الخسارات الكبرى لا يصاحبها ضجيج، تمر الأيام ولا تمر، ويبقى الحزن بداخلنا ليأكل كل ما سواه، ليبقى الإنسان خاويًا إلا من نظرة تمثل نافذة على الموت الذي يسكنه. الخسارات الكبرى لا يصاحبها بكاء ولا شجارات ولا محاولات لتحليل كل ما كان يمكن أن يحدث لو اختلفت أفعالنا. الخسارات الكبرى لا يصاحبها سوى الصمت.

ولسخرية القدر وجد «كايسي أفليك» الممثل وصانع السينما الذى اعتاد أن يكون خاسرًا، فرصته الأهم لكي يكون في صدارة الفائزين حينما جسّد حكاية تدور عن الخسارات الكبرى وما تفعله بنا. كايسي الذي ربما لم يتعرف كثيرون على اسمه قبل دوره في «Manchester By The Sea» ولكنهم بالتأكيد كانوا على دراية بلقبه «أفليك» الذي يتشاركه مع شقيقه النجم الهوليودي الشهير والفائز بجائزتي أوسكار «بين أفليك». كايسي الذي كانوا يلقبونه «أفليك الآخر»، أفليك الآخر شقيق «بين»، وصديق «مات ديمون» النجم الهوليودي الذي يتسابق المنتجون لصنع أفلامه، «أفليك الآخر» الزوج السابق لـ«سمر فينيكس» الممثلة الجميلة والموهوبة وشقيقة الممثل الموهوب «خواكين فينيكس». «أفليك الآخر» الذي عرفه الجميع قبل هذا العام بصفته الخاسر الذي يحيط به الكثير من الفائزين.

«أفليك الآخر» الذي عاد أخيرًا ليثبت أنه ممثل وصانع سينما من طينة الكبار، وليثبت أنك يمكنك أن تصبح فائزًا بواسطة أشد الحكايات بؤسًا. «أفليك الآخر» الذي انتزع جائزتي «البافتا» و«الجولدن جلوب» ويقف الآن في صدارة مرشحي جائزة الأوسكار في فئة أفضل ممثل رئيسي.


في دائرة الضوء قبل عشر سنين

منذ عشر سنوات تقريبًا تنبأ الجميع بأن كاسي أفليك قادم. حدث هذا حين شهد عام 2007 ترشحه لجائزة الأوسكار في فئة أفضل ممثل مساعد وذلك عن فيلم «The Assassination of Jesse James». في نفس العام تسابق النقاد للحديث عنه عقب دوره في فيلم «Gone Baby Gone» الذي أخرجه شقيقه «بن» وشارك في كتابته أيضًا.يقول كايسي عن هذا في حوار أجراه مع مجلة Variety في نهاية العام الماضي:

ما لم يستطع كايسي أن ينساه هو ما حدث بعد هذين الدورين حينما قرر في عام 2010 أن يقوم بإخراج فيلم وثائقي تدور أحداثه عن حكاية ملفقة عن ترك خواكين فينكس للتمثيل واتجاهه لموسيقى الراب، الفيلم كان بعنوان I’m still Here. الفيلم الذي يتذكره البعض الآن –إذا تذكروه- بظهور خواكين المثير للحرج في لقاء تليفزيوني مع المذيع الأمريكي «ديفيد ليترمان» وهو يهمم بكلام غير مفهوم، بلحية غير متناسقة ونظارة شمسية داخل الإستديو.

لم يفشل الفيلم فقط ولكنه تسبب في أزمة يعاني منها كايسي حتى اليوم، فبعد عرضه قامت «أماندا وايت» التي كانت أحد منتجي الفيلم، ومدير التصوير «ماجدلينا جوركا» برفع دعوتين قضائيتين ضد كايسي يتهمانه فيها بالتحرش الجنسي.

أنكر كايسي كافة هذه الادعاءات وهدد بمقاضاتهم. لم يعرف الناس في البداية إذا كانت هذه القضايا حقيقية أم ملفقة أيضًا مثل باقي أحداث الفيلم وما دار حوله، فالفيلم تكوّن من مجموعة أحداث ملفقة عن حياة خواكين صنعها كايسي، منها على سبيل المثال مشهد ظهر فيه خواكين وهو يتعاطى الكوكايين من على جسد عارضة عارية، تم الإعلان لاحقًا أن هذا المشهد ملفق وأن المادة المستخدمة لم تكن حقيقية.

انتهت الدعابة السيئة الملفقة التى صنعها كايسي إذًا بقضايا تحرش حقيقية، مرت القضايا ومر الفيلم ولكن كل هذا أدى إلى التشويش على كل ما فعله كايسي قبل ذلك، خصوصًا حينما كان في لحظة صعوده.


الصديق والشقيق هما من ينقذان الطريق

استغرق الأمر ست سنوات أخرى ليقوم مات ديمون بدوره تجاه كايسي ويتخلى له -لحسن الحظ- عن دوره في Manchester By The Sea الذي كان من المفترض أن يخرجه أيضًا. ليقدم ديمون جواز مرور كايسي لدائرة الضوء من جديد بعد عشر سنوات منذ جواز المرور الأول الذي قدمه «بن» لشقيقه حينما اختاره لبطولة Gone Baby Gone.

