محتوى مترجم
المصدر
politico magazine
التاريخ
2016/09/03
الكاتب

السؤال الخدعة غالبا ما يتضمن الإجابة على نفسه، وأفضل الأسئلة الخدعة تطلق سلسلة من الأسئلة المترتبة عليها وإجاباتها. والسؤال الذي يفرض نفسه علينا اليوم هو: كيف ولماذا يبدو أن الإسلام السياسي قد فشل أينما جرب في العالم المعاصر؟ هل هنالك تعارض أساسي بينه وبين الحداثة؟

هدف الإسلام السياسي ليس فقط غير متوافق مع الحداثة ولكنه أيضا يقاومها ويهدمها ويستبدلها في كل صدد.

شيء من قبيل ذلك السؤال قد سئل أثناء الحرب الباردة عن الماركسية الشيوعية، وعادة ما كان الجواب: «لأنه لم يتم تجربتها بعد»، وهذا الجواب ذاته قد ينطبق أيضا على «الإسلام السياسي» أو الإسلاموية، ولكن بعد ذلك يؤدي إلى سؤال أبعد: ما هو الإسلام السياسي؟ والإجابة على ذلك سوف تكون بالتاكيد أن داعش، والتي ظهرت في منتصف عام 2014، هي الإسلام السياسي. وقد أعلن وزير الخارجية الأمريكية جون كيري أنه (حرفيا لا مكان لهمجيتهم في العالم الحديث). ويردنا ذلك إلي السؤال: ما هي الحداثة؟

وكل ذلك يقودنا إلى السؤال الأكثر إثارة للجميع: قد يكون من الجائز أن الإسلام السياسي يتعارض مع الحداثة، ولكن ماذا لو كانت الحداثة هي التي تفشل في العالم اليوم في حين أن الإسلام السياسي هو الذي ينجح؟

كل ذلك لا يشبه الوضع كما في سؤال القرون الوسطي حيث (الملائكة ترقص على رأس الدبوس) كما قد يبدو للوهلة الأولى. الإجابة على السؤال الأساسي حول توافق الإسلام السياسي مع الحداثة هي أن هدف الإسلام السياسي ليس فقط غير متوافق مع الحداثة ولكنه أيضا يقاومها ويهدمها ويستبدلها في كل صدد.

وعلي الرغم من السمات المتعددة للعالم المعاصر، يمكن تلخيصها كسلسلة من الحركات الفكرية والإنجازات المؤسسية والأفكار الراسخة، والتي شكلت ببطء النظام الدولي المتعارف عليه والمعمول به، عبر امتداد الثلاثة أو أربعة قرون الماضية: مثل مصطلح عصر النهضة (الهيومانيزم) الذي يعنى بالإنسان خاصة، فإنه بمثابة «دراسة حقيقية للجنس البشري»، وحركة الإصلاح الديني التي فتحت مجالا كبيرا للممارسات العامة بعيدا عن السيطرة الدينية، ومعاهدة ويستفاليا 1648 التي خططت نظام الدولة العالمي الرسمي والمتاح لكل الدول بغض النظر عن أي شكل سياسي معين يحكمها، والأمم المتحدة حيث أنها «المنظمة العالمية للدول الأعضاء فيها» وشبكة من الجمعيات والمؤسسات العالمية، وفكرة الديموقراطية أو عملية بناء الديموقراطية كما أنشأها الفيلسوف كانط في القرن الـ18، والتي أدخلت في فترة ما بعد الحرب الباردة، نظام الدولة العالمي كإضافة رسمية تنفيذية معتمدة في قرارات مجلس الأمن الدولي.


الإسلام السياسي والعداء للحداثة

إن سرد تلك الخصائص للنظام الدولي هو فقط لشرح لماذا يعتبره الإسلام السياسي غير ملائم. يمكن الإسهاب في الأسباب ولكن ثلاثة عوامل رئيسية استشهدوا بها مرارا وتكرارا في بياناتهم:

الأول: هو أن مفهوم الدولة في حد ذاته مختلف مع آراء الإسلامين، كما قال أحد المقاتلين في قوى داعش، عندما سئل: ماذا كان هدف جيشه؟ فقال: «إننا معارضون للدول».

الثاني: أن الديموقراطية يمكن أن تفسر بمفاهيم الإسلاميين على أنها مقت للإيمان حيث أنها تتطلب التشريع باسم الشعب صاحب السيادة، بينما يجب أن يلتزم الإسلاميون بقانون الشريعة وحدها.

والثالث: هو أن الفكرة الأساسية لكل سمات الحداثة هي التعددية، والتنوع مرغوب بينما الإسلام أحادي العقيدة، يتطلب الوحدانية في كل شيء.

