تنشأ العلوم الإنسانية في سياقات اجتماعية وسياسية خاصة بها ومعرفة هذه السياقات تحمي الدارس من مغالطة الربط غير الدقيق عند دراسة المجتمعات الأخرى ومقارنتها. كثيرًا ما تغيب هذه الفكرة عن بال الكثير من الدراسين الذين يحاولون دراسة المجتمعات الأخرى بتجاهل العديد من السياقات الخاصة بها.

وهكذا، فقد نشأت النظريات الاجتماعية في العالم الغربي في سياق تاريخي معين، مثلت الإشكالية الدينية فيها عاملا مهمًا. فقد تطوَّر الفكر الغربي حاملا جذوره التي نمى منها وتغلغل فيها، فلا ينفصل الفكر الغربي الحديث عن جذور الميثولوجيا اليونانية أو الفلسفة الإغريقية القديمة.

كما أنه لا ينفصل أيضًا عن جذوره المسيحية الكاثوليكية التي لعبت دورًا مهمًا في وصول الفكر الغربي إلى ما هو عليه اليوم. لذلك فإن المتأمل في الفكر الغربي الحديث، مثلا، قلما يجد فكرة لا جذور لها في المسيحية، سواء توافقت الفكرة مع جذرها المسيحي أو نتجت كردة فعل عنه.

نشأت النظريات الاجتماعية في العالم الغربي في سياق تاريخي مثلت الإشكالية الدينية فيه عاملا مهما.

فنجد على سبيل المثال ليلة رأس السنة الميلادية كنسخة معلمنة من عيد الميلاد «الكريسمس». ونسمع مقولة ’’Happy Holidays‘‘ وهي النسخة المعلمنة للتهنئة المسيحية ’’Merry Christmas‘‘ أو إطلاق العبارة ’’Oh my goodness‘‘ بدلا عن ’’Oh my god‘‘.

تطول الأمثلة، لكن الثابت في كل ذلك أن الأفكار التي وصل لها الغرب اليوم هي نتاج سلسلة طويلة من الأفكار المرتبطة بالجذور المسيحية غير مفصولة عنها.

شكّل انتقال الثقافة الغربية إلى العالم الإسلامي نشوءَ تيارات متأثرة بالغرب متبنية لمواقفه. واجهت هذه التيارات تحديًا نظرًا لعدم انسجامها مع الواقع الجديد، ولا أقصد بالانسجام هنا موافقة المجتمع لهذه الأفكار، حيث أن انسجام الفكرة في مجتمع ما هو نتيجة لصدورها من داخل النظام التداولي لهذا المجمتع، كتعبيرٍ محلي عن إشكاليات المجال التداولي ذاته. فحتى يتناغم الفكر مع محيط ما، لا بد من استيعاب الجذور والتداعيات المتصلة بكليهما.

استَخدمت التيارات المتأثرة بالفكر الغربي الحديث ذات الأدوات التي نقد الغرب بها أفكاره الدينية من دون مراعاة لخصوصية المجتمع والدين. فقد صار ينظر للعلماء المسلمين كمقابل لباباوات الكنيسة، وصار ينظر للمؤسسات الإسلامية كنظير للكنائس، وللدولة الإسلامية كدولة ثيوقراطية.

لم يتوقف تأثير النظرة الغربية في العالم الإسلامي على من تبنى الفكر الغربي الحديث فحسب، بل تعدى ذلك إلى من تبنى فكرًا إسلاميًا وناهض الفكرَ الغربيّ. فمما وقع فيه أبناء التيارات الإسلامية أن استنسخوا أدوات الدفاع ذاتها التي استعملتها التيارات الدينية الغربية والتي لا تنتمي أيضا للمجال التداولي في العالم الإسلامي. سارت الجدلية الفكرية بهذا الخط حتى تكوَّن تياران فكريان تأثروا بالنظرة الغربية وإن ادّعى أحدهما أنه يعمل لمعارضة الأفكار الغربية.


الديني والمدني

من أهم الثنائيات التي وفدت إلى العالم الإسلامي ثنائية المدنية والدينية. نشأت فكرة المدنية في الفلسفة السياسية الغربية حيث بدأت مع ميكافيلي ثم تكونت مهلاً على يد توماس هوبز مؤسس الفلسفة السياسية الحديثة. أسست أفكار هوبز في العقد الاجتماعي للدولة المدنية إطاراً نظرياً للفلسفة السياسية، والتي تمثلت في الخروج من الحالة الطبيعية للإنسان إلى الحالة المدنية التي تنظم له الإطار الأخلاقي.

