مدينة الصلاة
لا يوجد حدث يستحق الكلام عنه هذا الأسبوع أكثر مما يحدث في القدس، وهي الجرح الدامي المزمن في الجسد العربي، لكني أعتبر أن أخطر الفترات وأكثرها حرجًا وتوترًا هي الفترة الحالية، ومن الغريب أن الآراء انقسمت وحدث جدل على الإنترنت لأول مرة بصدد مشروعية الكفاح الفلسطيني. سوف أطلب منك أن تسمح لي بإعادة تلخيص مقال قديم لي يتحدث عن القصة كلها، وأرجو فقط أن تتخيل أغنية فيروز (لأجلك يا مدينة الصلاة) في الخلفية أثناء القراءة .. يمكنك كذلك أن تتخيل أغنية عبد الوهاب الجميلة «أصبح عندي الآن بندقية» من كلمات نزار قباني والتي غنتها أم كلثوم كذلك. وقتها كان عمر القضية عشرين عامًا فقط، عشرين عامًا يبحث فيها عن أرض وعن هوية، صحيح أن 69 عامًا تكسر وزن الأبيات لكنها الحقيقة القاسية!
تاريخ القدس والمسجد الأقصى تاريخ طويل يمثل أعنف درجة صراع بين دينين. محاولات لا تنتهي من إسرائيل لهدم الحرم ودخوله وتدنيسه.
يذكر محمد حسنين هيكل أن الإسرائيليين عندما دخلوا القدس في عام 1967 هرع أحد الحاخامات إلى القائد الإسرائيلي يقول له: «هذا هو الوقت المناسب كي تضع تحت قبة الصخرة عدة أطنان من الديناميت وتزيلها نهائيًا». قال القائد الإسرائيلي إنه لا يتحمل عواقب هذا. قال الحاخام في جنون: ومن الذي يمكن أن يعترض طريقنا اليوم؟.
قال القائد الإسرائيلي: هناك دول إسلامية صديقة مثل تركيا وإيران وباكستان (وقتها) وبالتأكيد يهمنا ألا نخسرها.
عندها انصرف الحاخام وهو يبعثر لعناته مؤكدًا أن القائد أضاع فرصته لصنع التاريخ، لكن العقلية الإسرائيلية لم تتخلّ عن هذا الحلم.
في 21 أغسطس/آب عام 1969 حدث حريق مروع في المسجد الأقصى، في الجناح الشرقي للجامع القبْلي الموجود في الجهة الجنوبية. الفاعل هو سائح من أصل أسترالي اسمه «دنيس مايكل روهان» زعمت التحقيقات الإسرائيلية أنه مخبول، ومصاب بمتلازمة القدس النفسية التي تجعل كثيرين يريدون تدمير المسجد الأقصى لبناء الهيكل، وقد تم ترحيله لأستراليا بعد التحقيقات، لكن غضبة العالم العربي كانت مخيفة فعلاً وقتها أيام كانت الغضبات حقيقية.
الهجمة أدت لحرق منبر صلاح الدين ومحراب زكريا ومسجد عمر… إلخ. حتى لو كان روهان مخبولاً، فلا شك أن إسرائيل عطلت عمليات الإطفاء عمدًا وقطعت المياه عن مكان الحرم. لعبة التواريخ الساخرة تظهر هنا بوضوح، فهذا اليوم هو يوم مذبحة الغوطة في سوريا عندما ضرب بشار شعبه بالغازات عام 2013، وفي نفس اليوم تمت تبرئة مبارك!.
تتعدد حوادث الاقتحام بعد هذا لكن أبرزها اقتحام شارون للمسجد في 28 سبتمبر/أيلول عام 2000، ليُلوّث أقدس مقدسات المسلمين، ويقول في نفس الوقت إن اسرائيل يمكنها أن تعيش بسلام مع الفلسطينيين.
القدس لدى اليهود هي عاصمة مسيح الخلاص الآتي من نسل داوود. وفي كتاب (الأجاداة) القصصي الشفوي في التّلمود: «سيأتي اليهود إِلى القدس وسيأخذونها، وستمتلئ حدودها بالثروة». وفي تفسير التوراة صوّرت الكابالا (أورشليم) وكأنها المكان الذي سيفيض بالخير من السماء، ومنها يوزع على بقية العالم.
هدم المسجد الأقصى جزء لا يتجزأ من العقيدة الصهيونية. لن يعود المسيح لمعركة (هرمجدون) في نهاية الزمن إلا بهدم المسجد الأقصى وإقامة هيكل سليمان. وبالطبع نعرف أن لهذه العقيدة أتباعًا مخلصين من مسيحيي الولايات المتحدة البروتستانت المتعصبين وذوي الأعناق الحمراء ممن يسمونهم Jesus freaks. دعك من تاريخ طويل من الحفريات والأنفاق حتى صارت الأرض تحت المسجد أشبه ببيت نمل. على كل حال اتفقت معظم هذه المنظمات على هدم كل مساجد القدس مرة واحدة ساعة صلاة الجمعة على سبيل الإبادة كذلك.