تخلى ديمون في البداية عن فكرة إخراج الفيلم نتيجة لارتباطه بأعمال أخرى، وتم تكليف المخرج صاحب الخلفية المسرحية «كينيث لونرجان» بهذه المهمة، وبعد ذلك قرر ديمون أن يتخلى عن بطولة الفيلم أيضًا ولكنه اشترط أن يذهب الدور لشخص واحد فقط هو كايسي أفليلك. يقول ديمون:

لقد علمت أنه قادر على تأديته بشكل لا يجعلني أندم على تركه، إنه واحد من أعظم الممثلين الذين رأيتهم في حياتي.

لم يمر الأمر ببساطة بعد ذلك، فالشركات المنتجة التي كانت ستنفق ما يزيد عن المائة مليون دولار على فيلم من بطولة مات ديمون لم تكن على استعداد للمغامرة مع كايسي أفليك. تعثّر المشروع في البداية إلى أن قرأت «كيمبرلي ستيوارت» ابنة الملياردير ديفيد ستيورات، النص الحواري المكتوب بواسطة كينيث لونرجان وتأثرت به وقررت إنتاج الفيلم بميزانية محدودة لم تتخطّ الثمانية ملايين دولار.

تدرب كاسي كثيرًا واشترك بملاحظات على الشخصيات أثناء صنع الفيلم مع لونرجان، حفظ السطور التي تعبر عن حكاية «لي»، الرجل الذي يملك ماضيًا حزينًا ويتورط فجأة في رعاية ابن شقيقه. تلبّس كاسي روح لي وكأنه بطل مسرحي. قدم لنا أداء لا ينسى عبّر فيه عن الحزن الذي كان يتسرب في الوقفات والنظرات قبل الكلمات. خرج الجميع من دار العرض وهم يمدحونه والدموع في أعينهم.

اقرأ أيضًا:Manchester By The Sea: حين يأسرنا الماضي الأليم

عاد كايسي هكذا إذًا إلى دائرة الضوء. الفتى الذي تربى في مدينة كامبريدج بواسطة أب وأم من الطبقة العاملة، الفتى الذي انتقل إلى لوس أنجلوس بمجرد بلوغه الثمانية عشر ربيعًا ليعيش برفقة شقيقه بن، ومات ديمون. ثلاث شباب صغار رفضوا أن يسقط أحدهم إلى الهاوية وظلا يساعدانه لسنين حتى نجا من سقوط مدوٍّ.


الخاسر في انتظار الفوز

لقد أخبروني حينها أن الأمور ستتغير، وأنني سوف أحظى بالمزيد من الفرص، ولم تأتِ هذه الفرص أبدًا. لقد شعرت أنني كلما أديت دورًا يظن الناس إنه جيد، ولكنه على الأرجح أفضل ما يمكن أن يصنعه. لقد واظبت على طرق الأبواب ثم ركلها، وأخبرني الناس الآن سيفتح لك ملايين الأبواب، ولكن هذا لم يحدث. أبلغ الآن 41 عامًا، ولقد مرت أعوام كثيرة من الطرق والركل.

اليوم يظهر كايسي بشعر كثيف ولحية طويلة وهو يتنقل ليحضر العروض الخاصة بفيلمه Manchester By The Sea، يتلقى تصفيقًا ومديحًا أينما حل، يقف الجميع لتحيته وانتزاع الإجابات منه بعد أن كان يشكو دومًا أنه يذهب للمطاعم فإما لا يلقي له الناس بالاً، أو يزعجوه بأسئلة عن شقيقه وزوجته وصديقه وباقي المشاهير الذين يملؤون حياته. واليوم يتراهن غالبية محبي السينما أن الخاسر سيكون في انتظار فوز مضمون في حفل الأوسكار الأحد القادم.

قد يأتي الفوز وقد تحدث المفاجأة ولا يأتي ولكن الأكيد هو أن كايسي أفليك يبدو اليوم في سن الواحد والأربعين، بهذه اللحية وهذا المظهر الغامض كفنان مخضرم يبحث عن الأدوار الصعبة والأعمال الفنية الرفيعة كما لو كان على وشك الاعتزال. فنان يعترف بأخطاء الماضي ويحتضن خساراته الكبيرة السابقة ولا يتنصل منها.

للحكاية إذًا جوانب كثيرة، فقد يكون بن أفليك، ومات ديمون اثنين من أكثر الممثلين المبالغ في تقديرهم في عالم هوليوود ولكنهما على جانب آخر رجلان وفيان يتمنى المرء شقيقًا وصديقًا يشبهانهم. وقد يكون لكايسي أخطاء وسقطات في حياته الشخصية، ولكننا تعلمنا أن نفصل الفن عن صانعيه، فكم من فنان أضاع حياته الشخصية وأنقذ حيوات أخرى كثيرة بفنه.