لم تكن أفكار هوبز مفصولة عن تاريخها الفكري الغربي بل قامت على فكرة مسيحية خالصة وهي فكرة «العقد المزدوج» التوراتية التي تبناها بعض علماء اللاهوت المسيحي في القرن الخامس عشر. تقوم فكرة العقد المزدوج على المزاوجة بين عقد الفرد والإله وعقد الفرد والحاكم. ما فعله هوبز بفكرة العقد التوراتية هو علمنتها وإخراج البعد اللاهوتي منها، وبدلا من سيطرة الدين على العقد صارت الدولة هي المسيطرة على الدين.

وأما الفكرة الرئيسية الأخرى ذات الجذور المسيحية فهي فكرة السلطة المطلقة للدولة والذي يتضح من خلال قراءة هوبز أن الدولة هي البديل المعلمن للدين والذي يجب أن يحتل السيادة المطلقة التي حازها الدين قبل ذلك.

في المجال الإسلامي لا يوجد رجال دين، فلا يتطلب الزواج إلا رجلا من أبناء المجتمع يحمل قلما ليكتب العقد ويشهِد اثنين من أبناء المجتمع عليه

إن الحداثة التي جاءت إلى العالم الإسلامي جاءت بجذورها المسيحية التي لا تنفك عنها، كل جدل بين الديني والمدني في المجال الأوروبي يجب أن يخصص في كونه «كنسيّ» حيث أن مفهوم «الكنسيّ» يشير إلى المفهوم الديني المسيحي الأوروبي، وذلك بدلا من أن يؤخذ الدين بالمعنى العام كأي معتقد يتبناه المتدين. التخصيص مهم جداً ويتجنب حدوث مقابلات غير دقيقة بين أديان مختلفة.

لم تنحصر ثنائية المدني والديني في الدولة، فحين قدمت فكرة رجل الدين إلى المجال التداولي الإسلامي، قـُوبل رجل الكنيسة بالمفتي أو الإمام رغم غرابة هذه المقابلة وعدم اتساقها مع المجال الإسلامي الذي لا يرى فرقا بين الخواص والعوام إلا في العلم.

فالأنبياء مثلاً – حسب التعاليم الإسلامية- رجال لا يختلفون عن مجتمعاتهم في اللباس أو الطبقة الاجتماعية، محمد عليه الصلاة والسلام كان يزاول المهن التي يزاولها الناس، فرعى الغنم، واشترك في تجارة على سبيل المثال.

أما رجل الدين في المفهوم المسيحي الكاثوليكي ليس رجلا مدنيًا، فرجل الدين «رجل الكنيسة» في المفهوم الغربي هو جزء من طبقية هرمية متعددة تنتهي ببابا الكنيسة الكاثوليكية، كما أنها تتميز بنمط وطابع حياة مختلف عن حياة الناس.

كذلك ظلت فكرة الحجاب الإسلامي توهم الغرب الأوروبي الذي ما زال بعضهم يصر على أنه «رمز ديني» قياسًا على لباس الراهبات، والحقيقة أن الحجاب لباس لأهل المجتمع لا يرتبط بمكانة دينية محددة أو رمز معين أو لفئة دون أخرى.

أما الزواج الذي صار يقسم في الغرب بين زواج ديني «كنسيّ» وآخر مدني فقد ألقى بظلاله أيضا على العالم الإسلامي الذي بدأ يتحدث عن زواجٍ ديني إسلامي مقابل زواج مدنيّ.

والناظر في مفهوم الزواج الديني في الغرب يجد جذوره في الكنيسة، فهو زواج يتم في «المؤسسة» المسؤولة عنه بموافقة رجال الدين «الكنيسة» الذين يقرون هذا الزواج أو يرفضونه.

أما في المجال الإسلامي فلا يوجد رجال دين أو كنيسة أو ما يقابله، فلا يتطلب الزواجُ إلا رجلا من أبناء المجتمع يحمل قلما ليكتب العقد ويُشهِد اثنين من أبناء المجتمع بموافقة الأطراف.

أما الآن فنتيجةً للتأثر بالغرب استلزم الناس وجود «مأذونٍ» يعفي اللحية ويرتدي العمامة ليقوم بعقد الزواج، وقد لا يخيل للمسلم المعاصر أن يستبدل هذا المأذون برجل لا يحمل هذه الصفات «الدينية!».

إن الفصل بين الفكر الإسلامي الأصيل وبين الفكر الذي تأثرنا به من المسيحية مع دخول الحداثة مسألة مهمة، ففكرة الديني والمدني هي فكرة نشأت في الغرب في سياق ديني وثقافي خاص به، ونقل هذه الثنائيات كما هي إلى واقع مختلفٍ لا يقدم حلولا لمشاكل العالم الإسلامي، وإنما يفعل مشكلات جديدة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.