ويمكن أن تضاف إلى تلك الاختلافات نتائج تقرير التنمية البشرية العربي التابع للأمم المتحدة عام 2012، الذي وصف المجتمعات العربية بالفاشلة في تلبية المعايير الحديثة لحقوق الإنسان، واكتساب وتبادل المعرفة، والحريات للمرأة. لذلك بأخذ كل ما مضى معا، فالإسلام السياسي يقف في تعارض صارخ لنظام العالم الحديث القائم.

وقد أضعفت ظاهرتان في العقود الاخيرة وضع النظام الدولي. يحكم كل نظام عربي إسلامي منطقته كدولة، وتم قبولهم كدول شرعية من قبل الأمم المتحدة والدبلوماسية الدولية. ولكن طوال الوقت، تفشل الأنظمة الحاكمة لتلك الدول، مثل الممالك الوراثية أوالمجالس العسكرية أو الاستبدادية ذات الحزب الواحد، في الاستجابة لاحتياجات شعوبهم وتطلعاتها، وهو الواقع الذي أنتج الربيع العربي عام 2011؛ والذي سريعا ما سحق من قبل الأنظمة القديمة أو تم استبدالها من قبل القوى الإسلامية المتطرفة فكريا. وكله يؤدي لمقولة هوبز «حرب الكل ضد الكل» والتي تجتاح المنطقة الآن. ولذلك فإن نظام الدولة العالمي الحديث بالكاد باق على قيد الحياة عبر هذه الرقعة من العالم.

وبما أن الشرق الأوسط قد أتى الآن إلى نقطة تحول؛ فإما أن يثبت نفسه في إطار نظام الدولة الحديث أو أن يسقط من النظام الدولي القائم ويصبح معاديا له. فالنظام الدولي نفسه قد تدهور بشدة عبر العقود القليلة الماضية. فقد أحدثت الحرب الباردة ضرارا كبيرا به، ضررا لم يتم إصلاحه لأنه فريد من نوعه في تاريخ الحروب الحديثة الكبرى، ولم يتم عمل أي تسوية ما بعد الحرب من قبل الجانب الناجي. ثم أصبحت التسعينيات وقتا للايمان بـ(عوائد السلام)، متضمنة أن النظام الدولي يمكن أن يتحمل الوقت لعمل (الصيانة المرجأة) والإنفاقات الكبيرة علي تقوية نفسه.

وعلى أي حال، فقد بدأ مثقفو الغرب في التصريح بأن لبنات بناء النظام من الدولة والسيادة والدفاع وما إلى ذلك هي مفاهيم عفا عليها الزمن. وقد أعاد الاتحاد الأوروبي تعريف نفسه على أنه من يعادي النظام الدولي ولكن بشكل مسالم، منتزعا قوى السيادة من الدول ومنحها لشيء ليس بالواضح أبدا. فالاتحاد الأوروبي اليوم ليس بالدولة ولا الإمبراطورية وقد جرّد نفسه من الكثير من نفوذه الدولي. ولم توحي الرسالة الأمريكية الأخيرة للعالم بأن الولايات المتحدة ستكون مرتاحة بالتراجع عن قيادة العالم من أجل القيام «ببناء الأمة في الداخل» -وهي واحدة من العبارات المفضلة للرئيس باراك أوباما. العالم ليس بلا قيادة وحسب بل أيضا بلا دفة؛ فإن اتجاه خطابات أروقة الكريملين وصفحات الصحف الاستراتيجية في بكين، قد أظهر أن نظام الدولة العالمي، والذي من الممكن أن يعود إلى عام 1648 والذي كان معادلا للعصر الحديث نفسه، يقترب من نهايته. وتتحرك روسيا والصين أحيانا بشكل سافر وأحيانا خطوة بخطوة للإعداد للنظام العالمي الجديد القادم، الذي سيكون عالما للقوى الكبرى دون التقيد بالقيود العالمية التي يفرضها النظام المعاصر. باختصار إننا ما زلنا في النموذج الذي بدا زمنه في الغياب، ولكن يبدو أننا لا نعرف ذلك أو أننا لا نكترث له.

وقد أظهرت الولايات المتحدة نفسها على أنها غير قادرة سياسيا علي التعامل مع التحدي الذي فرضه عليها الإسلام السياسي وما يجب القيام به لمواجهته. إن الدول المنتمية لنظام الدولة العالمي بما في ذلك دول منطقة الشرق الأوسط، هي كيانات عمودية والتي يأتي أكبر تهديد لها عبر التاريخ الحديث من الأيديولوجيات الأفقية القادرة علي تعبئة جماهير الشعب بأسباب للقتال تتعدي الولاء للدولة؛ وكانت الشيوعية كذلك وأيضا الإسلاموية. فكل واحدة منهما هي عقيدة شاملة تماما ترفض الدولة القومية ككيان أساسي في الشؤون العالمية وتهدف إلى استبدالها بمقاس واحد يناسب الجميع؛ نموذج حكم عالمي من القمة للقاعدة.


انهيار الدولة القومية

وفشلت الاستراتيجيات الامريكية منذ الحادي عشر من سبتمبر في فهم حقيقة أن «مكافحة الارهاب» أو «الحرب على الارهاب» يمكنها فقط أن تحاول مواجهة التكتيك الحربي وليس أيديولوجية؛ (مقاومة التمردات) من الممكن أن تدعم الدول المضطربة ولكن تم التخلي عن ذلك من قبل الولايات المتحدة قريبا على أساس «أننا لا نقوم ببناء الامة». وكان ظهور داعش تقدما مفاجئا للحركة (الأفقية) حيث أنه جيش يمكنه أخذ المناطق والسيطرة عليها. والولايات المتحدة في الوقت الحاضر لا تملك تفويضا لاستخدام قوة عسكرية وتعي هذه الحقيقة. ولذلك عندما دعا الرئيس أوباما لعمل عسكري امريكي لحل وتدمير داعش، استطاع فقط استخدام كلمة «الإرهاب» لوصف التحدي المواجه. وها هي الحالة حيث فسر الاستراتيجيون، من كونفوشيوس إلى ثيوسيديدز إلى مكيافيلي، أن الأفعال لا يمكن أن تكون ناجحة عندما «تفقد الكلمات معناها» وعلاقتها بما يجب القيام به.

في ذات الوقت، أعلن مفكرو ما بعد الحرب الباردة، في مجالس ومقاهي وقاعات الجامعات في الغرب، أن الدولة شيء عفا عليه الزمن وأن السيادة لا صلة لها بالموضوع، لنستقبل عهدا جديدا -لنشاط سياسي غير حكومي للدبلوماسية دون الحاجة للقوة- من القضايا العالمية التي تتجاوز المصالح الوطنية ضيقة الأفق. ومثّل الاتحاد الأوروبي صورة مصغرة لهذه التطلعات، فقد شرعت في خلع علم الدولة من على صاري السفن الوطنية للدولة، وجمعت السلطات البيروقراطية في كيان فوق وطني والذي كان وما يزال غير معرف. إن كلمة (حديث) في صميمها تبدو غير دقيقة، فهي تفسح المجال لفترة من الوقت أو (ما بعد الحداثة)، والتي بعد ذلك بدورها تخرج من إطار الزمن، تاركة الزمن الذي نعيشه دون شيء غير (المعاصر) ليصف زماننا ومعناه.

وكثير من الوضع الحالي يمكن تلخيصه بقرار الأمم المتحدة مؤخرا بالاعتراف بـكوبا كاسترو ذات الحكومة الاستبدادية. إن نظام الدولة العالمي، والباديء منذ معاهدة ويستفاليا، يحدد عددا صغيرا من المتطلبات الإجرائية يجب أن تمتلكها الدولة لتوقع لتكون عضوا لا غبار عليه في النظام. وأيا كان الشكل السياسي الذي تختاره الدولة لحكمها الداخلي، فهو لا يعني مديرو النظام. جعلت الولايات المتحدة ومسار الحروب الكبرى في القرن العشرين علي نحو متزايد، متعقبة فكر كانط وتوكفيل. الوضع أن الديموقراطية لم تكن فقط واحدا من الأشكال السياسية المتعددة للحكم حول العالم، ولكن كانت في حد ذاتها إجراء ضروريا.

ومع ذلك، ففي السنوات اللاحقة، تسببت النزعات السياسية للمفكرين والمشاكل المتعددة التي واجهتها الدول الديموقراطية والحروب الأمريكية في مطلع القرن الواحد والعشرين في إعادة التقييم. وقد تراجع فيما بعد فرانسيس فوكوياما الفيلسوف السياسي الذي أعلن (نهاية التاريخ) بعد نهاية الحرب الباردة -بمعنى أنه قد تم أخيرا الاعتراف بالديموقراطية بوصفها أفضل شكل من أشكال الحكم- عن موقفه. وقد دخلت الصين، والتي دائما كانت على مضض من نظام ويستفاليا، القرن الجديد بنموذجها (النموذج الصيني): اقتصاد مفتوح ونظام سياسي مغلق. وتتبعتها الدول الاستبدادية أو الديكتاتورية في هذا الاتجاه. وقد أعطى كل ذلك الحزب الكوبي الشيوعي، وإلا لكان يمشي على الحبال، حياة جديدة وثقة. ويرى النظام الكوبي نفسه متتبعا للنموذج الصينيـ والذي يمضي منذ فترة طويلة، بعد أن أكمل كل الآليات اللازمة في جمع كل دولار قادم لكوبا لنفسه بينما يقوم بالدفع للشعب الكوبي بالبيزات.


الصين وروسيا: نماذج ضد الديموقراطية

الشيوعية والإسلاموية كلاهما عقيدة شاملة ترفض الدولة القومية وتهدف إلى استبدالها بمقاس واحد يناسب الجميع؛ نموذج حكم عالمي من القمة للقاعدة.
لذا فالعصر الحديث والحداثة نفسها في طريقها لينظر إليها باعتبارها فترة من الفترات الزمنية علي التسلسل التاريخي للأزمنة

وهكذا كان للولايات المتحدة الاختيار من السناريوهات: إما السيناريو الوردي الشعبي، والذي بحسبه، سيمحو أي تغيير في السياسة الامريكية الفيداليين القدامى كاقتصاد سياحي رأسمالي مزدهر ليدخل الجزيرة عصر الحداثة؛ أو أن يشاهد الحزب الشيوعي الكوبي يستخدم التغير في سياسة الولايات المتحدة للحفاظ على ما قد تم عمله. فالآن فقط وأكثر من أي وقت مضى، يقوم بشفط الدولارات الامريكية لمسؤلي الحزب وكوادره. لذلك غيّر الرئيس أوباما السياسة. الشيء الذي أعتبره نصرا لسياسة الولايات المتحدة. ولكن ها هو كيكر يعلن بارتياح أن ذلك سيمكن كوبا من تتبع النموذج الصيني. ولكن كما رأينا، تعارض روسيا والصين ودولتاهما ذات كتلة الحزب الواحد، على نحو متزايد، فكرة الديموقراطية باعتبارها أفضل (إجراء) بالنسبة لنظام الدول، وبدأوا في وضع أنفسهم في النظام العالمي المقبل، والذي لن يكون إجرائيا أو شرعيا عالميا، بل هرميا تهيمن عليه القوة والذي من المرجح أن لا يبقى (عالما حرا) على الإطلاق.

لذا فالعصر الحديث والحداثة نفسها في طريقها لينظر إليها باعتبارها فترة من الفترات الزمنية علي التسلسل التاريخي للأزمنة والتي تقاس بطفرات وفشل المواضيع الثقافية والأساليب المنهجية وكيانات أخلاقية وفكرية رائدة. عند صياغتها من وجهة نظر نظرية كون حول بناء الثورات العلمية، من الممكن أن يكون (الباراديم/النموذج) العالمي على مقربة من نقطة قفز إلى طريقة مختلفة تماما من عرض وفهم العالم. وإذا كان الأمر كذلك، فالإسلام السياسي والإسلاميون الآن على مقربة من فترة من التاريخ، على الاقل منذ القرن السابع الميلادي، حيث يمكن أن يعيش (التوافق) مع العصر الذي يعيشه: نعني (الشرق الأوسط العظيم) كما كان يسمى في افتتاحية القرن الواحد والعشرين، حيث سيكون الجو العام المؤثر عليه، مكرسا لسقوط الكيانات ذات الحكم الغير إسلامي.

كذلك تراجع حكام العالم الحديث متنازلين عن العرش أو فقط فقدوا الاهتمام بالأمر، فحديثا بدأت قوى مفعمة بالطاقة بالدفع قدما. فكل من روسيا والصين يرى ويتحدث بشكل علني إلى حد ما عن النموذج القادم والذي يأخذ شكل ما قبل الحداثة؛ عالم (مجال للسلطة) تحدد ملامحه نماذج الهيمنة، حيث تصبح آسيا نطاقا لهيمنة بكين، وأوروبا الشرقية وجنوب آسيا الوسطى تحت سيطرة موسكو، وسوف يلقي صلب الحداثة وعقيدة (مساواة الدول) جانبا. فقد كان تصريح جون كيري عن تواجد داعش «لا مكان لهم في العالم الحديث» غافلا عن أن العالم الحديث نفسه قد يكون اقترب من نهايته. فإن التاريخ لم يقرر سلفا المضي دائما في اتجاه تقدمي أفضل من الذي سبقه. وإذا لم يتم عكس المسار الحالي للأحداث والأفكار، فسوف يتخلى العصر القادم عن فرضيات مثل التجارة المفتوحة والتعبير الحر والحكومة المثالية بموافقة من المحكومين. والإسلام السياسي سوف يكون مرتاحا مع نفسه أخيرا.