في البرلمان الفنلندي، الذي اختار للبلاد الحكم الملكي، وبهذا أصبحت فنلندا مملكة، وتم اختيار أمير مقاطعة هيسين الألمانية «Friedrich Karl» في أكتوبر 1918م، ولكنه بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى لم يوافق على المجيء إلى فنلندا.

إثر ذلك صادق البرلمان الفنلندي في شهر يوليو على تشكيل نظام جمهوري، لرئيسه سلطات واسعة. وكان أول رئيس لفنلندا «K. J. Ståhlberg»، الذي بدأ في إزالة انقسامات المجتمع التي خلفتها الحرب، ومن الإجراءات التي اتخذها إصدار عفوٍ عامٍ عن مسجوني الحرب الأهلية.

وفي 4 أكتوبر 1920م، تم توقيع اتفاقية سلام في مدينة تارتو الاستونية، ما بين فنلندا والاتحاد السوفيتي. وبموجب هذه الاتفاقية تم التأكيد على الحدود ما بين البلدين، إذ تم تعديلها وتبادَلَ الطرفان مناطق فيما بينهما. حيث أعطيت لفنلندا مناطق جديدة من بينها «Petsamo» في شمال شرق فنلندا. وبعد اتفاقية تارتو دخلت فنلندا في نزاع مع السويد حول جزر أرخبيل اولاند. وفي النهاية حسمت عصبة الأمم، الأمر لصالح فنلندا.

لا يتمنى شعب أن يخوض تجربة الحرب الأهلية، لما تشمله من خراب ودمار للأهل والأحبه، كما تفتك بالوطن. إلا أن الواقع الأليم يوضح أن تلك الحروب تبدأ في غياب الوعي الجمعي للشعوب؛ فالصراع على السلطة واحتكارها من قبل طرف واحد دون إشراك الأطراف السياسية الأخرى؛ يُنبئ بصراع دائم وينذر بحرب أهلية تأخذ مجراها بين أبناء الوطن الواحد دون علمهم. فحينما يتواجد الصراع السياسي الشرس وما يعقبه من احتكار للسلطة ناتجة عن تمييز ديني أو عرقي، تكون الحرب الأهلية احتمالا قويا ومنطقيا.