عادل حمودة كتب مقالاً مهمًا عن هذا في التسعينيات، وكان ذلك بسبب ظهور البقرة الحمراء المقدسة ميلودي في الجليل، والتي قامت مجموعة حاخامات بزيارتها في كفار حسيديم، وقد باركوها واعتبروها مقدسة وأن الحين قد حان، وهذا يتزامن مع نهاية الألفية الثالثة للقدس عند اليهود. المفترض أن هذه البقرة ستحرق، وقد أعدوا ثياب الكهنة والسكاكين وكل شيء، ثم يتطهرون برمادها قبل دخول الهيكل، فهم يؤمنون أنهم نجسون ولا شيء يطهرهم سوى رماد البقرة ضمن طقوس معقدة شبه وثنية، ثم يتم توزيع رماد البقرة في زجاجات على كل يهود العالم! لا أعرف كيف تكفي البقرة كل هذه الملايين.
لحسن حظنا اكتشف الحاخام (شمار ياشوف) صاحب الذمة والضمير أن هناك بقعًا سوداء في جلد البقرة، وقد أخرج عدسة مكبرة ولاطف البقرة وفحص ذيلها فوجد بعض الشعيرات البيضاء، أما عن الأهداب فقد لاحظ أنها تبدأ حمراء وتنتهي سوداء. هذا أفسد دقة العملية، وهم شعب معروف بالتقوى ولا يقبل أنصاف الحلول. هكذا تم تأجيل العملية إلى حين، وقيل إنهم يحاولون بالهندسة الوراثية الوصول إلى بقرة متجانسة في مزرعة بالمسيسبي.
إقامة كنيس الخراب هي اللمسة الأخيرة هنا، وهو مشروع تتبناه الحكومة الإسرائيلية ماليًا ومعنويًا. هذا أكبر كنيس يهودي يقام على بعد أمتار من المسجد الأقصى وحسب نبوءة حاخام يهودي من القرن الثامن عشر، تقضي بأن يقام كنيس الخراب يوم 16 مارس/آذار عام 2010. لم تسمح الحكومة الإسرائيلية بإقامة الكنيس فوق المسجد الأقصى، وإن سمحت بإقامته فوق مسجد آخر وفوق بيوت حارة فلسطينية قديمة، على أن يكون أعلى وأشمخ من قبة الصخرة.
في كل مرة تغضب الشعوب العربية وتعم المظاهرات، لكن من الواضح أن المواطن المصري الذي خنقته الأنظمة الدكتاتورية وصعوبة العيش لم يعد قادرًا على مجرد الاحتجاج، ولو خرجت مظاهرات فلسوف تقمعها عصا الأمن الغليظة بكل سهولة. لهذا عندما نرى ما يحدث في القدس ندرك حقيقة مروعة هي أن السدادة الوحيدة التي تعوق إسرائيل عن هدم الأقصى، وتشعرها أن الأمر ليس مزحة، هي فلسطينيو الداخل. لو انصرف هؤلاء فلسوف تهدم إسرائيل المسجد في نفس اليوم. هناك سدادة أخرى واهية هي العلمانيون الإسرائيليون الذين يؤمنون بأن الهيكل خرافة، ولعبة الجينات هي التي تتحكم في لون البقرة!.
يكفي أن ترى الآراء على فيسبوك لتدرك أن الفلسطينيين وحدهم تمامًا، بل هناك كثيرون يلومونهم على ترويع المستوطنين الأبرياء.
لو نفذ الإسرائيليون حلمهم ستكون هناك مليون عريضة على البريد الإلكتروني؛ إدانة شديدة اللهجة من الرئيس الأمريكي والاتحاد الأوروبي واليونسكو بسبب هدم معلم أثري مهم، سوف يكتب الشعراء قصائد ممتازة جدًا عن المسجد الأقصى الذي كان لنا، ولسوف يبكي الجميع وهم يتناولون العشاء أمام التلفزيون، وتعلق ملصقات تقول: «أين أنت يا صلاح الدين؟»، ثم لا شيء.
سوف ينقشع الغبار وينصرف الناس لطوابير الخبز وأنابيب البوتاجاز، ومتابعة مباريات الكرة. هل يوجد عندك سيناريو آخر؟ هذا هو ما سيحدث بالضبط بلا زيادة ولا نقصان، لقد تعب المواطن العربي واستنزفته هموم الحياة، فلم يعد يبالي بشيء ما دام حيًا. الفلسطينيون وحيدون تمامًا هذه المرة.
لم تهزمنا إسرائيل بهذه الأساطير، ولكنها هزمتنا بالديمقراطية والعلم والتقدم. ومنذ عام 1968 قال الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين إنه لا سبيل لهزيمة اسرائيل إلا بتضييق الفجوة الحضارية بيننا وبينها، وهو ما لم نفعله قط. وما زالت الأنظمة العربية تضرب شعوبها وتقتلها أعنف بكثير مما تفعله إسرائيل مع أعدائها.
في النهاية أتذكر أبيات الشاعر مظفر النواب الرائعة القاسية: