فالرئيس جيمي كارتر كان يجد سهولة في التفاوض مع الرئيس أنور السادات أثناء مفاوضات كامب ديفيد، بينما يجد صعوبة كبرى في الاتفاق مع رئيس الوزراء مناحم بيغن، الذي كان يردد: «استحالة اتخاذ أي قرار في هذه المسألة إلا بعد أن أعود إلى مجلس الوزراء، والحزب، والكنيست». أما السادات فرجل محظوظ،إذ يمكنه أخذ قراره بعد نفخات قليلة من غليونه.

أمين حامد هويدي، وزير الحربية ومدير المخابرات الأسبق، الفرص الضائعة، ص22

هذا عنوان حالنا وحال العدو بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول ٧٣، ولنا مقال آخر في تحديد نتيجة المعركة، من نصر أو هزيمة. وإذا كنا هنا بصدد تقييم معاهدة «كامب ديفيد» في ذكراها، فيجب أن نضع في الاعتبار مُتخذي القرار، ونظام الحكم، والدول الراعية، والظروف المحيطة، التي أدت لتلك المأساة. كما أن تقييمها بعيدًا عن النظر في تاريخ الحروب السابقة، يعتبر نوعًا من التسطيح.


آلية صناعة القرار

نحن نُجري الآن حوارًا منطقيًا مجردًا، تظهر منه أجوبة نعرفها مسبقًا بشكل تلقائي؛ تُرى أيهما أصح وأنفع لمصلحة الدولة؟ نظام ديموقراطي يتشاور فيه السياسيون لاتخاذ القرار؟ أم فرد واحد يتخذ ما شاء من قرارات، وأيضًا دون مساءلة؟ أيهما أصح وأنفع؟ الديمقراطية أم الانقلابات العسكرية؟ أي البلدين ازدهر بعد كامب ديفيد؟

هناك الكثير ممن عارض اتفاقية كامب ديفيد داخل إسرائيل، وعارض مجرد فكرة الانسحاب من سيناء، ودون أن يُسجنوا، أو يقتلوا، أو يُقالوا من مناصبهم

يمكننا إذن بشكل عام مبسط أن نحكم على هذه الاتفاقية أنها في صالح الجانب الإسرائيلي بناءً على هذه الأجوبة.

إسرائيل دولة ديموقراطية، وهذه المعاهدة تمثلها إلى حد بعيد، ومصر دولة عسكرية محكومة بالجيش من أوائل الخمسينيات، وحاكمها يفعل ما يخطر بذهنه كل صباح. هل تعلم عزيزي القارئ أن هناك الكثير ممن عارض اتفاقية كامب ديفيد داخل إسرائيل، وعارض مجرد فكرة الانسحاب من سيناء، ودون أن يُسجنوا، أو يقتلوا، أو يُقالوا من مناصبهم؟!

والآن نقتبس من أقوال صانع القرار المصري في الاتفاقية، الرئيس السادات، متحدثًا داخل الكنيست الإسرائيلي (20 نوفمبر/تشرين الثاني 1977م). يقول السادات: «وإنني ألتمس العذر لكل من استقبل قراري عندما أعلنته للعالم كله أمام مجلس الشعب المصري، بالدهشة، بل الذهول. بل إن البعض قد صورت له المفاجأة العنيفة أن قراري ليس أكثر من مناورة كلامية للاستهلاك أمام الرأي العام العالمي، بل وصفه بعض آخر بأنه تكتيك سياسي، لكي أخفي به نواياي في شنّ حرب جديدة».

ويقول أيضًا: «إنني ألتمس العذر لكل من أذهله القرار، أو تشكك في سلامة النوايا وراء إعلان القرار. فلم يكن أحد يتصور أن رئيس أكبر دولة عربية تتحمل العبء الأكبر والمسؤولية الأولى في قضية الحرب والسلام في منطقة الشرق الأوسط، يمكن أن يعرض قراره بالاستعداد للذهاب إلى أرض الخصم. ونحن لا نزال في حالة حرب».

الرجل يعترف لنا بكل صراحة أنه اتخذ القرار وحده تماما، لم يستشر أحدًا، ووضعه موضع التنفيذ الفوري، بل إنه أيضًا يقدر دهشتنا ويلتمس لها العذر، وكأنه نبي يأتيه الوحي من السماء بالأمور الصائبة ونحن فقط لا ندركها؛ فيجب علينا إذن التصديق والسمع والطاعة فقط.

أي البلدين ازدهر وتحسنت أحواله بعد المعاهدة؟ ورغم وضوح الجواب، إلا أننا قد نُفصل فيه بعض النقاط إيضاحًا لكي نصل إلى إجابة للسؤال الأهم، هل كانت هناك طرق بديلة عن السلام مع إسرائيل بهذا الشكل؟


العداء القديم

لقد خاضت مصر ضد إسرائيل خمسة حروب متتالية (حرب ٤٨، العدوان الثلاثي عام ٥٦، نكسة ٦٧، حرب الاستنزاف، حرب أكتوبر ٧٣)، لم ننتصر في أي حرب منها انتصارًا حاسمًا، بينما انتصر العدو تمامًا في ثلاثة حروب هم ٤٨ و ٥٦ والنكسة. على الرغم من اعتبار ميزان القوى العسكري في تلك الحروب كان في صالحنا، وأعني هنا الجانب المصري فقط وليس العرب مجتمعين.

كذلك ظلت مصر أثناء العدوان الثلاثي أقوى عسكريًا من العدو حديث الولادة، ولكن كانت لهذه الحرب ظروف سياسية مختلفة عن غيرها، وإن كانت من الناحية العسكرية هزيمة واضحة لمصر.

ولا شك، فقد تعاظمت قوة إسرائيل العسكرية في حرب ٦٧، ولكن ليس للحد الذي يجعلها متفوقة على الجيش المصري، ولا أبدًا للحد الذي يجعلها تخوض حربًا ضد ثلاث دول عربية مجتمعة، وتحطمها جميعًا في نفس الوقت، بل وتدمر 80% من قواتها المسلحة. نعم كان الغباء والطفولة السياسية والعسكرية من جانبنا، وحسن تخطيط وتنفيذ العدو، هما السببان الرئيسيان فيما حدث وقتها؛ وهنا نستطيع الجزم بأنه لو كانت لدينا قيادة فقط معقولة، وحاربت بشكل عادي غير متميز على الإطلاق، لأمكننا هزيمة إسرائيل في ٦٧، وبسهولة.

يقول «إيجال آلون»، نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، ووزير الخارجية الإسرائيلية بعد حرب أكتوبر، في كتابه «بناء الجيش الإسرائيلي»:

لم تكن حرب الأيام الستة حربا بين جيشين وأمتين، بل كانت صدامًا بين نظامين اجتماعيين وسياسيين متصارعين، كانت مواجهة ديموقراطية سياسية اجتماعية مع ديكتاتورية عسكرية تمارس حكمها السياسي التعسفي على مجتمع متخلف على نحو يدعو إلى الشفقة؛ وأحرزت الديموقراطية النصر.

الاستراتيجية الإسرائيلية

ذكرنا في مقال سابق أن الاستراتيجية الإسرائيلية لم تكن السيطرة على كل هذا الكم من الأراضي العربية دفعة واحدة؛ دعك من الكلام الهالك عن أن دولتهم يريدونها من النيل إلى الفرات، بالطبع هذه أحلامهم وأكثر، وهذه طباع كل الدول الاستعمارية، لكن الأحلام شيء والواقع شيء آخر تمامًا.

فإسرائيل دولة ذكية تعلم أن السيطرة على كل هذه المساحة من الأرض خطر كبير؛ وتكلفة باهظة في الحفاظ عليها حتى مع استنزاف واستخراج كل مواردها، ولك أن تنظر في الخريطة، وتلقى نظرة على حجم دولة إسرائيل بعد ٦٧، لتدرك صعوبة وكُلفة احتلال كل هذه الأراضي، حيث أن تعداد الإسرائيليين وقتها قُرابة ثلاثة ملايين نسمة فقط؛ ازدادت ميزانية الدفاع، وصرفت الملايين على التحصينات، وخطوط الدفاع، والطرق، والمواصلات….إلخ.

مخطئ أيضًا من يظن أن الإسرائيليين مثل التتار، يريدون إبادة العرب جميعًا. الاستراتيجية الإسرائيلية تريد تركيع العرب فقط وإبادة المقاومين منهم ليكونوا خدمًا وعبيدًا، هم لم يُبيدوا كل الفلسطينيين بل تركوهم للقيام بالمهام الحقيرة في البلاد، ولذلك لا تستعجب أن إسرائيل أُجبرت على خوض تلك الحرب، وأننا من أشعلها دون تخطيط.

ولا تتساءل بسذاجة إذا كانت إسرائيل لا تريد كل هذه الأرض فلماذا لم تُعدها طواعية؟ بالفعل كانت هناك محاولات مع عبد الناصر لإرجاع الأرض مقابل أي سلام واعتراف بإسرائيل كدولة، فإسرائيل كأي عدو مستعمر لا يفهم إلّا لغة القوة، «لقد دفعتمونا دفعًا لهذه الحرب، وهي مكلفة، ونحن لن نعطيكم شيئًا بالمجان»، هذه هي لغة القوة، فلماذا لا نفهمها نحن؟

عُقدت بعد حرب 67 القمة العربية بالخرطوم، وخرجت بما سُمي باللاءات الثلاثة «لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف بالعدو الإسرائيلي». لم يكن أحد يرى أو يتخيل طريقًا غير الحرب للتعامل مع المحتل، فإذا كانت إسرائيل لا تريد إبادة العرب بل تركيعهم فقط، فالعرب والمسلمون يحلمون بإبادة إسرائيل تمامًا ومحوها من الوجود، ولا زال هذا ساريًا إلى الآن على مستوى الشعوب. فإذا كانت الحرب أكيدة ولا ريب، فلماذا يريد حكامنا إجبارنا على سلام شامل دائم لن يحدث!


الاستراتيجية المصرية

كان السادات يريد عشرة سنتيمترات من سيناء ليقوم بالمفاوضات، في حين كانت النظرة العسكرية لاسترجاع الأرض هي تحريرها على عدة مراحل منفصلة لعدم وجود قدرات عسكرية لتحريرها كلها دفعة واحد. ولكن تذكر دائما وأبدا أنه كانت «لدينا القدرة العسكرية التي تجعلنا نجبره [العدو] على الانسحاب، أو تحريرها على ثلاث مراحل» وهذه تحديدًا كانت فلسفة خطة حرب أكتوبر المرحلية.

أما الأفضل، فكان الجمع بين النظرة السياسية والعسكرية، على اعتبار ذلك أكثر واقعية؛ أن تخدم «القوة العسكرية» الأغراض السياسية المطلوبة من استرجاع الأرض كلها، وبسيادة كاملة، وشروط صلح أو سلام نفرضها نحن كجانب منتصر لا مستسلم، في حين أن ما فعله السادات كان العكس من ذلك. لقد جعل السادات سياسته الغير طموحة تخدع القوة العسكرية لتحقيق أهداف شخصية له فقط، وقد يحتاج ذلك لتوضيح.

يُخطئ من يظن أن السادات كان شجاعًا في قرار الحرب، وأنه كان القرار الجريء الذي اتخذه دون غيره وما إلى ذلك. فالحقيقة أن حكم دولة يوليو/تموز كلها كان على المحك، وأضحى الشعب المصري يتململ من وضع الجيش في الحكم مع الهزيمة، واستولى الثأر على شعور المصريين، عسكريين ومدنيين، ولم تستطع القوات المسلحة أن تفرض سيطرتها على الشعب، وهي مهزومة مدحورة. وعلى الجانب الأخر، لم تكن للسادات سلطة مطلقة قوية كعبد الناصر، ولذلك كان يعلم أنه لابد أن يتخذ قرار الحرب وإلا تآمر عليه الجيش بحجة أنه لا يريد خوضها، وهي أهم وأكبر مطلب في الشارع، أو ربما تفاقم الأمر لخروج الناس في ثورة شاملة طلبا للحرب ضد إسرائيل.

هل أدركنا إذن الهُوة العميقة بين شعب وقادة جيش يريدون استعادة أرضهم، وبين حاكم يحارب فقط لتثبيت عرشه ولا يتخيل أن قواته المسلحة تستطيع أن تحصل على أكثر من عشرة سنتيمترات من سيناء بالقوة؟!

لقد كانت حرب أكتوبر مفاجأة مدوية للسادات نفسه قبل إسرائيل، فلم يتوقع تدمير خط بارليف بهذه السرعة، ولا أن تُحقق المعركة هذا النجاح المبهر، ولهذا تغير السادات وقتها، لقد أصيب بجنون العظمة في لحظتها؛ إذ كيف لرجل كان يطلب من قواته المسلحة الاستيلاء على عشرة سنتيمترات بالحرب ليستكملها بالمفاوضات، فتأتيه بخمسة عشر كيلو متر كاملة من سيناء على امتداد خط القناة، محققة انتصارًا مهولًا أبهر العالم كله رغم التفوق العسكري الإسرائيلي الكاسح، أن يرفض طلب العدو بوقف إطلاق النار وهو على قمة انتصاره، ويقبله بعد أن يُحاصَر نصف جيشه؟!

نعم حدث هذا بالفعل. لقد حققت القوات المسلحة المصرية في حرب أكتوبر أهدافها بالكامل في يومين، وأثبتت صمودها، وإصرارها، وقدرتها على الحفاظ عليها في نهاية اليوم الثالث. ففي صباح يوم الثامن من أكتوبر كانت قد سقطت آخر حصون خط بارليف المنيع، وفي نفس اليوم تمكنت من صد الهجوم المضاد الإسرائيلي، ووجدت إسرائيل نفسها في موقف مهزوم لا تحسد عليه؛ خسرت خط بارليف بالكامل، ولا تستطيع اختراق الدفاعات المصرية، بل وطالبت بوقف إطلاق النيران يوم تسعة أكتوبر، ورفضه السادات من شدة زهوه وانبهاره بالنصر، وقد كان ذلك أول الخيارات المتاحة للسلام مع إسرائيل بشروط مقبولة، وتضامن عربي، وسيادة كاملة على الأرض.

يتسبب في الثغرة فيضيع كل أوراق الضغط على العدو سياسيًا. نعم، أخطاء السادات وحدها هي المسئولة عن كل القرارات الانهزامية التي اتخذها في حق الوطن أمام إسرائيل، ثم يأتي من يدافع عن كامب ديفيد ويقول: ما البديل؟

البديل يا عزيزي ببساطة هو توازن القوى لا أكثر، أنا لا أقول لك أن البديل هو حرب مطلقة، ودمار شامل إلى الأبد، ولكنه يكون هدنه مؤقتة، لا نعترف فيها للعدو بأحقيته في أراضينا.

البديل هو هدنة قد تصل لخمسين عامًا أو أكثر، ولكن بشروط المنتصر، شروط لا تجعلنا أصدقاء، ولكن كجولة الراحة بين المتصارعين، يعلم كل منهما أن الجولة الأخيرة قادمة لا محالة.

البديل كان الاكتفاء بما حققناه في معركة العبور من الأرض، وفرض شروط هدنة للتحضير لمعركة أخرى لاستعادة بقيتها، أو التهديد بالحرب لإجبار العدو على الانسحاب.

البديل كان الحفاظ على وحدة الشيء الوحيد الذي اتفق عليه العرب وقتها، وهو محاربة إسرائيل. نعرف أن الحكام العرب أنانيون، ومتصارعون، وكل منهم يحاول الحفاظ على ملكه وفقط، ولكن حين تطلع على مذكرات قادة حرب أكتوبر، تعرف مقدار المشاركة العربية فيها بالسلاح والمال. حالة حرب أكتوبر كانت مفاجأة في التضامن العربي الواسع. كان باستطاعة مصر أن تظل زعيمة العرب إذا تمسكت بالخيار العسكري المقاوم.


خيار كامب ديفيد

لقد كانت حرب أكتوبر مفاجأة مدوية للسادات نفسه قبل إسرائيل، فلم يتوقع تدمير خط بارليف بهذه السرعة، ولا أن تُحقق المعركة هذا النجاح المبهر

في المقابل، كان اختيار كامب ديفيد هو ما جعلنا نغض الطرف عن اجتياح لبنان، وجعلنا عاجزين عن دعم المقاومة الفلسطينية، وجعلنا نسجن سليمان خاطر وأيمن حسن وغيرهم لقيامهم بواجبهم الوطني.

وبينما تثقل إسرائيل خبرتها العسكرية بخوضها الحروب ضد الشعوب العربية؛ يثقل الجيش المصري خبراته بصناعة المكرونة، وإقامة قاعات الأفراح، والسيطرة على اقتصاد البلاد، ويتقاعد أبطاله دون توريث خبراتهم القتالية مع العدو للضباط الأصاغر.

جعلتنا كامب ديفيد نعتبر أن الحروب انتهت، ولم نقيم أخطاءنا في الثغرة والحروب السابقة، في حين أقام العدو لجان تحقيق ومحاسبة للقادة المسئولين؛ وانتهي بنا الحال لدفن كل المعلومات الحقيقية حتى أصبح الباحثون يعتمدون على الروايات الإسرائيلية.

قمنا بتهميش أبطال الحرب، بدءًا من رئيس الأركان، وقادة الجيوش، والأفرع الرئيسية، وحتى عبد العاطي صائد الدبابات؛ في حين مات شارون بطلًا مبجلًا في إسرائيل.

لم يعد العدو الأكبر لإسرائيل موجودًا؛ لذا خفضت ميزانية الدفاع، وزاد إنفاق البحث العلمي، والتصنيع، والتجارة، وغيرها، ولا أظننا في حاجة لمقارنة هذا الوضع مع الصناعة، والتجارة، والبحث العلمي في مصر التي استبدلت مكانتها كزعيمة للعرب بتبعيتها لصغار الدول.

في الأصل كان العداء، فارتكب عبد الناصر وعبد الحكيم عامر حماقة عسكرية منقطعة النظير، تسببت في خسارة سيناء، وجاء السادات فارتكب حماقة سياسية منقطعة النظير أيضا تسببت في خسارتنا ما هو أهم من الأرض. وكامب ديفيد لا تفعل أكثر من ضمان استمرار هذه الخسارة. أما آن الأوان إذن أن نفكر جديًا في الخيار العسكري؟ أو على الأقل في خيار السلام المؤقت العادل الذي يمثل الشعوب لا الأفراد!